معادلة الإنفاق العسكري في إيران

تتسم النفقات العسكرية الإيرانية بارتفاع حجمها. خلال الثلاثين سنة الماضية لم تشهد هبوطاً إلا لمدة خمس سنوات. ولا تقتصر النفقات العسكرية من حيث مصادر التمويل على ميزانية الدولة بل هنالك مصادر إضافية. وهي أيضاً، ليست مصروفات استهلاكية تدفع للمرتبات والواردات وحسب، بل كذلك إنتاجية موجهة لصناعة الأسلحة التي شهدت تطوراً مهماً في السنوات الماضية نتيجة الاهتمام بالتقدم التكنولوجي. ورغم جانبها الإنتاجي تسهم هذه النفقات مساهمة كبيرة في العجز المالي المزمن، وفي تدهور الأوضاع الاقتصادية للبلد.

مراحل الإنفاق العسكري
لغرض هذا المقال يمكن تقسيم تطور النفقات العسكرية الإيرانية إلى أربع مراحل:
المرحلة الأولى: قبل عام 2003. انتقلت النفقات العسكرية من 3016 مليون دولار في عام 1992 إلى 7024 مليون دولار في عام 2002. خلال هذه الفترة بلغ إذن معدل الزيادة 401 مليون دولار سنوياً. هذه النفقات كانت موجهة إلى بناء القدرات العسكرية بشتى أصنافها. وكذلك تقديم المساعدات العسكرية والمالية للأحزاب المناوئة لنظام الحكم في العراق آنذاك، والتسهيلات العسكرية الممنوحة لسوريا ومنظمات لبنانية.
المرحلة الثانية: من 2003 وإلى 2012. يشكل احتلال العراق بعداً جديداً للإنفاق العسكري الإيراني حيث بدأ التسابق بين القوى الإقليمية في سبيل التدخل في الشأن العراقي. الأمر الذي أدى إلى ارتفاع الإنفاق العسكري الإيراني من 7024 مليون دولار في عام 2002 وإلى 14824 مليون دولار في عام 2006. بمعنى أن معدل الزيادة بلغ 1950 مليون دولار في السنة أي حوالي خمسة أضعاف المعدل مقارنة بالمرحلة السابقة. وبقيت على هذا المستوى حتى عام 2012.
وعلى إثر هذا التسابق ازدادت النفقات العسكرية لجميع دول المنطقة. بل ارتفع الإنفاق العسكري السعودي على نحو يفوق بكثير ارتفاع الإنفاق العسكري الإيراني. فقد انتقلت المصروفات العسكرية السعودية من 29797 مليون دولار في عام 2002 لتبلغ 63514 مليون دولار في عام 2012. كما تضاعفت النفقات العسكرية الإماراتية.
المرحلة الثالثة: من 2013 وإلى 2015. هبطت النفقات العسكرية الإيرانية لتصل في نهاية هذه الفترة إلى 10814 مليون دولار وذلك لأسباب سنأتي إلى ذكرها. لكن نفس هذه الأسباب لم تقد إلى انخفاض النفقات العسكرية السعودية التي سجلت ارتفاعا غير مسبوق لتصل إلى 90258 مليون دولار في عام 2015.
يتضح بأن العقوبات الدولية المفروضة علي إيران من قبل مجلس الأمن (2006-2015) لم تؤثر على حجم النفقات العسكرية الذي بقي مرتفعاً خلال ست سنوات من هذه المقاطعة. وجاءت العقوبات الأوروبية في المرحلة الثالثة أي إنها على عكس العقوبات الدولية ساهمت في خفض الإنفاق العسكري الإيراني.
المرحلة الرابعة: من 2016 ولغاية الآن. ما أن انتهت العقوبات الدولية والأوروبية وإلى حد ما الأمريكية في عام 2015 حتى عادت النفقات العسكرية الإيرانية إلى الارتفاع مجدداً. حيث بلغت 12264 مليون دولار في عام 2016 و 14086 مليون دولار في عام 2017. أي تقريباً نفس معدل الزيادة في الفترة الثانية. وستشهد هذه النفقات ارتفاعاً هائلاً بسبب العقوبات الأمريكية الجديدة التي لم تعد تقتصر على الجانب الاقتصادي كما هو حال المراحل السابقة بل باتت تمثل تهديداً عسكرياً وأمنياً خطيراً.

علاقة النفقات العسكرية بأسعار النفط
شهدت المرحلة الثانية التي انطلقت بعد احتلال العراق ارتفاعاً مستمراً لأسعار النفط التي انتقلت من 28.2 دولاراً للبرميل في عام 2003 إلى 61.0 دولاراً في عام 2006 وإلى 109.5 دولاراً في عام 2012. لا يمكن تفسير تزايد الإنفاق العسكري في إيران إلا عن طريق ارتفاع أسعار النفط الذي قاد إلى تحسن كبير في ماليتها الداخلية والخارجية. ثم هبطت الأسعار بعد عام 2014 فانخفضت النفقات العسكرية. علماً بأن هذا الانخفاض لم يكن بحجم هبوط الأسعار بل اقل منه بكثير. وشهد عام 2016 حالة جديدة في العلاقة محل البحث. فقد تراجعت أسعار الخام إلى 45.1 دولاراً للبرميل في حين ارتفعت النفقات العسكرية. أدى التدخل الإيراني في سوريا والعراق واليمن إلى إعادة النظر في السياسة المالية. أصبحت الأولوية تمنح اكثر من ذي قبل للإنفاق العسكري الذي يخدم المصالح الإيرانية والبحث عن الأموال اللازمة لتمويله مهما بلغ الثمن.
وإذا كانت النفقات العسكرية تزداد رغم انخفاض أسعار النفط فمن باب أولى أصبحت تزداد مع ارتفاع الأسعار. وهذا ما حدث في عام 2017 قياسا بالعام السابق. وهكذا باتت العلاقة بين الإنفاق العسكري وميزانية الدولة تتخذ مفهوماً جديداً.

التداعيات المالية للنفقات العسكرية
عند تحليل مالية الدولة للسنوات الثلاث المنصرمة نستنتج أن إيرادات النفط المخصصة للميزانية العامة شبه ثابتة. تشير هذه الإيرادات (معبراً عنها بالريال) إلى ارتفاع مستمر. والواقع أن هذه الزيادات اسمية فقط ناجمة عن تدهور أسعار صرف الريال مقابل الدولار. فهذه الإيرادات معبراً عنها بالدولار لم تسجل ارتفاعاً مهماً. ولما كانت النفقات العامة خاصة العسكرية تشهد حالياً قفزة كبيرة بالريال والدولار بات من اللازم زيادة الإيرادات الأخرى وهي الضرائب التي انتقلت من 709.6 ترليون ريال في عام 2014-2015 وإلى 1164.6 ترليون ريال في عام 2017-2018. وهكذا غدت الضرائب المصدر الأول للإيراد العام. وتحتل الضريبة على القيمة المضافة والرسوم الجمركية مركز الصدارة في النظام الضريبي الإيراني. بمعنى أن زيادة النفقات العامة المتوازية مع ثبات الإيرادات النفطية يقابلها بالضرورة زيادة الضرائب غير المباشرة وما يترتب على ذلك من تراجع مستمر للقدرة الشرائية.
بات ارتفاع الإنفاق العام خاصة المصروفات العسكرية يفوق زيادة الإيراد العام. أفضى هذا الوضع إلى تفاقم العجز المالي الذي انتقل من 128.3 ترليون ريال (ما يعادل 4.4 مليار دولار) في عام 2014-2015 وإلى 797.2 ترليون ريال (18.7 مليار دولار) في عام 2017-2018.
لتمويل العجز تلجأ الدول عادة إلى الاقتراض أو (و) السحب من الاحتياطي النقدي لدى البنك المركزي. وهذه السياسة معروفة في الدول الصناعية ودول مجلس التعاون وبلدان أخرى. لكن إيران لا تعتمد على القروض الخارجية كي لا تقع في فخ الديون. لذلك لا تعاني طهران من أزمة المديونية الخارجية وذلك على عكس العراق. وعلى نقيض العراقيين أيضاً يتجنب الإيرانيون السحب من الاحتياطي النقدي. لأن هبوط هذا الاحتياطي يقود إلى فقدان ثقة المستثمرين الأجانب بمالية الدولة. كما يطرح نضوبه مشكلة إفلاس الدولة. لذلك لم يهبط الاحتياطي النقدي. وهكذا تصبح الإصدارات النقدية الوسيلة الوحيدة لتمويل العجز المالي.
أدى استمرار طبع النقود إلى انتفاخ الكتلة النقدية فارتفع التضخم. كلما ارتفع التضخم تضرر الفقراء وذوو الدخل المحدود خاصة عندما يتعلق الأمر بسلع ضرورية للمعيشة. وأدى التضخم إلى تصاعد أسعار الفائدة الأمر الذي أدى إلى ارتفاع ثمن القروض. وتراجع سعر صرف الريال.
لكن تمويل العمليات العسكرية الإيرانية الداخلية والخارجية لا يقتصر على الاعتمادات الرسمية المذكورة أعلاه بل يشمل كذلك الأموال التي تحصل عليها بعض القوات المسلحة من مصادر أخرى لا علاقة لها بميزانية الدولة.

تعدد مصادر التمويل
ينجم هذا التعدد عن طبيعة النظام العسكري الإيراني. فإلى جانب الجيش والشرطة والأجهزة التابعة لهما هنالك الحرس الثوري الذي يملك مختلف أنواع الأسلحة الثقيلة البرية والبحرية والجوية. وبالتالي فإن نفقاته عسكرية بدون أدنى شك. وتتأتى مصادر تمويله من ميزانية الدولة كما هو حال القوات المسلحة الأخرى. بل يستحوذ الحرس الثوري على حصة الأسد في الاعتمادات الرسمية.
وإلى جانب هذه المخصصات للحرس الثوري اعتمادات أخرى من مؤسساته الخاصة وأنشطته المختلفة. فهو يملك شركة خاتم الأنبياء وهي من كبار الشركات في الشرق الأوسط. لها مؤسسات مالية وعقارية. وتتولى إنتاج وبيع المواد الكهربائية. كما تهتم بالصناعة العسكرية. لها شركات ومطارات وموانئ. وهنالك تقارير غير رسمية تؤكد على أن إيرادات الحرس الثوري من بعض أنشطته خارج نطاق الميزانية العامة تصل إلى 12 مليار دولار في السنة.
وعلى هذا الأساس فإن الإنفاق العسكري الإيراني الفعلي أعلى مما هو معلن من جهة ولا يعتمد كلياً على ميزانية الدولة من جهة أخرى. لابد إذاً من تقسيم النفقات العسكرية إلى قسمين من حيث علاقتها بالنفط. يتضمن القسم الأول نفقات الجيش والشرطة وأجهزتهما وما يدفع للحرس الثوري من ميزانية الدولة. يعتمد هذا القسم على النفط والضرائب. ويحتوي القسم الثاني على النفقات العسكرية للحرس الثوري الناجمة عن إيراداته الخاصة. ويعتمد هذا القسم على عدة مؤشرات في مقدمتها إيرادات النفط. نصل إذن إلى نفس النتيجة في الحالتين: تأثير أسعار النفط باتجاه أو بآخر على الإنفاق العسكري.
سترتفع النفقات العسكرية الإيرانية في السنة الجارية على نحو غير مسبوق لثلاثة أسباب على الأقل: السبب الأول الاستعدادات لمواجهة الخطر الأمريكي واحتمال تطور العقوبات الاقتصادية الجديدة إلى عمليات عسكرية. يتطلب هذا الوضع المزيد من التعبئة العسكرية. والسبب الثاني وقوف دول كبرى ضد العقوبات الأمريكية. فلا غرابة من عقد صفقات جديدة لبيع الأسلحة المتطورة الأوربية والروسية والصينية إلى إيران. والسبب الثالث الحراك الداخلي الذي يطالب بتحسين مستوى المعيشة.
أما أسعار النفط فسوف ترتفع ولكن سيصعب على إيران الاستفادة منها لأن الحزمة الثانية من العقوبات الأمريكية ستدخل حيز التنفيذ في نوفمبر/تشرين الثاني القادم. ترتبط بالصناعة والصادرات النفطية الإيرانية. لذلك سيجري تمويل تزايد الإنفاق العسكري عن طريق الاستمرار بطبع النقود من جهة واللجوء إلى القروض الخارجية خاصة الروسية من جهة أخرى.
إن تزايد الإنفاق العسكري على هذا النحو سيعقد المشكلة الاقتصادية خاصة التضخم وتدهور سعر صرف الريال والفقر والمديونية. كما ستزداد التوترات السياسية والأمنية في جميع دول الخليج. لذلك لابد من إيجاد الصيغة الملائمة للخروج من هذه الأزمة التي أنهكت اقتصاديات المنطقة وحققت مكاسب هائلة لإسرائيل. إن إزالة هذه التوترات بالطرق السلمية هو الحل الأمثل لمعالجة الأزمة.

منشورات أخرى للكاتب