دول الخليج: من العائلة الواحدة الى “ريزوم” أولاد العم

يقدم الفرنسي جيل دولوز فهمًا اجتماعيًا وسياسيًا فريدًا من خلال مفهوم الريزوم (الجذمور) الذي يقترحه بديلاً لمفهوم الشجرة. يعبر دولوز عن الجذمور بمفهوم (السياسات الصغرى/ المُتبدلة)، بمعنى؛ نهاية ذلك المحور الناظم الذي قد يكون لغة أو قومية أو ديناً أو حتى قبيلة، ينتظم حوله الأفراد لتكوين مجتمعهم، يقترح دولوز مفهومًا جديدًا، يعترف بالطبيعة المتغيرة للأفراد التي تنتظم في ما يمكن تسميته بالمكنة الاجتماعية أو التشكيل السياسي. (1)

في مفهوم السياسات الصغرى أو المتحولة لدولوز ليس ثمة ما يمكن الارتكاز عليه لتفسير المواقف والأحداث والنتائج، لا توجد أيديولوجية أو هوية أو قومية أو حتى قواعد مصلحية يمكن العودة إليها لتفسير كل ما حدث، أو سيحدث. تتحول المجتمعات ومعها السياسات إلى ما يشبه (الريزوم)؛ وهي نبتة لا ترتكز على جذر واحد في الأرض، ولئن كانت فروع هذه النبتة متصلة في الأجزاء العلوية كنبتة واحدة إلا أنها ترتبط مع الأرض من خلال عدة جذور تقيم علاقات (منفصلة) مع التربة.

تُشكل منظومة مجلس التعاون الخليجي – تأسست في مايو 1981م بعد سنوات قليلة من إعلان مشيخات الخليج استقلالها عن الوصاية البريطانية – تطبيقًا دقيقًا لمفهوم دولوز من التحول من مفهوم (الشجرة) إلى (الريزوم). يساعد هذا المفهوم أيضاً – وبشكل معقول – في فهم واستشراف طبيعة العلاقات ومستقبل الخارطة السياسية بين دول المجلس، العلاقات والتحالفات.

فرضت الظروف الداخلية والمحيطة بدول الخليج الناشئة منتصف سبعينيات القرن الآفل باعتبارها دولاً شحيحة التعداد، ضعيفة التسليح، كبيرة الموارد، متشابهة في مكوناتها الاجتماعية ونظم حكمها ومحاطة بقوتين عسكريتين كبيرتين (العراق وإيران)، فرضت على هذه العواصم الحديثة والمُستحدثة التوافق على إنشاء مجلس التعاون الخليجي كمظلة جامعة، تضطلع هذه المنظومة برعاية مصالحها التي هي في الغالب (مشتركة)، وتتولى دفع (مخاطر) كانت محددة، ومتوافقًا عليها.

من الشجرة الواحدة إلى الريزومات المتصارعة

اليوم، وعلى أكثر من صعيد، لا تبدو دول الخليج كما هي العام 1981م، مرت 37 عاماً شهدت فيها هذه الدول العديد من المتغيرات الداخلية أولًا، وفي منطقة الشرق الأوسط ثانيًا، وفي السياسة والتوازنات الدولية ثالثًا. داخليًا وخارجيًا، تتصارع دول الخليج اليوم لا وفق منظومة (الشجرة الواحدة) التي تتفق مصالحها وأولوياتها وقائمة الأخطار المحدقة بها، بل كمجموعة من (الريزومات) المتشابكة والمتداخلة التي تتضارب مصالحها، تختلف أولوياتها، وتتباين الأخطار والتحديات التي تحيط بكل عاصمة منها.

لم يعد ثمة ناظم اجتماعي أو سياسي بين دول الخليج يمكن الارتكاز عليه – دائماً وأبداً – في تحليل أي ملف أو موقف من ملفات ومواقف الصراع وتضارب المصالح والإرادات بين دول المنطقة، ينطبق ذلك داخل منظومة مجلس التعاون الخليجي وخارجها، على حد سواء. المواقف السياسية الصادرة من مسقط أو الكويت ليست كما هي في الرياض، وربما على النقيض تماماً مع أبوظبي.

شواهد (الريزومات) الفاعلة في دول المنطقة عدة، وفي أكثر من سياق، فالإمارات والسعودية وإن كان يجمعهما تحالف وثيق في حرب اليمن إلا أنهما لا تعملان وفق أجندة موحدة أو هدف واحد، تختلف أولويات أبوظبي عن الرياض، وكذلك قائمة الحلفاء في الداخل اليمني، والمواقف من مختلف الأطراف المتصارعة. ولئن كان الصراع مع السعودية والإمارات والبحرين قاسماً مشتركاً بين كل من الدوحة وطهران ومن المفترض أن يفضي إلى تحالف وثيق بين العاصمتين، إلا أن ذلك لا يحدث. لا يقتصر الخلاف والاختلاف على الملفات السياسية وحسب؛ في الوقت الذي تسعى فيه السعودية إلى خفض أسعار النفط عبر زيادة انتاجها استجابة لواشنطن، تأمل كل من البحرين وسلطنة عمان الوصول بأسعار النفط إلى حاجز الـ 90 دولاراً، والبقاء فيه.

وبينما تُصر الإمارات على خيار التصعيد مع إيران في غالبية الملفات السياسية في المنطقة وفق إرادة أبوظبي الإمارة ذات النفوذ الأكبر في البلاد إلا أنها تغض الطرف عن التحالفات التجارية الوثيقة لإمارة (دبي) مع طهران. ورغم إعلان الكويت رغبتها في الحفاظ على علاقات مستقرة مع إيران إلا أنها غالبًا ما تستجيب لضغوطات الرياض في كل أزمة، لكن رغم ذلك، تعلن الكويت بوضوح رفضها لقرار مقاطعة قطر وتصر على إنهاء ملف حقول النفط في المنطقة المحايدة مع السعودية قبل استئناف استخراج النفط من الآبار النفطية فيها، وهو ما أثار ويثير حفيظة الرياض غير ذات مرة.

ورغم حالة العداء المُستعرة من جانب الإمارات تجاه جماعة الإخوان المسلمين في شتى الملفات والدول التي تتدخل فيها إلا أنها تتعامل بهدوء مع تمكين حليفتها البحرين لجماعة الإخوان المسلمين في البلاد والسماح لهم بالعمل السياسي وتمثيلهم في جميع مؤسسات الدولة. وفيما تتنافس دول الخليج على علاقة جيدة وقوية مع الولايات المتحدة خصوصاً من جانب السعودية والإمارات وقطر والبحرين، تبدو كل من الكويت وسلطنة عُمان أقل اهتمامًا وأكثر حذرًا. وفيما تتقدم البحرين سباق دول الخليج نحو تطبيع العلاقات مع إسرائيل تتحفظ الكويت عن المضي في هذا الخيار بشكل قاطع وحاسم.

الخليج الجديد: أي مستقبل؟

فرضت الأزمة الخليجية الخانقة منذ منتصف 2017 على منطقة الخليج واقعاً جديداً. هناك واقع مأزوم تعيش دول المنطقة وشعوبها يومياته وتداعياته، خارطةٌ سياسيةٌ جديدةٌ يُعاد تشكيلُها، وتنبؤات متضاربة حول مستقبل دول المنطقة وخارطة تحالفاتها. هذا التشكيل الجديد والخارطة المُستحدثة لا يبدو أنها ستنتظم أو تتشكل وفق نموذج مُنظم وواضح.

على الأغلب، نحن بصدد الوصول إلى خارطة (ريزومية)، غير منتظمة في داخلها، أو في ملفات الصراع والتحالفات الفاعلة في المنطقة. يضاف أن المُتغيرات الداخلية في دول الخليج ذاتها سيكون لها وجود فاعل وستؤثر في إعادة تشكيل وضبط مستقبل هذه الدول، سواء عبر انتقالات وتدخلات هادئة من خلال تعزيز المشاركة السياسية فيها، أو (عنيفة) عبر جنوح بعض المكونات السياسية والاجتماعية الى خيارات التصعيد والعنف.

لكن ما هي النتائج التي قد تترتب عن هذا التشكيل الجديد في دول الخليج؟ وما هي الفرص والمخاطر القائمة وفقاً لطبيعة هذا الواقع الجديد وإحداثياته؟ في البدء، لا يجدر بنا في الإجابة على هذا السؤال أن نتسرع في الوصول الى نتيجة قاطعة، تبدو الاجابة الأكثر منطقية أن الفرص والتحديات هي جزءٌ لا يتجزأ من تفاعلات وتعقيدات (الريزومات) الفاعلة نفسها. بمعنى؛ أن واقع الخليج اليوم ومستقبله هو مجموعة من التفاعلات والأزمات التي يجمعها تشكّلٌ معقد لجذور متداخلة، وأن أحداً من دول الخليج لن يستطيع حسم الملفات كلها إذ ليس ثمة (شجرة كبيرة) ليقطعها أحد فيملك الخليج كله. ولا يغني ذلك عن الذهاب إلى أن دولاً خليجية ينقصها الإنتباه لهذا التعقيد قد يُقطعُ جذرها (الوحيد) لتجد نفسها في ما يشبه المتاهة.

(1) للإطلاع على تفاصيل مفهوم الجذمور (حسين خزام – 2017). https://www.aljumhuriya.net/ar/38300

منشورات أخرى للكاتب