معركة الحُديدة: السيناريوهات المُحتملة

على مدى ثلاثة أعوام ونيف، ظلت الحُديدة بالنسبة للتحالف العربي الذي تقوده السعودية (معركة مؤجلة). فالمدينة التي تُعد أحد المنافذ الرئيسية لليمن على البحر الأحمر، شكلت –قديماً- طريقاً لكل احتلال عرفته البلاد، وممراً للوصول إلى صنعاء.

في ـ13 يونيو 2018، كان قرار الحسم في المعركة التي جرى العمل عليها مُسبقاً، وتأجلت فيها (ساعة الصفر) لتشهد البلاد أكبر عملية عسكرية منذ انطلاق “عاصفة الحزم” مارس 2015. الهدف كان استعادة مطار وميناء الحُديدة من جماعة أنصار الله (الحوثيون) على وقع تحذيرات المنظمات الإنسانية من تبعات الهجوم العسكري على حياة مئات الآلاف من المدنيين، في صراع دخل أكثر مراحله وحشية.

لكن ما هي أهمية هذه المدينة؟ ولماذا معركة الحُديدة، الآن؟ تاريخياً؛ ارتبطت الحديدة وسواحلها والجُزر التابعة لها، بموجات غزو القوى الأجنبية الطامعة في اليمن. تعرضت المدينة لحملات استعمارية من قبل الرومان والبرتغال والبريطانيين. في عام 1848 اتخذها العثمانيون قاعدة عسكرية للانطلاق نحو شمال البلاد. وبعد هزيمتهم، سيطر عليها حاكم عسير الإمام محمد الإدريسي. في عام 1925 تمكن الإمام يحيى حميد الدين من استرجاعها لكن القوات السعودية سيطرت عليها عام 1934، مُقابل تقدم القوات اليمنية في عسير، لتعود من جديد إلى اليمن بموجب اتفاقية الطائف في نفس العام.

تمتد المدينة على الشريط الساحلي الغربي المُطل على البحر الأحمر. تبلغ مساحتها 117145 كيلو متراً مربعاً ويقطنها نحو مليوني نسمة. وتتصل بالعاصمة صنعاء عبر طريق إسفلتية طولها 226 كيلومتر.

تضم المحافظة مينائي (الصليف) و(الحديدة)، والأخير يُعد ثاني أهم ميناء على مستوى البلاد، والمنفذ الرئيس للمساعدات الإنسانية والمواد الغذائية التي يعتمد عليها ثلثا السكان. ويمر عبره نحو 4 ملايين برميل من النفط الخام، يومياً. تنتشر قُبالة سواحل الحديدة، أهم الجزر اليمنية (40 جزيرة)، منها جزيرة كمران وجُزر أرخبيل حُنيش، تعرضت العديد من هذه الجزر للاحتلالين البرتغالي والبريطاني.

الإمارات “عرّابة” المعركة

مع اقتراب معركة الحديدة، حرصت الرياض على البقاء في “الظل”، فيما تصدّرت أبوظبي المشهد الإعلامي والعسكري، لتكون”عرّابة” المعركة بامتياز. نجحت الإمارات في جمع ثلاث قوى غير مُتجانسة؛ العمالقة (تنتمي للتيار السلفي)، والمقاومة الوطنية (تضم عناصر من الحرس الجمهوري الذي كان يتبع الرئيس صالح)، مقاومة تهامة (تتألف من مقاتلين موالين للرئيس هادي). وقُبيل انطلاق ساعة الصفر؛ أطل الرئيس عبد ربه منصور هادي من أبوظبي مانحاً (شرعية الهجوم) على المدينة.

تكتسب معركة الحديدة، أهمية بالغة لقوات”التحالف”من جهة، وجماعة أنصار الله من جهة أخرى؛ من شأن انتصار أو هزيمة أي طرف من الأطراف المُتصارعة دخول البلاد في سيناريوهات عديدة، على المستويات العسكرية والسياسية والاقتصادية.

بالنسبة لقوات هادي المدعومة من التحالف؛ تمثل الحُديدة أحد أهم معاركها لانتزاع آخر منفذ بحري يقع تحت سيطرة أنصار الله ما يعني حرمانهم من الأسلحة الإيرانية التي تصلهم عبر الميناء، بحسب اعتقادهم. فضلاً على أن التحالف ينظر إلى سقوط المدينة باعتباره مُنعطفاً هاماً في مسار الحرب ودافعاً قوياً للتقدم أكثر باتجاه السيطرة على المدن المُتاخمة للحُديدة (المحويت، ريمة، حجة). كما يُشكل تحولاً جوهرياً في موازين القوى لصالح ما يُعرف بـ” قوات الشرعية”، من خلال تقوية موقفها الاقتصادي والعسكري، وتجريد (الحوثيين) من أهم مصدر مالي، وحملهم على الرضوخ لشروطهم في أي حل سياسي مُستقبلي.

في المُقابل؛ تنظر جماعة أنصار الله إلى المعركة بـ”المصيرية” التي تُمكنها من الاحتفاظ بورقة تفاوض رابحة، تفرض من خلالها شروطها وتحمي بقاءها. الخسارة؛ تعني انتقال مصدر القوة التي مثلته المدينة إلى الطرف الآخر. وفقدان آخر منفذ بحري، ما يحرم الجماعة من أحد أهم مصادرها المالية، ويجعلها عُرضة لحصار اقتصادي وعُزلة طويلة، والقضاء على تواجدها في ساحل المدينة الذي يُشكل بوابة انطلاق لهجماتها ضد سفن وبوارج التحالف في البحر الأحمر.

وفيما يتعلق بجانب دول التحالف؛ فإنها تسعى لتحقيق أهداف خاصة ترتبط بأمنها ومصالحها وبأمن ومصالح حُلفائها وأصدقائها الدوليين الداعمين لها في هذه الحرب.

وبناءًا على العديد من القراءات؛ تتجاوز أهداف الحرب القائمة دحر (الانقلاب على الشرعية)، إلى أهداف أخرى ذات صلة بتنافس الرياض وأبوظبي مع دول إقليمية أخرى (إيران وتركيا)، على النفوذ في البحر الأحمر وخليج عدن.

العواصم الكبرى موجودة

كشفت معركة الحُديدة تحولات كبيرة في مواقف واشنطن وباريس ولندن تجاه الموافقة الضمنية على قرار الحسم العسكري. مصادر في حكومة هادي، أكدت تلقي الرياض وأبوظبي ضوءاً أخضراً أمريكياً لبدء الهجوم. فيما سُجل دور فرنسي مُتقدم في هذه المعركة، وهو ما يُمكن قراءته من خلال إعلان أنصار الله ضبط زورق فرنسي قُرب الميناء. يُضاف لذلك، ما كشفته صحيفة “لوفيغارد” الفرنسية عن وجود قوات فرنسية خاصة في اليمن إلى جانب القوات الإماراتية.

وبحسب المعلومات المُتاحة؛ تُقدم بريطانيا دعماً مُتعدداً للتحالف، وهو دور انتقدته رسالة وجهها مجموعة من البرلمانيين والأكاديميين والفنانين البريطانيين إلى رئيسة الوزراء تيريزا ماي، يحتجون فيها على ما يعتبرونه دعم بلادهم للهجوم على ميناء الحُديدة.

4 سيناريوهات.. وتفاؤل حذر

يُمكن توصيف إمكانية سيطرة التحالف على المدينة بـ “السهل المُمتنع”، فالتحديات كبيرة وهو ما يطرح بدوره عدة سيناريوهات، عمّا سيؤول اليه وضع المدينة ومسار الحرب بصفة عامة وانعكاس ذلك على العملية السياسية. ومع تصاعد القتال باتجاه الميناء، يبدو الوضع الإنساني أكثر قتامة وسط مخاوف بأن تصل المعركة إلى “نقطة اللاعودة”، وقطع شريان الحياة الوحيد لمعظم اليمنيين في الشمال.

وفق أسوأ السيناريوهات؛ فإن 250 ألف شخصاً قد يلقون حتفهم بصورة مباشرة (الأمم المتحدة). بينما هناك 1،1 مليون شخص مُعرضون للنزوح والحصار (برنامج الغذاء العالمي). وفي ظل استعداد طرفي الصراع لخوض حرب شوارع، ارتفعت أصوات تُحذر من مصير مجهول لـ300 ألف طفل عالقين داخل المدينة (منظمة أنقذوا الأطفال).

إطالة المعركة

تُشير المعطيات؛ إلى أن المدينة مُقبلة على معركة طويلة، مع استعادة أنصار الله لزمام المبادرة. من هُنا؛ فإن ذلك من شانه أن يُفاقم الأوضاع الإنسانية، بما يفوق احتمال الدول الداعمة للتحالف واللجوء للضغط باتجاه الحوار.

كما أن فشل الرياض وأبوظبي في تحقيق وعدهما بـحرب خاطفة، قد يدفع واشنطن لكبح جماح الهجوم على المدينة، والضغط باتجاه قبول مُقترح أنصار الله بإيكال مهمة الإشراف على إيرادات الميناء للأمم المتحدة. قبالة ذلك، إن دخول طرفي النزاع في حرب استنزاف قد يؤدي لاحتمال تنفيذ أنصار الله تهديداته باستهداف أبوظبي، وتعطيل ممرات الملاحة في البحر الأحمر وباب المندب.

من المتوقع أن يؤثر قرار خوض حرب شاملة في المدينة بشكل عميق على التسوية السياسية التي يسعى اليها المبعوث الاممي مارتن غريفيث (معركة الحُديدة سترفع خيار السلام من الطاولة). أما في حال التوجه إلى السيطرة على الميناء؛ يكون التحالف أمام خيارين؛ الأول: من المطار، عبر أحياء ذات كثافة سُكانية سيضطر فيها الى خوض معارك تقوض تفوقه الجوي. والثاني؛ عبر القيام بإنزال بحري ما يجعل القوات عُرضة لصواريخ أنصار الله والغامهم، خاصة مع فشل الإنزال البحري الأول الذي نفذه التحالف مع الأيام الأولى للمعركة.

ولو فُرض، جدلًاً، استعادة الحديدة؛ فإن هذا لا يعني التخلص من تهديدات “الحوثي”؛ فسلسلة الجبال الشرقية المحيطة بالمدينة، تُشكل بيئة مؤاتية للجماعة لاستهداف المدينة وبوارج التحالف، ليجد الأخير نفسه يخوض نوعاً جديداً من المعارك، من خلال العمل على تأمين الحديدة من تلك الهجمات، وهو ما يعني بدء معركة صنعاء، وفق مراقبين.

الميناء تحت إشراف أممي

يعد هذا السيناريو إحدى الاحتمالات المتوقعة الذي من شأنه أن يجنب المدينة كُلفة حرب كبيرة. عموماً؛ تبقى كل الاحتمالات واردة. لكن، ما يبدو هو أن لانهاية قريبة تلوح في الأفق للحرب في اليمن، ليبقى الخاسر في هذا كله هم المدنيون.

منشورات أخرى للكاتب