اليمن: تحديات استعادة الدولة والانتقال إلى الفيدرالية

بعد مرور ثلاث سنوات ونصف على العملية العسكرية التي تقودها السعودية في اليمن منذ مارس/ آذار 2015، لا تزال حكومة الرئيس عبد ربه منصور هادي، تواجه تحديات عدة في ظل تعقيدات الحرب الدائرة، واستطالة أمدها إلى حد لم يكن يتوقعه الرئيس هادي نفسه، حسب ما كشف عنه في مقابلة مع شبكة “بي بي سي” في تموز/ يوليو 2017.

حتى الآن، لا تزال مؤشرات الحسم العسكري مع حركة “أنصار الله” (الحوثيين)، غير واضحة المعالم، في الوقت، الذي تعاني فيه مناطق سيطرة قوات الرئيس هادي في المحافظات الجنوبية والشرقية، حالة اضطراب وتأزم، مما يثير الكثير من الجدل حول مستقبل هذه المناطق، لا سيما أن سيطرة قوات هادي فيها، لا تعدو أن تكون شكلية أمام قوى جنوبية انفصالية، تحاول إضعاف هذه السيطرة أكثر لفرض وجودها كبديل عنها، وبرعاية أطراف في التحالف.

يناقش هذا المقال مختلف التحديات والفرص المتاحة أمام الرئيس هادي، وقدرته على التعامل معها، في سبيل استعادة الدولة، وتطبيق النظام الفيدرالي (الاتحادي) من ستة أقاليم، أربعة في الشمال، واثنين في الجنوب، كما أقره مؤتمر الحوار الوطني الذي عقد من 18 آذار/مارس 2013 وحتى كانون الثاني/يناير 2014.

تحديات معقدة

يؤكد المشهد السائد في المحافظات الجنوبية والشرقية أن الرئيس هادي وحكومته بمدينة عدن، يتعرضان لحالة تمرد شبيهة بتلك التي يقودها الحوثيون منذ خريف عام 2014؛ فسيطروا تدريجياً على العاصمة صنعاء، وبسطوا نفوذهم في كل مؤسسات الدولة المدنية والعسكرية، إلا أن التمرد، هذه المرة يتزعمه جنوبيون مثله، انشق بعضهم عن الحكومة وكونوا إلى جانب آخرين في منتصف عام 2017 ما يسمى “المجلس الانتقالي الجنوبي”، الذي ينادي بفك الارتباط عن الشمال، أو الانفصال بلغة رافضي الفكرة، كما أن نسق الأحداث الراهنة لا يختلف عن ما جرى بصنعاء سوى في تفاصيل قليلة، مع وضوح استراتيجية النفس الطويل المتبعة.

يستند هذا المجلس إلى قوى قسرٍ متنوعة، تمثلها تشكيلات عسكرية وأمنية، كالحزام الأمني، وقوات النخبة التي ليس للقيادة الشرعية أي سلطة عليها، وتستمد هذه التشكيلات تعليماتها وأوامرها الفعلية من قيادة القوات الإماراتية التي تحرك الجميع؛ حيث لعبت دوراً بارزاً في تكوينها، وتدريبها، وتسليحها، مع إيلاء قادتها اهتماماً خاصاً، إلى جانب ما يحظى به هذا المجلس من دعم إماراتي؛ أكد عليه تقرير فريق الخبراء الأممي الصادر مطلع عام 2018، الذي أشار إلى وجود هذه القوات، وأنها تعمل مستقلة، وبالوكالة، وتقوم على رعايتها وتسليحها دول في التحالف، بناء على أهداف خاصة تسعى ميدانياً إلى تحقيقها.

في المحافظات ذاتها، تشكل التنظيمات الجهادية المسلحة، كالقاعدة، والدولة الإسلامية (داعش)، تحدياً آخر أمام مشروع استعادة الدولة والنظام الاتحادي؛ يؤكده حضورها اللافت في أجزاء من محافظات: حضرموت، وشبوة، وأبين (مسقط رأس الرئيس هادي) (شرق وجنوب البلاد) وهي مناطق يحظى فيها الرئيس هادي ونائبه (الفريق محسن) بولاءات تفوق ما يتمتع به المجلس الانتقالي الجنوبي، وتحاول هذه التنظيمات، من خلال عمليات إرهابية متقطعة، تقويض وإضعاف سلطة الرئيس هادي، على غرار نشاطها في الفترة بين عامي 2011- 2016.

شمالاً، أفرزت أحداث كانون الأول/ديسمبر 2017 تحديات جديدة أمام الرئيس هادي، تتمثل في تشكُّل قوات عسكرية جديدة، يقودها العميد طارق صالح، نجل شقيق الرئيس الراحل، علي عبدالله صالح، وتموضع وحدات منها في مسرح عمليات الساحل الغربي، جنباً إلى جنب مع قوات أخرى تسمى ألوية العمالقة، وكلاهما تخضعان للقيادة الإماراتية، وتجسدان، إلى حد ما، موقفا مماثلا لقوات الحزام الأمني وقوات النخبة إزاء الرئيس هادي؛ وتترتب على ذلك أثار سياسية تفسح المجال، ومن منطلق القوة، أمام عودة نظام صالح عبر شبكة من المواليين، تشرف أبوظبي على استقطابهم وتحريكهم كأدوات في مواجهة الرئيس هادي والقوى المحيطة به، وعلى رأس ذلك حزب التجمع اليمني للإصلاح (الإخوان المسلمين)، والقوى الأخرى، التي انخرطت في ثورة 11 فبراير/ شباط 2011.

تحديات الحسم العسكري في المعركة الدائرة، مرتبطة بمصدر القرار العسكري، ومن يدير ويحرك إدارة العمليات على الأرض التي تبدو أيدي السلطة الشرعية فارغة منها؛ حيث يحتكر التحالف كل ما يدور على خريطة الحرب في أكثر من سبعين جبهة تقريباً، مع ما تمليه، في هذا الشأن، قوى دولية ذات ارتباط وثيق بأبعاد الحرب، ونتائجها، والموقف التاريخي من بعض أطرافها.

وتأتي على رأس هذه القوى الولايات المتحدة، وبريطانيا، اللتان كانتا خلف توقف العمليات العسكرية في الساحل الغربي، والسماح بنمط قتالي استنزافي لا يفضي إلى حسم أو نصر، وانتقال المعركة، بوتيرة عالية، إلى المناطق الحدودية مع السعودية، في كل من: صعدة، وحجة، مع ما يثار حول هذا الانتقال من جدل، أبرز ما تضمنه أنه طيُّ لخريطة الحسم العسكري، وباب آخر لاستنزاف كافة الأطراف، واستهلاك ممنهج لما تبقى من عمر قادة السلطة الشرعية الطاعنين في السن، بمن فيهم الرئيس هادي.

بالنظر إلى انخفاض القوة الشرائية للعملة اليمنية، وعجز الحكومة عن دفع مرتبات الموظفين، وإخفاقها في ملفات أخرى، قد يبدو الوضع أكثر سوءاً انطلاقاً مما وصفه قبل تسعة أشهر تقرير فريق الخبراء الأممي، بأن الرئيس هادي لم يعد بمقدوره إعادة اليمن إلى سابق عهده، في ظل تآكل سلطته، معللاً ذلك، أيضاً، باستمرار ممارسة وظائفه من خارج البلاد.

علاوة على ما أشرنا إليه سابقاً، من تشكل المجلس الانتقالي الجنوبي، ووجود قوات مسلحة تعمل بمعزل عن سلطة الرئيس، وإصرار الحوثيين على الصمود ورفض أي انصياع لأي من المرجعيات التي تستند عليها الشرعية، وهي: المبادرة الخليجية، ونتائج مؤتمر الحوار الوطني، وقرارات مجلس الأمن، خاصة القرار 2216 لعام 2015. تبدو الحقيقة الماثلة الآن، هي أن الحديث عن النظام الفيدرالي (الاتحادي) يمثل قفزاً على الواقع، في ظل وجود محافظة شمالية واحدة، فقط، تحت سيطرة السلطة الشرعية، هي محافظة مأرب، وبقاء ست محافظات غارقة في الصراع، محاولة الإفلات من قبضة الحوثيين، هي: تعز، والبيضاء، والجوف، وصعدة، وحجة، والحديدة (وسط وشمال وغرب) وبقاء سبع محافظات أخرى تحت الهيمنة الكاملة لسلطة الحوثيين، هي: صنعاء، وأمانة العاصمة، وعمران، والمحويت، وذمار، وإب، وريمة (شمال ووسط البلاد).

استمرار هذا الوضع طويلا، سيكون له عواقب فادحة على السلطة الشرعية، خاصة إذا ما طرأت تحولات حرجة في منظومة قيادتها، أو انفجر الوضع، عسكريا، في الجنوب، على نحو لا يمكن معه حتى الحلم بعودة الدولة، وتخلي المجتمع الدولي عن سلطة الرئيس هادي.

مع ما ينطوي عليه الوضع السابق من مخاطر على مشروع الرئيس هادي في استعادة الدولة، لا يُعقل أن يسمح المجلس الانتقالي الجنوبي، والحوثيون، وحلفاؤهم، بأي تحول إيجابي في المناطق الواقعة تحت سيطرة الرئيس هادي، حتى وإن كانت هذه السيطرة شكلية؛ لأن اللجوء إلى زعزعة الأمن فيها، يعد جزءا من إدارة الصراع، ولو استدعى ذلك انتهاج سياسة “التخريب في أرض العدو”، وقد تجسد ذلك حقيقة في مدينة عدن، التي حققت أعلى مستوى في ضحايا الاغتيالات داخل المدن اليمنية، باستهدافها أشخاصا ينتمون إلى متخلف القوى المؤيدة للرئيس هادي.

فرص شحيحة

تبدو فرص الرئيس هادي شحيحة للغاية، علاوة على كونها مهدورة، في مقابل جسامة التحديات، التي تواجهه، وتراجع خيار الحسم العسكري، الذي تحول إلى ملهاة سياسية، منذ وصول قوات الشرعية المدعومة من التحالف إلى حدود ما قبل مايو/ آيار 1990.

تتجسد بعض هذه الفرص في ما يمكن أن تضطلع به بعض مراكز القوى الواقعة تحت سيطرة الحوثيين، بعد تغير مواقفها منهم، وإن لم تعلن عن ذلك؛ نتيجة لتصفيتهم لحليفهم الرئيس الراحل صالح، في كانون الأول/ ديسمبر 2017. ولعل التركيز في هذا الجانب، ينصب على القبائل المحيطة بصنعاء، التي عادة ما توصف بـ” قبائل طوق صنعاء”، لكن ذلك مرتبط بخيار الحسم العسكري، الذي تجمد في قمم جبال نهم، وصرواح، وقد تكتمل هذه الملهاة على نحو مشابه، في جبال صعدة وحجة، اللتين دخلتا المعركة مؤخرا.

أطراف كثيرة في السلطة الشرعية تبدي اندفاعا نحو استعادة الدولة، والانتقال إلى النظام الاتحادي، خاصة القوى الممثلة لمناطق شمالية عانت تهميشا وإقصاء سياسيا كبيرين، خلال مراحل مختلفة من تاريخ اليمن السياسي، بما في ذلك حقبة النظام الجمهوري، ولذلك تقاتل هذه القوى بشراسة، وإلى جانبها قوى جنوبية أخرى تصر على هذا النهج، وتناضل معها للوصول إلى النظام الاتحادي، بوصفه أقل ضررا من الانفصال، مع ما يحظى به ذلك من تأييد دولي، تجلت ملامحه منذ اندلاع احتجاجات فبراير/شباط 2011، والتسويات السياسية، التي تلتها حتى عشية سقوط صنعاء في قبضة الحوثيين في سبتمبر/ أيلول 2014.

يعد تركيز الحوثيين ضرباتهم الصاروخية، وهجماتهم بالطائرات المسيَّرة دون طيار، على المصالح الاستراتيجية في المدن السعودية، تهديدا متصاعدا لا يستهان به، ولذلك فإن هذا التهديد كفيل لأن يكون أداة بيد السلطة الشرعية لحفز السعودية على اتخاذ مواقف صارمه تجاه الحوثيين، وإعادة تصويب رؤية التحالف، التي انحرفت عن مسارها، بما يحقق أهدافه المعلنة، التي من أبرزها دعم السلطة الشرعية.

أخيرا، يتبقى التأييد الدولي للحكومة الشرعية، بوصفه فرصة الفرص، فيما لو استغل الاستغلال الأمثل، وهو ما لم يكن وربما لن يكون. علاوة على إن هذا التأييد مقيد وذو نهاية؛ فهو لا يميل إلى الحسم العسكري، ويحاول الدفع نحو الحل السلمي؛ لذلك سيظل الحوثيون وغيرهم من المناوئين للشرعية، يناورون طويلا، لتتحول الأزمة إلى مجرد نزاع على السلطة بين أطراف متنافسة، وقد تسقط، عندئذ، المرجعيات الثلاث، التي تتبناها السلطة الشرعية، ويسقط مشروع استعادة الدولة، والنظام الاتحادي.

منشورات أخرى للكاتب