هكذا ستفلت إيران من مصيدة العقوبات الأمريكية

فرضت الإدارة الأمريكية عقوبات ضد إيران ستدخل حيز التنفيذ قريباً وبطريقتين: أولهما الضغط على جميع الشركات التي تعقد صفقات تجارية مع إيران. وثانيهما فرض قيود شديدة على التعاملات المالية مع طهران.

وبالنظر للثقل الاقتصادي والعسكري والسياسي للولايات المتحدة ينبغي عدم الاستهانة بتداعيات هذه الإجراءات الخطيرة. وبالمقابل لا يجوز المبالغة في فاعليتها لأسباب ترتبط بمصالح الدول خاصة الأوروبية من جهة وبالسوق النفطية من جهة أخرى.

دروس عقوبات الماضي القريب

بسبب احتلال الكويت قرر مجلس الأمن في عام 1990 فرض حصار شامل ضد العراق. تضمن حظر جميع اوجه المعاملات المالية والتجارية الخارجية بما فيها الصادرات النفطية. ولم يسمح للعراق الحصول على الإيرادات إلا في نطاق الدوافع الإنسانية بموجب “برنامج النفط مقابل الغذاء والدواء”. ولم تستطع بغداد التصرف بهذه الإيرادات كيفما تشاء بل كانت مودعة في صندوق خاص تشرف عليه منظمة الأمم المتحدة. وهكذا هبطت بشدة الصادرات النفطية وساءت الأحوال المعيشية للمواطنين وتدهورت مالية البلد وضعفت قدراته الصناعية وانهارت قوته العسكرية وتلاشى تماماً دوره الإقليمي.

أما الوضع في إيران فهو مختلف تماما. فخلال فترة العقوبات السابقة تحسنت الصناعات التحويلية المدنية والعسكرية. وتزايد نفوذ طهران في المنطقة العربية.

بين 2006 و 2010 اتخذ مجلس الأمن أربعة قرارات تناولت تجميد الأموال الإيرانية المودعة في الخارج ومنع الحصول على معدات لها صلة بالبرنامج النووي وحظر بيع الأسلحة الثقيلة وتقييد سفر بعض المسؤولين الإيرانيين إلى الخارج. وعلى خلاف العراق لا توجد في هذه القرارات إشارة إلى محرك الاقتصاد الإيراني وهي الصادرات النفطية. فقد اقتصرت المقاطعة النفطية على الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي. علماً بأن الإدارة الأمريكية فرضت حصاراً شاملاً ضد طهران لأسباب لا علاقة لها بالنشاط النووي.

أما الاتحاد الأوروبي فقد فرض حظراً ضد النفط الإيراني في عام 2012. كانت الواردات النفطية الأوربية من إيران تمثل 18% فقط من الصادرات النفطية الإيرانية التي تكاد تنحصر بأسبانيا وإيطاليا. وسرعان ما لجأ الاتحاد الأوروبي إلى روسيا لتعويض هذا النقص.

عملت إيران باتجاهين لمعالجة خسارتها النفطية في أوروبا. فمن ناحية استطاعت تحسين مبيعاتها إلى آسيا لأن عرض الخام كان ضعيفاً مما يفسر ارتفاع سعره. كما كانت دول هذه القارة لا سيما الصين واليابان والهند بحاجة إلى المزيد من الطاقة. وبالتالي فقدت العقوبات الأوروبية فاعليتها وبسرعة فائقة.

ومن ناحية أخرى تطورت العلاقات التجارية الروسية-الإيرانية وبات الطرفان يعقدان صفقات لمبادلة النفط الإيراني بسلع ومعدات روسية مدنية وعسكرية. وهكذا كانت روسيا تبيع بصورة مباشرة أو غير مباشرة النفط الإيراني إلى أوروبا. ومن الناحية الرسمية كانت أوروبا تشتري نفطاً روسياً.

بالنتيجة النهائية لم يتأثر الإنتاج الإيراني وبقي محافظاً على مستواه قبل وأثناء وبعد العقوبات. فلو تراجع الإنتاج الإيراني بسبب العقوبات كما حدث في العراق لانهار دورها في المنطقة. ولو كان السعر 15 دولاراً للبرميل كما كان الوضع في العراق لما استطاعت طهران تعويض خسارتها في أوروبا لعدم إمكانية بيع المزيد من النفط لآسيا.

يمكن إثبات عدم فاعلية تلك العقوبات من جانبين. الجانب الأول أن جميع أوجه التقدم التكنولوجي المدني والعسكري حدثت أثناء فترة العقوبات. فعلى سبيل المثال انتقل عدد براءات الاختراع المسجلة في إيران من 529 براءة في عام 2001 إلى 2880 براءة في عام 2014. أصبح البلد خلال هذه الفترة مصدراً للسيارات والأدوية والأسلحة. ومن المعلوم أن صناعة هذه السلع تعتمد اعتماداً كبيراً على البحث العلمي. كما بدأ التدخل العسكري الفعلي في سوريا أثناء العقوبات.

والجانب الثاني إن رفع العقوبات في منتصف عام 2015 لم يفض إلى تحسن واضح للوضع التجاري والمالي للبلاد. لاشك أنه أدى إلى تزايد الاستثمارات الأجنبية المباشرة خاصة الأوروبية. كما تم الإفراج عن الأموال الإيرانية المجمدة في الخارج الأمر الذي أعطى نفساً جديداً للمالية العامة. ولكن وبفعل السياسة الاقتصادية المتبعة المتسمة بارتفاع الإنفاق العسكري الداخلي والخارجي تدهور مستوى المعيشة وارتفع التضخم وهبط بشدة سعر صرف الريال وتفاقم الفقر.

وإذا كانت العقوبات غير فاعلة في تطبيقاتها السابقة فإنها كذلك ومن باب أولى في تطبيقاتها الحالية. مما لاشك فيه لا يجوز تهميش الإجراءات الأمريكية بل أن تبعاتها سلبية على الاقتصاد الإيراني من جميع جوانبه. لكن أوربا لم تفرض أية عقوبة على طهران بل وقفت ضد العقوبات الأمريكية. ويعود هذا الخلاف الجديد إلى المصالح الاقتصادية.

تباين المصالح الأمريكية والأوروبية

خلال الفترة بين 1985 و1991 انتقلت الصادرات الأمريكية إلى إيران من 74 مليون دولار إلى 527 مليون دولار. وانتقلت الواردات الأمريكية من إيران من 725 مليون دولار إلى 230 مليون دولار. كان الميزان التجاري لصالح إيران في بداية الفترة فاصبح لصالح الولايات المتحدة في نهايتها. وفي الحالتين كانت الولايات المتحدة تحتل مركز الصدارة في المبادلات الخارجية الإيرانية. ومنذ منتصف التسعينيات من القرن المنصرم ولأسباب سياسية تراجعت بشدة هذه الأهمية حتى أصبحت صادرات الولايات المتحدة إلى إيران 137 مليون دولار ووارداتها منها 63 مليون دولار في عام 2017.

وعلى نقيض هذا الاتجاه سجلت التجارة الخارجية الأوروبية-الإيرانية تقدماً ملموساً في السنوات الأخيرة. ففي عام 2017 بلغت صادرات ألمانيا إلى إيران 2.9 مليار يورو ووارداتها منها 0.4 مليار يورو. وبلغت الصادرات الفرنسية إلى إيران 1.5 مليار يورو والواردات الفرنسية من إيران 2.3 مليار يورو. كما تلعب بريطانيا وإيطالياً دوراً مهماً في المبادلات الخارجية الإيرانية.

وتصدر أوروبا عدة سلع إلى إيران في مقدمتها الأدوات الكهربائية والسيارات والأدوية. أما الصادرات  الإيرانية إلى أوروبا فتكاد تنحصر بالنفط.

بسبب هذا الاختلاف الهائل في حجم التبادل التجاري وكذلك في الاستثمارات المباشرة تصبح العقوبات الأمريكية موجهة بالدرجة الأولى ضد الشركات الأوروبية. يفسر هذا الوضع محاولات الأوربيين التصدي للعقوبات الأمريكية بوسائل عديدة. كما يعول الإيرانيون على الاتحاد الأوروبي في الحد من وطأة العقوبات. إذ تعتقد طهران أن صادراتها النفطية سوف لن تتأثر إذا نجح الأوروبيون في سعيهم.

لتقدير الدور الأوروبي الجديد يتعين العودة إلى عام 1996 عندما قدم الاتحاد الأوروبي شكوى أمام جهاز فض المنازعات التابع لمنظمة التجارة العالمية ضد قانون داماتو الأمريكي المتعلق بمعاقبة أية شركة (بغض النظر عن جنسيتها) تتعامل مع ليبيا أو إيران. يتعارض هذا القانون مع الاتفاقات التجارية المتعددة الأطراف التي توجب الرجوع إلى المنظمة لتسوية الخلافات التجارية وتحرم العقوبات الانفرادية.

لكن ذلك الجهاز لم يدن القانون الأمريكي خشية انسحاب الولايات المتحدة من المنظمة الفتية. الأمر الذي قد يؤدي إلى انهيارها خاصة وإن الإدارة الأمريكية كانت تصر على أن المنظمة غير معنية بالنظر في القانون الذي ينظم العقوبات ضد الشركات التي تتعامل مع البلدان غير الديمقراطية والراعية للإرهاب الدولي. وبالتالي فإن المشكلة سياسية وليست تجارية في التحليل الأمريكي. أما الاتحاد الأوروبي فلا يعتد بمقاصد العقوبات الأمريكية بل بمآلاتها. يمثل القانون تدخلاً واضحاً في المصالح الاقتصادية الأوروبية ويقود إلى تدهورها. وهكذا طلبت المنظمة من الولايات المتحدة سحب (وليس إلغاء) قانون داماتو. ولم تمتثل واشنطن لهذا الطلب. وهذا ما يخالف تلك الاتفاقات. لذلك دخل الأوربيون في مفاوضات ثنائية مع الولايات المتحدة فتم الاتفاق على عدم سريان القانون على الشركات الأوروبية.

يبدو واضحاً حالياً عدم رغبة الاتحاد الأوروبي بتقديم شكوى مماثلة أمام منظمة التجارة العالمية لعلمه بعدم جدوى نتائجها. سيسعى إذن إلى إبرام اتفاق آخر مع الولايات المتحدة غايته إعفاء الشركات الأوروبية من العقوبات الأمريكية ضد إيران. لكن المؤشرات الحالية تدل على صعوبة حصول الأوروبيين على نفس المكاسب التي حصلوا عليها في منتصف التسعينيات بسبب تصلب الموقف الأمريكي.

لذلك قرر الأوربيون في الشهر المنصرم تفعيل “قانون العرقلة” الذي سيطبق اعتباراً من السادس من آب القادم. وبموجبه تلتزم الشركات الأوروبية العاملة في إيران بعدم الرضوخ للمطالب الأمريكية وإلا فسوف تتحمل غرامة مرتفعة.

كما اتخذت الدول الأوروبية إجراءات للدفاع عن مصالحها. فقد قررت ألمانيا تعويض شركاتها العاملة في إيران المتضررة من العقوبات الأمريكية. وستقدم فرنسا تسهيلات تجارية للإيرانيين الراغبين في استيراد سلع فرنسية.

علاقة العقوبات بالنفط

لا يمكن للعقوبات الاقتصادية الأمريكية ضد إيران أن تكون فاعلة إلا إذا هبطت أسعار النفط بسبب كون الإيرادات النفطية المحرك الأساس للاقتصاد الإيراني. تظهر هذه الأهمية في ميزانية الدولة وفي الميزان التجاري.

تعاني الميزانية العامة من عجز مزمن قدره 797.2 ترليون ريال في عام 2017 أي ما يعادل 18.9 مليار دولار وفق سعر الصرف الرسمي. في حالة هبوط أسعار النفط يضطر الإيرانيون إلى رفع الضغط الضريبي فتتدهور الحالة المعيشية للمواطنين. كما يقود هذا الهبوط إلى تزايد عجز الميزانية العامة.

وعلى الرغم من تحسن الصادرات الصناعية كالسيارات والأدوية والأسلحة نتيجة التقدم العلمي الذي أحرزته الدولة وعلى الرغم من أهمية صادرات المنتجات الزراعية والحديد والملابس يمثل انخفاض أسعار النفط خطورة كبرى للميزان التجاري. الأمر الذي يفضي إلى تراجع الاحتياطي النقدي وتدهور سعر الصرف وارتفاع سعر الفائدة.

لكن هذه الفرضية لم تتحقق. فقد تزامنت العقوبات الأمريكية الحالية مع ارتفاع أسعار النفط. بل أن هذه العقوبات أسهمت إلى حد ما في هذا الارتفاع.

كما لا ترغب دول مجلس التعاون إطلاقاً في زيادة الإنتاج بغية خفض الأسعار بسبب عجز ميزانياتها المزمن الناجم بالمقام الأول عن الاعتمادات العسكرية الهائلة. وبالتالي ستكون العقوبات الأمريكية ضعيفة الفاعلية.

سيتأثر الاقتصاد الإيراني بالعقوبات الأمريكية من عدة زوايا ترتبط بالنمو ومستوى المعيشة والاستثمار وسعر الصرف والتمويل. وستعتمد درجة التأثر حسب طبيعة العقوبات التي ستتخذ قريباً وحسب درجة تنفيذها. ولكن من الناحية المبدئية سوف لن تعاني إيران كما عانى العراق نظراً لارتفاع أسعار النفط ومساندة الجانب الأوروبي إضافة إلى روسيا. نستنتج إذن بان هبوط أسعار النفط إلى 15 دولار للبرميل مع غياب العقوبات الأمريكية أكثر فاعلية في الضغط على الاقتصاد الإيراني من تطبيق هذه العقوبات مع وصول الأسعار إلى 77 دولاراً للبرميل.

منشورات أخرى للكاتب