السعودية: نصف إصلاح يساوي نصف ثورة

منذ بدايات مشروع التغيير في السعودية مع تولي سمو الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز آل سعود ولاية العهد في يونيو 2017، تنامت مخاوف عدة وشكوك حول قدرة إرادة التغيير على تجاوز “الماضي” بما يكتنزهُ من أفهام، موروثات ورموز، وصولاً إلى شبكة المصالح الاجتماعية والسياسية والاقتصادية الفاعلة فيه.

ولئن استطاعت ماكنة الإعلام السعودية التغطية على مثل هذه التحديات وتفاعلاتها في الداخل السعودي إلا أن الأزمة الدبلوماسية الأخيرة بين السعودية وكندا، وصولاً إلى إستدعاء السفير السعودي من أوتاوا واعتبار السفير الكندي في الرياض غير مرحب فيه، أعادت المشهد السعودي إلى المربع الأول؛ الرياض في موقف لا تحسد عليه بعد سلسلة اعتقالات طالت مجموعة من الناشطات الحقوقيات.

القرارات “الاستثنائية”، ومنها السماح بقيادة النساء للسيارات، وتنظيم الحفلات الغنائية المختلطة، وبث خطاب اجتماعي/ ديني ذو صيغة منفتحة، لم تستطع الصمود أمام الدولة الثقيلة والمتخمة بحسها وجهازها الأمني؛ خصوصاً وهي تبدأ منذ منتصف مايو الماضي سلسلة اعتقالات طالت حقوقيات سعوديات، منهن؛ لجين الهذلول ( اختارتها مجلة أريبيان بزنس عام 2015 كإحدى أقوى النساء العربيات تحت سن الأربعين)، عزيزة اليوسف (أدارت حملة لرفع الوصاية عن المرأة وقدمت عريضة إلى الملك سلمان بن عبد العزيز حمل أكثر من 14700 توقيعا)، إيمان النفجان (مدرس في مجال اللسانيات – جامعة الرياض واختارتها مجلة فورين بوليسي ضمن قائمة المفكرين العالميين لعام 2011). ومؤخراً اعتقلت السلطات كل من الناشطة نسيمة السادة، والمدافعة سمر بدوي؛ شقيقة المدون المعتقل رائف بدوي.

الدولة السعودية التي نشأت على تحالف من “البدو” المُنظمين والمنتظمين في حامل ديني، مثلته الدعوة الوهابية، لا يبدو أنها رشيقة بما يكفي لصناعة مشروع تغيير واعد (أو إبداع) هوية وطنية جديدة تحتاج قبل أي شيء الى حامل اجتماعي جديد وفاعل على الأرض. هذا الحامل الاجتماعي (المفقود) لا يمكن أن يكون مجرد خطابات إعلامية لمجموعة من النخب التي تتخذ من دبي وأبوظبي لا الرياض؛ مقراً لإقامتها. دون شك؛ كان مفاجئا/ صادماً لعديد من المراقبين أن تطال الاعتقالات الأخيرة في السعودية وجوهاً من الناشطات والمدافعات اللاتي كان من المفترض أن يكن في الصفوف الأولى داخل مشروعات التغيير، إن لم يكن واجهتها.

كان الرهان هو أن يكون “الحضر” والمدافعون عن الحريات الفردية والمجتمعية من العلمانيين – الذين تموضعوا في ذهنية الدولة السعودية باعتبارهم الخطر الداهم ونموذج الفسادين القيمي والأخلاقي – الوجه البارز في الدولة السعودية (الجديدة)، والحامل الاجتماعي المفترض لتشكل الهوية الجديدة. إلا أن ما حدث ويحدث هو تأكيد على أن التغيير في السعودية لا يزال اعلامياً صرفاً؛ وأن الدولة لا تزال تتوجس من التغيير، وتفتقر الى الثقة بمواطنيها من خارج الجماعات ذات الولاءات التاريخية لمؤسسة الحكم.

أرادت الرياض منذ بدء مشروع التغيير أن يكون مشروعاً مشروطاً؛ انتقائياً، مشروعاً تحكمه قاعدة تاريخية تقوم على أن أي إصلاحات أو تغيير أو سماح بالمزيد من الحريات المجتمعية أو الفردية هو دائماً وأبداً ما سيأتي من خلال (مراسيم وقرارات ملكية)، لا عبر مطالبات (مجتمع مدني) مستقل بذاته. ولعل هذا ما يفسر غضب الرياض على عديد الحقوقيات اللاتي تجاوزن هذه القاعدة، وفضلن العمل على المطالبة بالمزيد من الحريات والحقوق للمرأة السعودية من خارج مؤسسة الدولة؛ لا داخلها.

يستقطب مشروع التغيير في السعودية قواعد الجماعات العلمانية والمنفتحة، ويحاول الأمير الشاب جاهداً تقديم وجوه جديدة لإدارة مشروعه الطموح في البلاد. لكنه أيضاً؛ استدعاء مرتبك، مسكون بهواجس حسابات الداخل وتوازنات القوى والجماعات والحفاظ على قاعدة أن بيت الحكم هو أول الدولة ونهايتها تارة، وبالصراعات السياسية في الإقليم المشحون بالاضطرابات والاصطفافات الحادة تارة أخرى. هذا الارتباك الذي كان خارج اطار الصورة مع بدايات مشروع التغيير والإصلاح المُتسارع والشجاع في أيامه الأولى، بات يتصدر اليوم انشغالات الإعلام السعودي رغماً عنه، وعنواناً لأزمات الدولة الخارجية.

على أي حال؛ على الرياض أن تدرك – بوضوح – أن لمشروعات التغيير والاصلاح السياسي والاجتماعي كُلفة لا مفر من القبول بها، والإستعداد لتقديمها، وبما يشمل القبول بأن للمواطنين السعوديين أفهاماً وآراءاً وقناعات وتوجهات لا يجب أن تتماثل ووجهة النظر الرسمية. وأن خطر الوقوف عند (نصف إصلاح) لا يقل عن خطر المضي في (نصف ثورة).

منشورات أخرى للكاتب