خلاف قطر والإمارات في منظمة التجارة: سياسي بلون الاقتصاد

في 5 يونيو/حزيران 2017 اتخذت كل من السعودية والإمارات والبحرين ومصر قراراً مشتركاً بقطع العلاقات الدبلوماسية و فرض حصار اقتصادي ضد قطر. ووضع القرار شروطاً لإنهاء النزاع في مقدمتها امتناع الدوحة عن تمويل الجماعات الإرهابية وقطع العلاقات الدبلوماسية مع إيران وإلغاء التواجد العسكري التركي وغلق قناة الجزيرة.

من النواحي السياسية والاجتماعية والعسكرية أحدث هذا القرار شرخاً واسعاً في البيت الخليجي. في حين تبقى آثاره الاقتصادية محدودة نسبياً نظراً لمتانة الاقتصاد القطري وضعف المبادلات البينية. ولكن لا يجوز التقليل من إضراره بالمصالح القطرية المالية والتجارية. لذلك قدمت الدوحة شكاوى ضد القرار أمام مجلس الأمن ومحكمة العدل الدولية ومنظمة الطيران المدني الدولي ومنظمة البحرية الدولية ومنظمة التجارة العالمية.

في هذه المنظمة الأخيرة رفعت ثلاث شكاوى منفصلة لكنها متشابهة ضد كل من السعودية والبحرين والإمارات دون مصر. ولغاية الآن واصلت الشكوى ضد الإمارات. لابد إذن من توضيح آلية معالجة الخلاف بين البلدين دون الانحياز إلى طرف ضد آخر.

منذ تأسيس منظمة التجارة العالمية في عام 1995 ولحد الآن لم تقدم أية دولة خليجية شكوى ضد دولة أخرى. أنهت قطر هذه الحالة في إهمال استخدام حق من حقوق العضوية في المنظمة. فالشكوى في منظمة التجارة العالمية ليست كالشكوى في مجلس الأمن. الخلاف التجاري لا يعني إطلاقاً وجود عداء أو نزاع سياسي. ثلث شكاوى الاتحاد الأوروبي في إطار المنظمة ضد الولايات المتحدة. ومع ذلك لم تتوتر العلاقات الدبلوماسية بينهما ولم تتدهور المبادلات التجارية الأمريكية-الأوروبية. الخلافات التجارية ظاهرة طبيعية ناجمة عن تطور العلاقات الاقتصادية.

رغم ذلك، يتجاوز الخلاف القطري-الإماراتي هذا الوضع لاختلاط السياسة بالتجارة. لم ينجم قرار الحصار عن الدفاع عن مصلحة تجارية بقدر ما يرتكز على عوامل سياسية. من هذا الباب يصبح اللجوء إلى منظمة التجارة العالمية ضعيف الجدوى. ولكن لا ضير للطرفين في ذلك.

تجد أجهزة المنظمة في الطلب القطري حالة معقدة. إذ ترتبط الشكاوى عادة بنقطة محددة وفي ميدان تجاري معين من ميادين التجارة العالمية. ففي الأشهر المنصرمة قدمت تركيا شكوى ضد الولايات المتحدة بشأن الرسوم الأمريكية المفروضة على واردات الألمنيوم. وشكوى إندونيسيا ضد استراليا بخصوص رسوم مكافحة الإغراق المفروضة على واردات الورق. في حين يتناول طلب قطر ضد الإمارات عدداً كبيراً من النقاط تهم عدة اتفاقات.

وتزداد الأمور تعقيداً لأن آلية فض الخلافات في المنظمة تعتمد على التفاوض بين الأطراف المتنازعة. بل أن المنظمة ليست سوى مؤسسة للتفاوض في المسائل التجارية الدولية. في حين ترفض الإمارات وكذلك السعودية والبحرين التفاوض إلا تحت شروط مسبقة ومحددة وسياسية.

الوثيقة القطرية شاملة

تحمل الرقم 526/1 دي أس/دبليو تي المؤرخة في 4/8/2017. وتتكون وفق ترتيبات المنظمة من قسمين. أولهما بيان الإجراءات المتخذة من قبل الإمارات ضد قطر. وثانيهما المواد القانونية التي تنطبق عليها هذه الإجراءات.

ففي التجارة السلعية منعت الإمارات (حسب الوثيقة) استيراد بعض المواد وقلصت استيراد مواد أخرى. كما منعت أو قلصت تصدير سلع إلى قطر. ورفضت مرور البضائع عبر أراضيها سواء المتجهة إلى قطر أم القادمة منها. وغلقت المنافذ البحرية والجوية فمنعت البواخر والطائرات القطرية. وترى الوثيقة تعارض هذه الإجراءات مع أحكام المادة الأولى (الفقرة الأولى) والمادة العاشرة (الفقرتان الأولى والثانية) من الغات.

وفي ميدان تجارة الخدمات قررت الإمارات إنهاء إقامة القطريين على أراضيها ومنعت دخولهم إليها. وألغت تراخيص جميع وسائل الإعلام القطرية. ورفضت تقديم أية خدمة لوسائل النقل القطرية. ومنعت الطرود البريدية من وإلى قطر. وأغلقت جميع مؤسسات الخدمات القطرية فيها. الأمر الذي يتناقض مع أحكام المادة الثانية والمادة السادسة عشرة من اتفاق تجارة الخدمات.

وفي حقوق الملكية الفكرية بثت وسائل الإعلام الإماراتية برامج تلفزيونية قطرية بصورة غير مشروعة. كما منعت رفع شكاوى قطرية أمام المحاكم الإماراتية. وهذا يتعارض مع المواد 3 و 42 و 61 من اتفاق حقوق الملكية الفكرية المتصلة بالتجارة.

الموقف الإماراتي سياسي

تتهم الإمارات قطر بتمويل الجماعات الإرهابية مما ينعكس سلبياً على استقرارها السياسي وتنميتها الاقتصادية وسلامة مواطنيها. وبررت قرار الحصار لدرء الخطر القطري. لذلك وجدت في المادة 21 من الغات سبيلاً لتبرير هذا القرار والتي تنص على ما يلي: “لا يوجد في هذه الاتفاقية ما يمكن تفسيره… بأنه يمنع أي عضو من اتخاذ أي إجراء يراه ضرورياً لحماية مصالحه الحيوية الخاصة بالأمن”.

النص واضح. فهو يشير إلى أن مبادئ منظمة التجارة العالمية وفي مقدمتها تحرير التجارة الخارجية من القيود الكمية والضريبية تتوقف إذا اصطدمت بالأمن الوطني لبلد ما. في هذه الحالة يحق لهذا البلد تقييد علاقاته حتى وإن بلغ حد الحصار الشامل لأن النص مطلق ولا استثناء عليه.

انطلاقاً من هذا الموقف تصبح الأزمة الخليجية سياسية وليست تجارية. وتساند هذا الاستنتاج دول عديدة خاصة السعودية والبحرين ومصر التي اتخذت موقفا موحداً. كما تجد بلدان أخرى في النزاع الخليجي أسباباً سياسية. وبالتالي فأن شكوى قطر سوف لن تعالج بفاعلية في منظمة التجارة العالمية. فقد أعلنت الولايات المتحدة أن النزاع غير تجاري وبالتالي ليس من صلاحية جهاز فض المنازعات النظر فيه. ودعت الأطراف المتنازعة إلى معالجة خلافاتها بالتفاوض المباشر. ولكندا موقف مماثل. كما صرحت كوريا بأن النزاع سياسي لا يهم منظمة التجارة العالمية ولابد من التفاوض. وترى الصين أن إعلان دولة ما بأن النزاع يرتبط بأمنها القومي يعني عدم إمكانية فضه في منظمة التجارة العالمية.

وتجدر الإشارة إلى أن النص المذكور أعلاه تم إقراره في الغات القديم تحت تأثير الحرب العالمية الثانية وانتقل إلى الغات الجديد. واستخدم استخداماً نادراً جداً في حالات الصراعات العسكرية. فمنذ تأسيس المنظمة ولحد الآن لم يستخدم إلا من قبل دول حصار قطر.

عند مقارنة الموقفين نلاحظ اعتماد قطر على المبدأ العام لتنظيم التجارة العالمية وهو تحريرها من شتى أشكال القيود. وتنص على هذا التحرير الاتفاقات التجارية المتعددة الأطراف التي تشرف عليها منظمة التجارة العالمية. تطلب قطر إذن من الإمارات إزالة هذه القيود. أما الإمارات فتستند إلى استثناء وارد على المبدأ العام وهو الأمن الوطني. أي ينبغي أن لا يقود تحرير التجارة إلى المس باستقرار البلد.

لا يجوز الاعتقاد بأن موقف قطر قوي لأنه يعتمد على المبدأ العام وموقف الإمارات ضعيف لأنه يعتمد على استثناء. الأمر سليم من الناحية القانونية في الحالتين. لكن يفترض التوسع في المبدأ العام وتضييق الاستثناء. هكذا تبنى العلاقات التجارية على أسس متينة. في حين فتح الموقف الإماراتي نافذة خطيرة في العلاقات التجارية الدولية. إذ سيكون من السهل على أية دولة في المستقبل التمسك بأمنها الوطني للتملص من التزاماتها. أبدت عدة دول مخاوفها من هذا التطور الذي قد يعرض المنظمة للانهيار. الاختلاف الجوهري في الموقفين يحول دون المفاوضات الثنائية.

المفاوضات غير ممكنة

في 31 يوليو/تموز 2017 طلبت قطر من الإمارات التفاوض مباشرة وأخبرت بذلك منظمة التجارة العالمية. أنه إجراء تقتضيه المادة الرابعة من اتفاق فض المنازعات التجارية ومواد أخرى في الاتفاقات المتعددة الأطراف. وفق هذه المواد يتعين على الأطراف المتنازعة إجراء مفاوضات ثنائية لحل نزاعهما التجاري خلال ستين يوماً.

المفاوضات مرحلة إجبارية أسهمت في معالجة غالبية الخلافات التجارية الدولية بإيجاد حل مقنع أو بعدم الرغبة في مواصلة الشكوى لسبب أو لآخر.

وجهت إذن قطر دعوة رسمية للإمارات في التفاوض المباشر. وفي 10 أغسطس/أب 2017 أبلغت المنظمة قطر والدول الأعضاء بأن الإمارات لا ترغب بهذه المفاوضات. لذلك بات من حق قطر مطالبة جهاز فض المنازعات بتشكيل مجموعة خاصة للنظر في الشكوى. لكن الإمارات رفضت أيضاً هذا الطلب. عندئذ جددت الدوحة طلبها فاضطرت الإمارات إلى الموافقة لأن قواعد المنظمة تسمح برفض المجموعة الخاصة مرة واحدة فقط. وعندما يتجدد طلب المشتكي لا يجد البلد المدعى عليه سوى القبول إلا إذا توافق أعضاء المنظمة على الرفض. وهكذا قرر الجهاز في 22 نوفمبر/تشرين الثاني 2017 تشكيل مجموعة خاصة. ولم يتفق الطرفان القطري والإماراتي على تسمية رئيس وأعضاء هذه المجموعة إلا في 3 سبتمبر/أيلول 2018. عندئذ طلبت دول عديدة الدخول في النزاع كطرف ثالث لارتباطه بمصالحها وأهمها الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة وكندا والصين وروسيا واليابان ومصر والسعودية والبحرين.

تشكيل المجموعة الخاصة

أن مجرد موافقة جهاز فض المنازعات على تشكيل هذه المجموعة يعد خطوة إيجابية لقطر التي تعني توفر الشروط القانونية في الشكوى.

وكما هو معلوم لا توجد في منظمة التجارة العالمية مجموعة دائمة للنظر في جميع النزاعات. بل تشكل مجموعة لكل نزاع بموافقة الطرفين المتنازعين. تنتهي وظيفتها بانتهائه. وتتكون من مختصين في الخلاف المطروح.

تتكون المجموعة الخاصة بالخلاف القطري-الإماراتي من رئيس وعضوين. تتولى حاليا دراسة موقف كل من الطرفين. وستقدم عدة اقتراحات وتوصيات لهما. وستطلب منهما إبداء رأيهما فيها. ستعقد عدة اجتماعات مع ممثلي البلدين. وسوف لن نعرف ما يجري فيها لأنها تتسم بالسرية التامة.

وفي تاريخ أقصاه بداية مارس/آذار 2019 (بعد ستة أشهر من تشكيلها) يفترض أن تضع تقريراً يتضمن موقفها النهائي. ولن يكتسب التقرير الصفة الإلزامية إلا إذا وافق عليه جهاز فض المنازعات وذلك بعد شهرين من تاريخ توزيعه على الأعضاء الآخرين في المنظمة.

وعلى افتراض إدانة الإمارات يتعين تنفيذ القرار فوراً. إلا إذا دعت الضرورة فترة زمنية معقولة. ولكن للإمارات الحق في عدم التنفيذ. عندئذ عليها التفاوض مع قطر بشأن التعويض اللازم. المفاوضات الثنائية مهمة في جميع مراحل النزاع حتى بعد صدور القرار. أما إن لم يتوصل الطرفان إلى حل خلال عشرين يوماً يحق لقطر فرض عقوبات تجارية انتقامية ضد الإمارات.

لا تزال قطر تصدر يومياً حوالي ملياري قدم مكعب من الغاز الطبيعي المسال إلى الإمارات عبر أنبوب دولفين. ويستخدم الغاز القطري في توليد نسبة مهمة من الطاقة الكهربائية في الإمارات. الإجراء الانتقامي الفاعل لدى قطر هو قطع هذه الإمدادات. ولكن هذا الإجراء لا يحل الأزمة بل يعقدها. ليس المطلوب نقل الخلاف إلى مرحلة أكثر خطورة بل بالعكس تماماً.

منشورات أخرى للكاتب