ستة حوافز قطرية لتجاوز الأزمة الخليجية
في الخامس من يونيو المقبل تطوي الأزمة الخليجية عامها الأول. في يد؛ خسائر مالية كبرى تكبدتها العواصم الخليجية المشتبكة. وفي اليد الأخرى، تداعيات سياسية واقتصادية واجتماعية حادة وحرب اعلامية طاحنة.
وإذ تتباين توقعات الخسائر القطرية جراء الطوق الذي فرضته كل من السعودية والإمارات والبحرين براً وبحراً وجواً، إلا أن الملاءة المالية القطرية أولاً وتردد واشنطن في دعم الطوق الخليجي على قطر ثانياً، ساهما في أن يمُر القطريون من العام الأول بنجاح، ولتتجاوز الدوحة “الأسوأ”، وبما يصل حد التدخل العسكري على أراضيها.
ولئن كان المُنجز القطري يحفز الدوحة على تثبيت موقفها الرافض لشروط دول الطوق الخليجية إلا أن هذا الخيار من شأنه تعميق أزمتها والنزوح بها الى طريق اللاعودة. مثلُ هذا الخيار يتطلبُ من الدوحة تحمّل نزيف احتياطاتها المالية وابقاء العين يقظةً على المزاج الداخلي لمجتمع قبلي متدين حديث العهد بالسياسة وصراعاتها. وعليه؛ لا مفر من اقرار الدوحة بأن تذويب الأزمة والعودة إلى الحاضنة الخليجية هو الخيار الأفضل.
دول الحصار/ المقاطعة (السعودية والإمارات والبحرين ومصر) كانت قد أرسلت إلى الوسيط الكويتي قائمة تتكون من 13 مطلباً. واعتبرت الدوحة أن بعض المطالب تُصادرُ قرارها السيّادي مؤكدة ترحيبها بالحوار تحت الوساطة الكويتية.
وفي هذا الورقة نستعرض سلة حوافز من ست نقاط تستطيع الدوحة تقديمها على طاولة الحوار، خصوصاً وأن شروط التسوية التي قُدمت في يونيو 2017 لا تتيح صياغة أو مضموناً أي مساحات معقولة/ مقبولة للحوار.
تتضمن سلة الحوافز المقترحة ما يمكن اعتباره تجاوباً قطرياً معقولاً/ مقبولاً مع مطالبات دول الحصار وبما لا يمس سيادة الدوحة على قرارها السيّادي؛ ولهذا أميل لتسميتها بالحوافز لا التنازلات. يبقى التأكيد على أن أي خطوة قطرية نحو تسوية الأزمة هي مرهونة بأن يكون الطرف المقابل – خاصة الرياض – لديه ما يكفي من الاستعداد لطي صفحة الأزمة وتجاوزها، عوض الإستمرار في سياسة صناعة الأزمات والعجز عن حسمها.
- تجميد العلاقات مع الإخوان
كثفت قطر – على مدى 25 عاماً – تركيز قدراتها وامكانياتها في التشبيك مع جماعات الإسلام السياسي والمراهنة عليها في جميع دول المنطقة لتلعب دوراً اقليمياً كان ولا يزال مثار جدل واسع. وحقق الاستثمار القطري في جماعة الاخوان المسلمين ما بين العامين 2011 – 2012 مكاسب وازنة مع انطلاق ثورات الربيع العربي الذي تسيد مشهده ويومياته رئيس الوزراء ووزير الخارجية السابق حمد بن جاسم آل ثاني. في العام 2013 واجهت كل من السعودية والامارات نفوذ الدوحة المُتصاعد في مصر وليبيا وتونس وسوريا بردود حاسمة (عسكرية) كما هو الحال في مصر وليبيا، وبردود أخرى (ناعمة) كما هو الحال في تونس.
ومنذ يونيو 2013 مع الانقلاب العسكري في مصر تتموضع جماعة الإخوان المسلمين – أحد أهم ملفات الاشتباك في الأزمة الخليجية – عبئاً ثقيلاً على قطر داخلياً وخارجياً، خصوصاً وأن الجماعة المُثقلة بانكسارات عام 2013 هي اليوم حبيسة ذهنية الانتقام من جهة ورحى الانقسامات الداخلية والتشظي من جهة أخرى. يزيد الأمور تعقيداً نجاح مشروع (شيطنة الإخوان) الاقليمي والحصار السياسي والأمني والإعلامي لها. يُضاف لذلك، فشل الجماعة في الملف السوري وخيار الانكفاء والقبول بتموضع (الصف الثاني) في تونس.
وسواء أكان حافز “فك الارتباط والدعم لجماعة الإخوان المسلمين” يرتبط بسلة حوافز تُقدمها الدوحة لدول الحصار أو لا، لا يبدو أن من مصلحة قطر الإستمرار في تبني جماعة باتت تُمثل في ثقلها وعجزها وضبابية مستقبلها السياسي استنزافاً سياسياً واقتصادياً للدوحة دون أن يكون في الأفق أي أرباح جيوسياسية متوقعة. وعلى أي حال، تبدو الخيارات كثيرة؛ تمتلك الدوحة من النفوذ داخل الجماعة ما يتيح لها الضغط للقبول بصيغة مقترح (اعادة احتواء) داخل مصر تحت شروط لن تكون عادلة بالتأكيد. وتمتلك أيضاً تصدير الملف كاملاً لحليفها الاستراتيجي (تركيا).
- من الامبراطورية القطرية الى الإمارة الواعدة
مع انقلاب مصر يونيو 2013 والتدخل الروسي في سوريا وتراجع حزب النهضة في تونس أدركت قطر مبكراً ضرورة التراجع عن لعب دور البطولة في المعارك الخاسرة، وهو ما حدث بالفعل مع انسحاب قطر من الملف السوري (2013) لترث الرياض تركة ثقيلة على ظهرها. الانسحاب القطري استُكمِل بتنازل الأمير الوالد حمد بن خليفة ال ثاني عن الحكم (25 يونيو 2013) ليرتقي سدة الحكم الأمير الشاب تميم بن حمد آل ثاني.
بطبيعة الحال؛ لم يكن أمام الأمير تميم بن حمد إلا أن يتعامل مع التركة السياسية الكبيرة التي ورثها من أبيه؛ حرب باردة مع الرياض وأبوظبي، وعمليات قلب مفتوح في سوريا وليبيا، وحليف ممزق ومنهار في مصر (الإخوان المسلمون). كل ذلك لم يمنع الأمير الشاب من أن يتموضع في صورة الشاب المهتم بالملفات الاقتصادية والتنموية والرياضة؛ وفق قاعدة مفادها: القليل من السياسة والكثير من الاقتصاد.
وبقدر ما يمكن اعتبار الامبراطورية القطرية التي ورثها الأمير تميم بن حمد غنيمة جهد كبير للثنائي الأهم في تاريخ قطر الحديثة (الأمير الوالد حمد بن خليفة ورئيس الوزراء ووزير الخارجية السابق حمد بن جاسم) إلا أنها إمبراطورية آن آوان تفكيكها، واعادة ضبطها وتنظيمها، والتخلص من ثقيل اعبائها ومؤسساتها وعرّابيها في اقليم أثبت أنه عصّي على المراهنات/الاستشارات الهشة.
لا يعني مثل هذا الخيار الاستغناء عن مؤسسات هذه الامبراطورية بقدر ما يشي باعادة هيكلتها وتوظيفها لصالح الدولة في شكلها الجديد وخياراتها الحديثة، التي هي بكل تأكيد تتمايز وتختلف عما كانت عليه في السنوات العشرين الماضية.
- قطرنة الجزيرة
مثلت قناة الجزيرة الفضائية الذراع الاعلامية الضاربة لقطر منذ أواخر عام 1996 وحتى اليوم. ولعبت الجزيرة دوراً هاماً وفاعلاً في أكثر من ملف آخرها ما يُعرف بثورات الربيع العربي. الأكثر من ذلك؛ يمكن اعتبار الجزيرة أهم مشروع اعلامي عربي منذ القرن الفائت.
كانت الحكومة القطرية قد بدأت قبل الأزمة الخليجية يونيو 2017 برنامجاً لتقليص نفقات القناة العملاقة شمل الاستغناء عن بعض القنوات (الجزيرة – أميركا) وتسوية خدمات المئات العاملين فيها. وتطالب الرياض وأبو ظبي والمنامة والقاهرة باغلاق الجزيرة وهو مطلب مستبعد التنفيذ خصوصاً وأن الجزيرة اثبتت للقطريين أنها مكسب حقيقي وثمين. ورغم ذلك؛ قد تكون بعض التغييرات الجذرية في هيكلية القناة واهتماماتها وخطها التحريري كفيلة بقبول دول الحصار وترحيبها، لا يقتضي ذلك تحويل الجزيرة الى قناة محلية لكنه يحولها من الانشغال بالسياسة الى الإشتغال بها.
- مكتب الاتصال الخليجي وجهود مكافحة الإرهاب
تتركز عديد المطالبات الخليجية في ملف الإرهاب. وهو ملف شائك ومعقد، تتبادل دول الخليج الاتهامات حوله وفيه. الأهم من ذلك؛ هو ان اشتراطات دول الطوق أثارت للدوحة مخاوف جادة في نزع سيادة الدول على قرارها الداخلي والخارجي على حد سواء؛ يضاف لذلك اختلاف المفاهيم والأفهام حول الإرهاب، تعريفاً، قوائما، ومصادرا.
يبدو من الصعب على الدوحة التورط في تقديم اي التزامات فضفاضة في هذا الملف؛ وقد يكون الأجدى هو نقل الملف الى مجلس التعاون الخليجي عبر اقتراح قطري بإجراء تعديل على “الاتفاقية الأمنية لدول مجلس التعاون الخليجي” يقضي بإنشاء مكتب اتصال خليجي لمكافحة الإرهاب، يختص بتبادل المعلومات ومراقبة المؤسسات الخيرية والمصرفية والتعاون الأمني بين العواصم الخليجية.
تستطيع دول الخليج كافة وبما يشمل الكويت وسلطنة عمان تنظيم ومعالجة هذا الملف من خلال هذا المكتب الذي سيمثل القناة القانونية لتبادل المعلومات داخلياً ومع الولايات المتحدة – كما طالبت دول الحصار – وعمليات المراقبة وبما يشمل حل أي خلافات ترتبط بملف الإرهاب وتعقيداته. وبطبيعة الحال؛ سيكون لتواجد كل من الكويت وعمان سلطة الضبط من استغلال المكتب لفرض أي املاءات قد تمس السيادة القطرية، كما من شأن المكتب أن يبدد مخاوف دول الحصار إذ أن الاتفاقية ستلزم قطر – وقعت على الاتفاقية الأمنية عام 2010 – بالتعاون مع كافة دول الخليج حول ملف الإرهاب. يشار الى أن قطر قد بأت بالفعل ومنذ بداية الأزمة بالتشبيك مع واشنطن حول ملف الإرهاب عبر أكثر من قناة.
- خليج واحد في اقليم مضطرب
باستثناء الملف اليمني الذي تبدو فيه اتهامات دول الخليج لقطر كيدية صرفة، تشتبكُ قطر ودول الحصار/ المقاطعة في أكثر من ملف. خصوصاً في مصر وليبيا وتونس وفلسطين. إن صياغة مقترح قطري لتسوية هذه الملفات بما يضمن تموضعاً معقولاً لحلفاء الدوحة في ليبيا، وشراكة سياسية وازنة لحماس في حكومة فلسطينية جديدة، إن من شأن ذلك فتح شهية كل من السعودية والإمارات للقبول بتسوية شاملة.
مصرياً، وفي ظل إحكام حكومة الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي قبضتها على الداخل المصري وتطويق جماعة الاخوان المسلمين والجماعات الليبرالية واليسارية في البلاد، لا يبدو أن لحلفاء الدوحة على المديين القريب والمتوسط منفذاً للولوج الى واجهة الحياة السياسية في مصر. ومنذ يونيو 2013 والعلاقات المصرية القطرية تعاني من جفاء وعداء إلا أنه ورغم ذلك يبدو عداءً محسوب الكلفة والسُقوف. دلالة ذلك احجام القاهرة عن مشاركة حقيقية في الحصار المفروض على الدوحة من خلال عمالتها المصرية في قطر والتي تزيد في أقل تقديراتها عن 70 الف عامل. ورغم حساسية العلاقات القطرية المصرية إلا أن اقدام قطر على استثمارات وازنة في مصر قد يفتح الباب أمام علاقات مصرية قطرية أفضل. يشار هنا الى أن هذه الاستثمارات القطرية في مصر وإن كانت تحت عنوان سياسي صرف إلا أنها أيضاً تمثل خيارا اقتصاديا ناجحا في سوق كبيرة ومحفزة للاستثمار في مختلف القطاعات الاقتصادية.
المطلوب في هذا السياق هو أن يكون تنسيق المواقف الخليجية في المنطقة لا بما يصل حد (التطابق) لكن ما يقيها/ يجنبها خيارات الحرب بالوكالة، كما هو الحال في الملف الليبي مثالاً.
- تسوية الملفين الإيراني والتركي
يتموضع ملفا العلاقات الايرانية القطرية والقاعدة العسكرية التركية في العديد في سلم أولويات المطالبات الخليجية. فعلياً، حاولت قطر وعلى مدى عام كامل ابقاء الخلاف الخليجي داخل البيت السني -إن صح التعبير -، إذ يتمحور تعاون الدوحة وطهران حول التعاون الاقتصادي لتعويض السلع وكبلد ترانزيت للبضائع التركية وتسهيل حركة الطيران الى مطار حمد الدولي في الدوحة. ما تستطيع الدوحة تقديمه في هذا السياق هو التعهد بعلاقات مماثلة لتلك التي تجمع بين الإمارات او الكويت مع إيران؛ سواء فيما يتعلق بالتمثيل الدبلوماسي أو التعاون الاقتصادي والتبادل التجاري وفق المعادلة الدبلوماسية الرائجة: المُعاملة بالمثل.
التقارب الإيراني القطري الأخير لم يكن في المستوى المتوقع بعد الحصار. ورغم شيطنة هذه العلاقات خليجياً الا أن الملف السوري مثالاً لم يشهد أي متغيرات على الأرض تؤكد أن الدوحة حاولت أو تحاول تقديم أي تنازلات جيوسياسية على الأرض. كذلك هو الحال في طهران التي تستفيد من الأزمة الخليجية اقتصادياً أكثر منه سياسياً.
لا شك أن مخاوف قطر في الأيام الأولى من الأزمة من تدخل عسكري ضدها كانت جادة وهو ما أقر به أمير الكويت الشيخ صباح الأحمد الجابر الصباح. لا يبدو أن الدوحة تستطيع المجازفة بقبول كامل لمطلب دول الحصار في اغلاق القاعدة العسكرية التركية في العديد؛ إلا أنها تستطيع التعهد بتقليل حجم التواجد التركي على أراضيها تدريجياً حين تختفي فيه مخاوفها من أي تدخل عسكري على اراضيها، على أن لا يكون لدول الحصار/ المقاطعة الحق في تحديد أي جدول زمني لذلك.
تمثل الحوافز الست أعلاه مفتاحاً لحوار جاد نحو حل الأزمة الخليجية أو كبح جماحها على الأقل، كما وتضمن الحوافز – على الأغلب – استجابة حقيقية لمطالب الرياض وأبوظبي والمنامة والقاهرة من جهة، وبما لا يُصادر القرار السيادي في الدوحة. ولئن كان المُضي في هذا الحوار يقتضي القبول بتقديم الموجع من التنازلات، فإن رفض ومُكابرة وتمنُع مُختلفِ الأطراف قد يجبر الجميع في يوم قريب على القبول بما هو أكثر مرارةً وأسوأ.