أيُ صندوق سيادي يحتاجه العراق اليوم قبل الغد؟

يعتمد العراق اعتماداً أساسياً على العوائد النفطية في ميزانيته العامة وميزانه التجاري. وهو على عكس دول كالمغرب ومصر ولبنان لا يحصل على تحويلات من المهاجرين رغم كثرة عددهم. كما أن حصيلة السياحة الدولية ضئيلة ولا توجد صادرات صناعية أو زراعية تستحق الذكر. وبالتالي فإن انخفاض أسعار النفط يقود بالضرورة إلى نتائج اقتصادية واجتماعية سلبية وخطيرة.

أضف إلى ذلك أن النفط مادة ناضبة وإن التقدم التكنولوجي في الدول الصناعية يتجه نحو بذل الجهود في سبيل تقليص الطلب على الطاقة خاصة الوقود الأحفوري. لذلك لابد من تنويع مصادر الدخل.

بات من اللازم اليوم إجراء إصلاحات جوهرية لتطبيق سياسة اقتصادية واجتماعية سليمة. ولا يمكن تحقيق ذلك إلا في مناخ يخلو من الفساد المالي والحرب الأهلية، وتتضمن هذه السياسة ضرورة تأسيس صندوق سيادي عراقي يتراوح رأسماله بين 200 و 300 مليار دولار.

عندئذ يمكنه المساهمة بفاعلية في تغطية عجز ميزانية الدولة. وهذا ما يجري في دول عديدة كالسعودية والنرويج. ولكن لابد من معايير في هذا الميدان في مقدمتها أن لا يتجاوز مبلغ السحب نسبة معينة من الأرباح وأن لا يسهم تمويل العجز المالي في تقليص رأسماله. وهذا المعيار يدعو الحكومة إلى الحد جهد الإمكان من حجم العجز.

وللصندوق السيادي دور كبير في إعادة بناء المكانة الدولية للعراق التي تكاد تقتصر حالياً على الاحتياطي النفطي البالغ 143 مليار برميل أي 8.4% من الاحتياطي العالمي. وبذلك يحتل العراق المرتبة العالمية الخامسة.

ورغم هذه الأهمية النفطية لجأ العراق عدة مرات إلى المانحين الأجانب لتمويل مشاريعه وإعادة إعماره لكن هذه السياسة لم تنجح. ففي المؤتمر الأخير المنعقد بالكويت في منتصف فبراير/ شباط 2018 بلغت تعهدات المانحين 30 مليار دولار. في حين قدرت حاجات البلد بمبلغ 88 مليار دولار. الصندوق السيادي يسهم في تحسين سمعة البلد بسبب استثماراته في البلدان المضيفة كما ويقود إلى تولي العراقيين تنمية بلدهم بدلاً من الأجانب.

وسيكون الصندوق السيادي الوسيلة الأساسية لدمج البلد في الاقتصاد العالمي من النواحي الاستثمارية والتجارية. فلا يزال العراق بعيداً عن تنظيم بل والمشاركة في الكثير من الأنشطة الاقتصادية الدولية. فهو على سبيل المثال لا يتمتع بعضوية منظمة التجارة العالمية.

صندوق لجميع الأجيال

فكرة الصناديق السيادية للأجيال القادمة كانت ولا تزال محل إعجاب الكثيرين. إنها تقترب من حالة التعويض عن الضرر الذي يصيب الجيل القادم جراء نضوب الثروة الطبيعية كالنفط من قبل الجيل الحالي. والواقع لا تستوجب السياسة الاقتصادية الحكيمة توفير الأموال لجيل لا نعلم مواصفاته بل بناء اقتصاد متين غير مكبل بالالتزامات المالية الثقيلة ولا يستشري فيه الفساد المالي ولا تتفاقم فيه معدلات البطالة والفقر.

يقوم مقترحنا على ضرورة استفادة جميع الأجيال من الأموال العامة. ويبدو أن اعتبارات العدالة تفترض تقسيم الأجيال إلى ثلاثة أقسام: الجيل الجديد المتمثل بالعاملين والقادرين على العمل ويمكن تخصيص نصف أرباح الصندوق له. والجيل القديم ويتكون من المتقاعدين في القطاع الخاص على وجه الخصوص لأن قوانين التقاعد العراقية تقتصر على القطاع الحكومي ويمكن رصد ربع الأرباح لهم. أما الربع الأخير فيضاف إلى رأسمال الصندوق عندئذ يحصل الجيل القادم على صندوق سيادي ينمو باستمرار.

الأنشطة

لما كان الصندوق تابعاً للحكومة فمن الطبيعي أن يديره أحد أعضاءها كوزير المالية باعتباره الأقرب إلى أنشطته. يتمتع الصندوق بشخصية معنوية أي إنه غير تابع لأية وزارة ومستقل تماماً عن الميزانية العامة، ويضم خبراء من الطراز الأول في ميادين الاستثمار والشركات والضرائب والتجارة الخارجية والتأمين، ولا يشترط فيهم تمتعهم بالجنسية العراقية.

ولما كان من الضروري البحث عن أنشطة ذات مردود مرتفع والسيطرة جهد الإمكان على المخاطر التجارية يصبح من اللازم تنويع الاستثمارات. هنالك مجالات منخفضة الأرباح لكن إيرادها مضمون وثابت وهي سندات الخزينة العامة في الدول الصناعية وترتفع الأرباح في مجالات أخرى تزداد فيها المخاطر وهي أسهم الشركات.

وينبغي على الصندوق العراقي إعطاء الأولوية للأنشطة ذات المردود المرتفع، وهذا ما يجري في الكثير من الصناديق السيادية الكبرى. الصندوق النرويجي مثلاً يستثمر 2% من أمواله في العقارات و35% منها في السندات و63% منها في الأسهم. كما يمنع القانون المنظم لهذا الصندوق منعاً باتاً شراء أكثر من 10% من أسهم أية شركة. فهو يفضل الاستثمار في آلاف الشركات وفي عشرات الدول بنسبة لا تتجاوز على الصعيد العملي 6% من أسهم الشركة. وهكذا يحد من مخاطر انهيار بعض الشركات. وتتبع الصناديق السيادية الكبرى نفس الأسلوب. فعلى سبيل المثال بلغت نسب مساهمة هيئة الاستثمار الكويتي 4% من أسهم بنك ميرل لنج الأمريكي و7% من أسهم شركة ديملر (مرسيدس) الألمانية. وبلغت مساهمة هيئة أبوظبي للاستثمار 5% من اسهم شركة ستي غروب الأمريكية.

يمكن للصندوق العراقي الاستفادة من هذه التجارب. ولكن لا يجوز وضع ضوابط غير تجارية بل ينبغي أن ينفتح على جميع الأنشطة ما دامت قوانين البلد المضيف تسمح بمزاولتها. لذلك فإن معايير الصندوق النرويجي من هذا الجانب غير مجدية لأنه يمنع الاستثمار في عدة ميادين كصناعة الأسلحة وإنتاج التبغ.

تكوين رأس المال

يقوم مقترحنا على تكوين رأسمال الصندوق العراقي من أربعة مصادر.

أولا: الإيرادات النفطية

أكثر من نصف عدد الصناديق العملاقة في العالم تم تمويلها عن طريق الإيرادات النفطية. ويتعلق الأمر بصورة خاصة بصناديق دول مجلس التعاون وروسيا والنرويج. ويصدر العراق 3.8 مليون برميل يوميا قدرت قيمتها بمبلغ 63.8 مليار دولار في عام 2018 أي 82% من إيرادات الدولة. وبالتالي لابد للصندوق السيادي من أن يعتمد عليها في تكوين رأسماله.

أن تحديد نسبة ثابتة سنويا من هذه العوائد لا ينسجم مع طبيعة الاقتصاد الريعي. فعندما تهبط أسعار الخام تنخفض الإيرادات بحيث يتعذر تخصيص مبالغ مهمة للصندوق. وبالتالي تصبح النسبة الثابتة غير مناسبة حتى وإن كانت منخفضة. وبالعكس عندما ترتفع الأسعار وتزداد الإيرادات تصبح النسب الثابتة غير مناسبة أيضاً حتى وإن كانت مرتفعة. وعلى هذا الأساس لا تصلح التجربة الكويتية للعراق.

يتعين أن يعتمد تحديد المبالغ المخصصة لرأسمال الصندوق السيادي على أسعار النفط من جهة وحالة الميزانية العامة من جهة أخرى وفق ما يلي: دولار واحد لكل برميل يتراوح سعره بين ثلاثين وأربعين دولاراً. دولاران لكل برميل يتراوح سعره بين أربعين وخمسين دولاراً. وهكذا يزداد التخصيص للصندوق دولاراً واحداً لكل عشرة دولارات في السعر.

تدرج هذه الأموال في نفقات الدولة. فإذا كانت الميزانية في حالة فائض ينبغي إضافته إلى رأسمال الصندوق. أما إذا كانت في حالة عجز عندئذ يتم اللجوء إلى الاقتراض الخارجي في حدود الأموال المخصصة للصندوق. شريطة أن لا يتجاوز سعر الفائدة على معدل أرباح الصندوق. وأما العجز الناجم عن نفقات جارية فيجب تغطيته عن طريق التمويل المحلي. ولا بد من منح الأفضلية لتقليص هذه النفقات.

لكن الإيرادات النفطية سوف لن تكون كافية. فعلى افتراض رصد أربعة دولارات لكل برميل من النفط لتكوين رأسمال الصندوق فإن المبلغ السنوي سيكون 5.5 مليارات دولار. بمعنى أن الصندوق العراقي سيحتاج إلى 95 سنة للوصول إلى رأسمال يعادل رأسمال الصندوق الكويتي وإلى 151 سنة عند المقارنة مع صندوق أبوظبي. لذلك يتعين تقليص هذه المدة بالاعتماد على مصادر إضافية غير نفطية.

ثانياً: الاقتراض الخارجي

يعاني العراق من تفاقم ديونه الخارجية التي بلغت 83 مليار دولار فقد تزايد الإنفاق العسكري والأمني الذي قاد إلى عجز مزمن في الميزانية العامة فتكرر اللجوء إلى التمويل الخارجي. يمكن للصندوق السيادي المستقبلي الاعتماد على القروض الخارجية في تكوين رأسماله ولا ضير في أن يصل حجم قروضه مائة مليار دولار خلال فترة معنية (20 سنة مثلاً). وحتى لا تشكل هذه الديون عبئاً على الصندوق وبالتالي على الاقتصاد برمته ينبغي أن تكون نسبة أرباحه قياساً برأسماله أعلى من أسعار الفائدة في ديونه. عندئذ، يمكن خدمة الديون دون إعادة جدولتها، ويتطلب هذا الوضع البحث عن أنشطة تجارية وصناعية ذات مردود مرتفع.

في دول تملك صناديق سيادية عملاقة كالسعودية والكويت وروسيا ارتفعت ديونها ارتفاعاً كبيراً وفي نفس الوقت ازداد رأسمال صناديقها السيادية. بمعنى أنها تقترض لزيادة رأس المال أو لتجنب السحب منه.

ثالثاً: استثمار الاحتياطي النقدي

خلال فترة قصيرة انخفض الاحتياطي النقدي للبنك المركزي العراقي انخفاضاً كبيراً. فقد انتقل من 82 مليار دولار في نهاية عام 2013 إلى 43 مليار دولار في نهاية عام 2016. نجم هذا الهبوط عن عمليات السحب المستمرة نتيجة الطلب على الدولار وتزايد الإنفاق العسكري.

لاشك أن هذا الاحتياطي شهد ارتفاعاً طفيفاً في الأشهر المنصرمة بسبب تحسن أسعار النفط. لكنه في جميع الحالات غير مستغل بصورة تجارية مجدية. ولذلك، لابد من تخصيص نسبة عالية منه (80% مثلاً) لتمويل رأسمال الصندوق. وقد سبق للكويت وأن رصدت 50% من الاحتياطي النقدي لصندوقها السيادي عند تأسيسه. كما تعتبر ساما السعودية من أكبر الصناديق السيادية في العالم. وساما هي مؤسسة النقد العربي السعودي أي البنك المركزي.

رابعاً: دمج المؤسسات المالية

رغم قلة عددها وضآلة رؤوس أموالها يتعين دمج هذه المؤسسات في الصندوق السيادي المستقبلي وفي مقدمتها الصندوق العراقي للتنمية الخارجية الذي بلغت استثماراته 622 مليون دولار في شركات عربية وتحقق أرباحاً قدرها 19 مليون دولار في السنة. أي أن نسبة الأرباح ضعيفة وتعادل 3% من رأسماله المستثمر. ولهذا الصندوق أموال أخرى غير مستغلة بصورة تجارية وقدرها 1172 مليون دولار تمثل مساهمته في الصناديق العربية والدولية وحجم الاحتياطي.

صندوق سيادي عراقي برأسمال قدره 250 مليار دولار يمكن تحقيقه وفق ما تقدم خلال عشرين سنة. يدر أرباحاً سنوية بمبلغ 15 مليار دولار أي ما يعادل الصادرات النفطية لمدة ثلاثة أشهر. وبذلك يصبح هذا الصندوق أداة مهمة لتمويل مالية الدولة الداخلية والخارجية.

منشورات أخرى للكاتب