جمال خاشقجي ومحمد بن سلمان: تكسب الدولة ويخسر الصحافي
في الثاني من أكتوبر/ تشرين الأول الماضي قُتل الصحافي السعودي جمال خاشقجي أثناء تواجده داخل القنصلية السعودية في مدينة اسطنبول التركية. العملية الاستخباراتية السعودية الفاشلة لا تزال تحت التحقيق لدى السلطات التركية والسعودية، رغم ذلك؛ أعلنت السلطات السعودية رسميًا مقتل الصحافي جمال خاشقجي، أقالت عددًا كبيرًا من قادة جهاز الاستخبارات العامة وأحالتهم للتحقيق فيما تواجه الرياض انتقادات سياسية دولية واسعة، وهجوماً إعلامياً هو الأعنف منذ أحداث 11 سبتمبر/ أيلول 2001م.
لا يعرف حتى الآن ما إذا كان مقتل جمال خاشقجي قد كان خطأً عمليّاتياً في الخطة السعودية بهدف إعادته إلى الرياض، أم أن الفريق السعودي قدم إلى اسطنبول أساساً بهدف تصفيته. وأياً يكن؛ تسببت هذه الحادثة وستتسبب في خسائر سياسية واقتصادية فادحة للرياض، خصوصاً فيما يتعلق ودعاوى الانفتاح الاجتماعي والسياسي ومشروع التحديث الاقتصادي في الدولة، بعد تولي الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز آل سعود ولاية العهد منتصف 2017م.
شهدت الأيام الأولى للأزمة التي لا تزال تفاعلاتها نشطة توقعات ومراهنات واسعة النطاق في اتجاه تغيير كبير داخل الأسرة الحاكمة السعودية، يقتضي هذا التغيير إزاحة الأمير محمد بن سلمان عن منصب ولاية العهد لصالح العديد من المُرشحين، منهم الأمير أحمد بن عبدالعزيز الأخ الشقيق للملك سلمان بن عبدالعزيز، أو أحد أحفاد الملك عبدالعزيز، منهم الأميران متعب بن عبدالله وزير الحرس الوطني السابق، ومحمد بن نايف الذي كان يشغل منصب ولي العهد ووزير الداخلية سابقًا.
تحاول هذه المقالة اختبار مآلات التنبؤات المفتوحة للإطاحة بولي العهد في السعودية. وتتجه إلى نتيجة مفادها أن تداعيات الأزمة، الأحداث المتسارعة والتغطيات الإعلامية الواسعة لمقتل الصحافي جمال خاشقجي مثلت صدمة بالغة القوة، واهتزازاً مؤثراً داخل مؤسسة الحكم في السعودية، رغم ذلك؛ لا يبدو أن هذه الأزمة – رغم حدتها – قادرة على الإطاحة بالأمير محمد بن سلمان من منصب ولاية العهد لصالح أي من الأمراء المُنتظرين/ الطامحين في السلطة.
معادلة الشرق الأوسط: الكوارث ممكنة
شهدت منطقة الشرق الأوسط منذ حرب الخليج الثالثة عام 2003م سلسلة من الصراعات والكوارث التي اتسعت رقعتها وفظاعاتها منذ عام 2011م. وأظهرت الأنظمة العربية في مختلف التحديات صلابة وقوة بالغتين على امتصاص هذه الصدمات وتجاوزها دون أن تضطر إلى تقديم أي أثمان سياسية داخل المؤسسات/ العائلات الحاكمة.
إن هذه المنطقة التي تعيش على صفيح ساخن تحتمل الكثير من المغامرات والمغامرين، وإذا كان سقوط مراكز السلطة والحكم في الأنظمة الجمهورية متعذراً ومهمة شاقة فإن إحداث تغيير سياسي داخل تراتبية الحكم في مملكة خليجية مثل السعودية هو أمر يبدو بعيداً عن التوقع؛ خصوصاً وما تملكه الرياض من ثقل عالمي وحلفاء دوليين وازنين، باعتبارها المصدر الأهم للطاقة في العالم.
الرئيس ترامب: فيتو البقاء في السلطة
يرتبط ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان بعلاقة وثيقة وقوية مع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب. وهو ما قدم ويقدم للأمير السعودي غطاءاً دولياً يُعتد به.
بطبيعة الحال؛ استطاعت ضغوط الإعلام الأمريكي ومواقف وخطابات أعضاء مجلسي الكونجرس والنواب الأمريكيين أن تُحدث اختراقاً واسعاً في خطاب الإدارة الأمريكية تجاه السعودية، وهو ما أضطر الرئيس ترامب إلى التلويح بعقوبات قد تطال الرياض وإلى ممارسة ضغوط معتبرة عليها؛ لكن لا يبدو أن هذه الضغوط والتهديدات قد ترقى إلى التدخل في تراتبية الحكم في البيت السعودي بقدر ما قد تتشكل في عقوبات شكلية تطال قيادات وازنة في الحكومة السعودية، وفي تقديم تنازلات سعودية وازنة في حرب اليمن، وهو ما يمكن ملامسته في تصريحات الإدارة الأمريكية حول الحرب السعودية الإماراتية على اليمن بشكل متواتر في الآونة الأخيرة.
العائلة الحاكمة: دروس التاريخ ليست بعيدة
إن تغييراً دراماتيكياً في تراتبية بيت الحكم السعودي لا يمكن أن يحدث دون فاعلية وتحرك قوي وحاسم داخل الأسرة السعودية المالكة. وهو الأمر الذي اختبره ولي العهد الأمير محمد بن سلمان وتجاوزه غير ذات مرة خلال العامين الماضيين.
في 4 تشرين الثاني/ نوفمبر 2017 احتجزت السلطات السعودية بتوجيهات مباشرة من ولي العهد الأمير محمد بن سلمان أحد عشر أميراً والعشرات من الوزراء والمسؤولين ورجال الأعمال المتنفذين تحت طائلة تهم تتعلق بالفساد، من أهم هؤلاء الأمراء الأمير متعب بن عبدالله بن عبدالعزيز آل سعود وزير الحرس الوطني السابق والملياردير الأمير الوليد بن طلال. قبل ذلك بأربعة أشهر، أطيح بولي العهد السابق محمد بن نايف بن عبدالعزيز آل سعود.
ورغم ما تناقلته وتتناقله وسائل الإعلام العربية والعالمية من جدل وتسريبات حول امتعاض وغضب بعض الأمراء داخل الأسرة المالكة من ولي العهد السعودي إلا أن قوة وسيطرة القصر الملكي وحفاظه على تماسك الأسرة كان واضحاً للعيان، إذ لم تشهد العائلة الحاكمة أي انشقاقات حقيقية تهدد استقرار الدولة، أو مؤسسة الحكم فيها.
الأسرة متماسكة والتغيير قرار سيادة
رغم الخلافات التي تعصف بدول الخليج العربية منذ يونيو 2017 وحتى اليوم، إلا أن تحالفًا كبيراً يضم كل من السعودية والإمارات والبحرين ومصر مجتمعين لم يستطع الاطاحة بأمير قطر الأمير الشيخ تميم بن حمد آل ثاني. لقد بذات عواصم هذا التحالف جهوداً واسعة – منذ منتصف عام 2017م وحتى اليوم – بهدف إختراق العائلة الأميرية أو التكوينات القبلية في قطر دون جدوى. وعليه؛ لا يمكن النظر الى الإطاحة بولي العهد السعودي باعتبارها تغييرًا بديهيًا أو نتيجة طبيعية ستأتي نتيجة ضغوط سياسية أو اعلامية محدودة ومؤقتة.
يضاف الى كل ما تمت الإشارة اليه أن تغييراً في تراتبية الحكم في الأسرة المالكة السعودية جراء الأزمة الراهنة هو حدث استثنائي في تاريخ المملكة السعودية، بل وتاريخ الأسر الحاكمة في الخليج كله. وهو ما يجعل من الفرضية مستبعدة لدى العائلة الحاكمة التي سترى في مثل هذا التنازل منعطفاً خطيراً سيؤثر على تماسك العائلة المالكة وهيبتها.
لكن؛ ما هو الثمن الذي ستدفعه السعودية على خلفية هذه العملية الاستخباراتية الفاشلة؟ ما هي الكلفة؟ وهل ستكون هناك تغييرات وتقلبات في السياسة السعودية الداخلية والخارجية خلال الأشهر المقبلة؟ بالتأكيد؛ نعم.
أدار ولي العهد الأمير محمد بن سلمان حرباً على اليمن، وزاد من سخونة العداء مع إيران وأذرعها في المنطقة، وسعى بتحالفه مع ولي عهد أبوظبي الشيخ محمد بن زايد آل نهيان إلى القضاء على قطر ونفوذها في المنطقة، وأخيراً، اعتقد الأمير الشاب وطاقمه أن السعودية تستطيع أن تفعل ما تشاء، وقتما تشاء، كيفما تشاء. لكن تجارب السنوات الثلاث الماضية أكدت أن طموحات الأمير ومغامراته لم تستطع الظفر بأي اشتباك، وأتت أزمة مقتل الصحافي جمال خاشقجي لتؤكد أن لطموحات الأمير والمحيطين به حدود يجب أن يقف/ يتوقفوا عندها.
قدمت أزمة مقتل الصحافي جمال خاشقجي درساً بالغ الأهمية لولي العهد السعودي، وهو أن قواعد اللعب والاشتباك ومساحات اللاعبين الإقليميين والدوليين عصيّة عليه، وأن السعودية ورغم كل امكانياتها ونفوذها المالي أضعف من أن تتصرف دون اعتبار لهؤلاء اللاعبين، نفوذًا وقوة. وفي هذا السياق تحديداً؛ يمكن التنبؤ بما ستقدمه السعودية من أثمان وتنازلات خلال الأشهر المقبلة.