الزيدية في اليمن: تعقيدات المذهب والجغرافيا والخارطة القبلية
يسود الاعتقاد، على نطاق واسع، أن الصعود السريع لجماعة أنصار الله (الحوثيون) وسيطرتها على مقاليد السلطة في اليمن، لم يكن ليحدث لولا المرتكز الديني الذي رافق مسيرة الجماعة منذ نشأتها، وبما يشكله المذهب الزيدي من خصوصية. تُثار هنا أسئلة عدة حول ماهية “الزيدية” وارتباطاتها بالحوثية، وهل باتت “الزيدية” وقوداً للحرب التي يخوضها الحوثيون؟
تبدو “الزيدية” في اليمن حركة سياسية أكثر من كونها مذهباً دينياً ضمن التقسيمات الرائجة للمذاهب الاسلامية. وعليه؛ تتموضع الزيدية الهادوية الحوثية ـ بهذه العناوين الثلاثة ـ كمذهب ذا طابع سياسي، وبوصفه – كما يرى خصومها – جزءاً من ظاهرة التشيع السياسي، أكثر من أي شيء آخر.
وتنسب الزيدية إلى الإمام زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب؛ ودخلت اليمن أواخر القرن الثالث الهجري بقدوم الإمام الهادي بن الحسين الرسي الذي أرسى ما بات يعرف بـ”الزيدية الهادوية”. وهو الفرع الأول والسائد شمالي البلاد.
اليوم، تتألف الزيدية من فرعين رئيسيين: الأول هو الزيدية الهادوية، ويمثلها مجد الدين المؤيدي الذي اختلف مع بدر الدين الحوثي الممثل للجارودية (الفرع الثاني). الخلافات بين القيادتين تراجعت بعد وفاتهما عقب الظهور السريع لحركة الحوثي وما شكلته من واجهة سياسية وعسكرية للزيدية، بشقيها الهادوي والجارودي، على حد سواء.
في الوقت نفسه، تمثل الزيدية الهادوية الحاضنة الرئيسة لجماعة الحوثي، بل هي إحدى تجلياتها. فتاريخيا، أطلق توصيف “الزيدية” على طوائف مختلفة أخرى، مثل: المطرفية، والسالمية، والقاسمية، والمؤيدية، والصالحية، والبترية، والسليمانية، والجارودية، والهادوية، وغيرها، لكن أغلب هذه الفرق انقرضت تماما، ولم يتبق سوى الهادوية، ولذلك يذهب البعض الى وصف جماعة الحوثي بأنها كيان هادوي وجارودي، لكنها عادة ما تقدم نفسها، بأنها حركة زيدية إحيائية.
أما المقولة الشائعة بأن “الزيدية أقرب الى السُّنة”، فلم يعد لها أساس في الواقع؛ ويظل مدلولها منحصرا في الحقبة التي قيلت فيها، وهي فترة نشوء المذهب الزيدي، في القرن الثاني الهجري. ويستند هذا الرأي الى أن الزيدية المعاصرة التي تمثلها الحركة الحوثية تقاربت كثيرا مع الفرق الشيعية الأخرى، خصوصا الاثني عشرية، لا سيما فيما يتعلق بجدلية أحقية أهل البيت بالخلافة، وزكاة الخمس، فضلا عن مسائل عقدية أخرى، كالممارسات التعبدية وفق المذهب الشيعي، ومن ذلك: الاحتفال بيوم الغدير “غدير خُم”، وذكرى عاشوراء، وذكرى استشهاد الإمام الحسين بن علي بن أبي طالب، وهو ما دفع الكثير إلى نفي وجود أي تقارب للزيدية في شكلها الحديث مع المذاهب السنية الأخرى في البلاد.
احتكرت الزيدية مقاليد الحكم في شمال اليمن لأكثر من 11 قرنا عدا استثناءات قليلة، وأسقطت ثورة 26 أيلول/ سبتمبر 1962 آخر حكامها من الأئمة الزيديين، وهو الإمام أحمد حميدالدين. ويتركز الانتشار السكاني للطائفة الزيدية شمال اليمن؛ حيث تعد محافظة صعدة -معقل الحوثيين- المركز التقليدي لها، وهي المنطقة التي أسس فيها الهادي بن الحسين الرسي، دولته وانطلق منها لتوسيع رقعة نفوذه جنوبا.
ساهم تأسيس النظام الجمهوري في تراجع الزيدية وضعف نفوذها؛ خصوصاً بعد اختراق معاقلها في الشمال من قبل التيارات السنية، كالسلفية الوهابية، وحركة الإخوان المسلمين، بجناحها السياسي المتمثل بحزب التجمع اليمني للإصلاح؛ حيث أسست مراكز علمية ودينية في صعدة وذمار وغيرهما، ولعبت هذه المراكز دورا بارزا في تفكيك الفكر الزيدي الهادوي. وقد كان أقدم هذه المراكز “دار الحديث” ببلدة دمّاج في صعدة، الذي أسسه الشيخ مقبل الوادعي بعد عودته من السعودية عام 1979، إثر حادثة الحرم المكي التي أشعلها جهيمان العتيبي.
رغم ذلك، استطاع الحوثيون حشد أتباع المذهب الزيدي الهادوي إلى جانب الجارودي والمضي في مواجهة التيارات الأخرى، بدعاوى مقبولة ظاهرياً لكنها لا تخفي الرغبة في استعادة ما يدعون أنه حق ديني وسُلالي في الحكم، مع مراعاة موقف شريحة لا بأس بها من الزيدية لا توافق الحوثيين، بل دخلت في صراع مسلح معهم، كتلك المواجهات التي جمعت أتباع عبدالعظيم الحوثي وهو عالم دين زيدي بمسلحي الحوثي في مراحل مختلفة من ظهورهم.
مما لاشك فيه، أن أبناء المذهب الزيدي مثّلوا الوقود الأبرز للتوسع العسكري للحوثيين في مختلف المدن انطلاقا من محافظة صعدة شمالاً؛ حيث نجح الحوثيون في إنشاء معسكرات تدريب تضم المقاتلين المنتمين للدائرة الزيدية “المناطقية والمذهبية”، وساعدهم في ذلك، الانقسام السياسي، الذي أفرزته احتجاجات عام 2011 وإسقاط الرئيس الراحل علي عبدالله صالح، وما تلى ذلك من تباينات حادة بين القوى السياسية، وتبدل خارطة تحالفاتها.
وبالنظر الى تصنيف القبائل المحيطة بصنعاء والممتدة على ما يعرف بأراض “الهضبة الداخلية” أو “الهضبة الزيدية” الواقع أغلبها ضمن التقسيم الجغرافي لقبيلة “حاشد”، وتنتمي تاريخيا للمذهب الزيدي، لم تجد الحركة الحوثية صعوبة في السيطرة على هذه المناطق لما تمثله حميمية المذهب من قوة تأثير وجذب، ويتجلى ذلك ابتداء من صعدة إلى مدينة ذمار (جنوبي العاصمة)، التي توصف بـ”كرسي الزيدية”، وما بين ذلك من محافظات، مثل: عمران، وحجة، والمحويت، وصنعاء، فضلا عن أمانة العاصمة.
أغلب هذه المحافظات تقع في التقسيم الديموغرافي لقبيلة “حاشد”، التي عادة ما أمسكت بمقاليد السلطة في مختلف العهود، أما قبيلة “بكيل” التي يتناثر وجودها في هذه المحافظات، فلم تُبدِ مقاومة تذكر إزاء التوسع الحوثي خلافا لما أبدته مناطق بكيلية أخرى كمحافظة الجوف الواقعة شمال شرق البلاد، من موقف مناوئ عبرت عنه بمواجهات مسلحة شرسة، ليس مع الحوثيين فحسب، بل ومع من ناصرهم من سكان تلك المناطق.
أتاح التحالف بين الزيدية، بشقيها المذهبي بزعامة “الحوثي”، والقبلي بزعامة “صالح” بسط السيطرة على كامل الجغرافيا الزيدية ومحيطها القبلي، ليبدأ التوسع خارج هذه الدائرة بعد ضرب المكون العسكري والقبلي لحزب الإصلاح في نطاق النفوذ المذهبي الزيدي لهذا التحالف، وبذلك جرى التخلص من عائق كبير أمام هذا التمدد سهل بموجبه الوصول إلى مركز الحكم في صنعاء.
الحضور القوي للرئيس صالح في الوسط القبلي الزيدي ساهم في تقديم أنواع مختلفة من الدعم، سواء بمشاركة آلاف المقاتلين، أو في توفير البيئة الحاضنة للحوثيين؛ بالإضافة الى أن تركيبة قوات الحرس الجمهوري الموالية لصالح تتشكل في غاليتها من أبناء هذا الوسط؛ ما عزز صفوف الحوثيين بكتائب مدربة لعبت دورا في حسم توسعهم وتهاوي المدن اليمنية، الواحدة تلو الأخرى.
أدرك الحوثيون مبكرا، أن تحالفهم مع صالح ليس استراتيجيا بل “ضرورة” حتمية. ولذلك، حث الحوثيون خطاهم في التوغل داخل الأوساط القبلية وشراء الولاءات عبر حملات استقطاب ممنهجة، تستند على الإرث التاريخي المذهبي لهذا المناطق، والتحذير بلغة أقرب الى التحريض من الأفكار الأخرى القادمة من خارج جغرافيا الزيدية.
من هنا، تمكن الحوثيون من تعزيز نفوذهم في المناطق القبلية التي كانت موالية لصالح وتقليص نفوذ الأخير فيها. ومع بروز حملة الفكر الهادوي أو ما يعرف بـ”الهاشميين” كرافعة سياسية، رجحت كفة الحوثي وأصبحت تمسك بعوامل القوة ونجحت في تجييشها لمصلحتها بفعل حضورها السياسي في الدوائر التابعة لصالح.
في كانون الأول/ ديسمبر 2017، انتفض صالح في وجه حلفائه الحوثيين مراهنا على دعم القبائل، خصوصا قبائل ما يعرف بـ”طوق صنعاء”، لكنه وجد نفسه وحيدا، وانتهى به الأمر قتيلاً على يد حلفاءه السابقين في الرابع من الشهر ذاته.
التمدد الحوثي خارج نطاق الجغرافيا الزيدية لاقى صعوبات بالغة، خاصة في النطاق الجغرافي لقبيلة “مذحج” الذي يضم محافظات تقع وسط البلاد؛ حيث انتفضت منذ الوهلة الأولى قبائل محافظتي البيضاء ومأرب أمام تمدد الحوثيين رغم الوجود الزيدي فيهما، ونستثني بعض مناطق من البيضاء التي أعلنت تأييدها وولائها.
ومع ما تلعبه الانتماءات القبلية والمناطقية والمذهبية من دور حاسم في الصراع باليمن، سعى الحوثيون إلى تثبت مكاسبهم، من خلال تكوين إطار قبلي ديني أطلق عليه اسم “حكماء اليمن”؛ ما قد يؤسس في المستقبل لصراع قبلي مذهبي مع تحالفات أخرى على النقيض منه، وذلك في حال انتهت الحرب بانتصار الحركة الحوثية وفرض وجودها كسلطة أمر واقع.