احتياطي الأجيال الكويتي: معاقبة جيل لرفاهية آخر

في منتصف السبعينيات من القرن المنصرم ارتفعت الإيرادات النفطية في الكويت ارتفاعا كبيرا بحيث باتت تمثل حوالي ضعف حاجاتها المحلية. كما ظهرت فكرة ضرورة استفادة الأجيال المقبلة من هذه الإيرادات لأن النفط مادة ناضبة. وهكذا صدر المرسوم بقانون رقم 106 لسنة 1976 بشأن احتياطي الأجيال القادمة.

يظهر بوضوح التركيب الفني الضعيف للمرسوم وكأنه حرر على عجالة دون تدقيق. فهو يتكون من أربع مواد فقط. وتنص مادته الأولى على ما يلي: “تقتطع اعتباراً من السنة المالية 1976-1977 نسبة قدرها 10% من الإيرادات العامة للدولة”. جملة ناقصة لعدم ذكر الجهة المستفيدة.

أما المادة الثانية فتضم عدة أحكام مختلفة تماماً وكان من الأولى تخصيص مادة مستقلة لكل منها. فهي تنص على فتح حساب احتياطي الأجيال القادمة. ثم تعود لتكمل نقص المادة الأولى. وتنتقل إلى موضوع آخر يرتبط بالمؤسسة المختصة باستثمار الأموال وتسمي وزارة المالية، علماً بأن هذا الاحتياطي يدار من قبل الهيئة العامة للاستثمار وهي جهة حكومية يرأسها وزير المالية لكنها مستقلة عن الوزارة.

كما تنص هذه المادة على اقتطاع نسبة أخرى قدرها 50% من الاحتياطي العام في سنة تنفيذ المرسوم فقط لإدراجها في احتياطي الأجيال القادمة.

وتنص المادة الثالثة على ما يلي: “لا يجوز خفض النسبة المنصوص عليها في المادة الأولى من هذا القانون أو اخذ أي مبلغ من احتياطي الأجيال القادمة”. أما المادة الرابعة والأخيرة فتتعلق بتنفيذ المرسوم.

 

المرسوم يقرر 10% ولا يوجد سبب منطقي واضح لهذه النسبة بالتحديد. كما لا أحد يعرف من هي الأجيال القادمة إذ يخلو المرسوم من تعريف لها. يرى البعض أن الجيل القادم هو الذي يأتي بعد نضوب النفط. لكن هذا الرأي لا يستند إلى مبرر قانوني. إذ لا توجد في المرسوم أية إشارة إلى توقف العمل بالاقتطاع بعد نضوب النفط. لذلك يفترض أن يستمر الاقتطاع إلى ما لا نهاية ولا هدف.

 

تتسم جميع عمليات الهيئة العامة للاستثمار بالضبابية. لأن أنشطتها محاطة بسرية تامة يحكمها القانون رقم 47 لسنة 1982 المنظم لهذه الهيئة. فقد منعت المادة الثامنة منه العاملين فيها من الإفصاح عن أية معلومة تخص نشاطها. وذهبت المادة التاسعة إلى توقيع عقوبة الحبس لمدة تصل إلى ثلاث سنوات لمن يخالف هذه السرية. لذلك ترفع الهيئة تقاريرها مباشرة إلى مجلس الوزراء فقط. كما تجري المناقشات البرلمانية حول هذه الأنشطة بجلسات مغلقة.

ووفق المعلومات الشحيحة المتاحة بلغ رأس مال احتياطي الأجيال القادمة 120 مليار دينار (حوالي 400 مليار دولار). تستثمر هذه الأموال خارج البلد خاصة في الولايات المتحدة وأوروبا. أما أرباحه فقد سجلت انخفاضاً كبيراً بسبب الركود الاقتصادي العالمي وطبيعة الأنشطة التي تتمحور حول الأسهم والسندات والعقارات. حسب التقارير لا تتعدى هذه الأرباح 3% من رأس المال.

 

الجدول تركيب أعده المؤلف لهذا المقال انطلاقاً من قوانين الميزانية العامة للسنوات المذكورة (الإيرادات والنفقات التقديرية). والتقارير السنوية لديوان المحاسبة (الإيرادات والنفقات الفعلية). بملايين الدنانير.

 

علاقة الاحتياطي بالعجز المالي

العجز المالي كما هو معلوم يمثل ارتفاع الإنفاق العام مقابل الإيراد العام. انه مجرد حساب للأرقام لا علاقة له بطبيعة الإيراد أو كيفية الإنفاق أو الجهة المستفيدة من العمليات المالية.

في عام 2016-2017 بلغ حجم العجز 4.608  مليار دينار (الفقرة الثامنة من الجدول). لكن المرسوم المذكور يجبر الحكومة على اقتطاع 10% من الإيرادات العامة لتمويل احتياطي الأجيال القادمة. وبالتالي تثار مشكلة تتعلق بكيفية حساب العجز المالي. هل يتعين اعتبار مبلغ هذه النسبة بمثابة نفقة عامة تضاف إلى النفقات الأخرى؟

يرى الكويتيون أن العجز المالي في بلدهم ليس كالعجز في دول أخرى. خصوصية الكويت تتمثل في انتقال الأموال من الميزانية التابعة للدولة إلى احتياطي الأجيال القادمة التابع للدولة أيضا.

ولكن من الناحية المالية يتعين حساب جميع المبالغ الداخلة والخارجة من ميزانية الدولة بغض النظر عن الجهة المستفيدة. وعلى هذا الأساس يعادل العجز المالي في الكويت الفرق بين النفقات العامة بما فيها مخصصات احتياطي الأجيال القادمة والإيرادات العامة. ولما كان الحجم الفعلي لهذه المخصصات 1.309 مليار دينار يصبح العجز المالي 5.917 مليار دينار وليس 4.608 مليار دينار.  

باتت الدولة تعاني من عجز منذ السنتين الماضيتين سواء كانت الأرقام تقديرية أم فعلية وسواء أضفنا أم لم نضف حصة احتياطي الأجيال القادمة.

قررت السلطات العامة خلال الفترة بين 2012 و 2015 زيادة حصة احتياطي الأجيال القادمة باقتطاع نسبة إضافية قدرها 15% إلى جانب النسبة الأساسية. فاصبح المجموع 25%. ثم عادت فحذفت النسبة الإضافية لتقتصر على النسبة الأساسية. ترى ما سبب هذا الاتجاه وذاك؟

في الفترة بين 2013 ولغاية السنة الحالية نظمت جميع الميزانيات بعجز (الفقرة الثالثة من الجدول). لكن هذه التقديرات غير دقيقة لأسباب لا تتعلق فقط بصعوبة تحديد العوائد النفطية بل كذلك لسوء تخمين المصروفات. ففي عام 2013-2014 قدرت الإيرادات بمبلغ 18   مليار دينار حين بلغ حجمها الفعلي ما يقترب من 32 مليار دينار. كما قدرت النفقات بمبلغ 21 مليار دينار في حين بلغ حجمها الفعلي قراية 19 مليار دينار. وهكذا انتقلت حالة الميزانية من عجز تقديري إلى فائض فعلي (الفقرتان الثالثة والثامنة من الجدول). لهذا السبب قررت السلطات زيادة حصة احتياطي الأجيال القادمة من 10% إلى 25%. ونفس هذا التحليل ينطبق على عام 2014-2015.

أما في عام 2015-2016 فقد هبطت بشدة أسعار النفط فانخفضت إيرادات الميزانية سواء التقديرية أم الفعلية مقارنة بالعام السابق. في حين لم تتراجع المصروفات العامة التقديرية والفعلية بنفس المستوى. لذلك ظهر ولأول مرة منذ عدة سنوات عجز فعلي قدره 4.612 مليار دينار. الأمر الذي أدى إلى حذف النسبة الإضافية والاقتصار على النسبة الأساسية. وينطبق نفس هذا التحليل على عام 2016-2017. وقد تستمر الميزانية الحالية على هذا المنوال رغم تحسن أسعار الخام.

الاقتطاع من الإيرادات العامة

في السبعينيات التي شهدت ظهور المرسوم المذكور كانت الإيرادات العامة نفطية. وبالتالي لا فرق بين الإيرادات العامة والإيرادات النفطية. اختلف الوضع في الوقت الحاضر. باتت الحصيلة غير النفطية التي تتأتى من الضرائب والخدمات العامة تمثل حوالي 16% من الإيرادات العامة. ولما كانت النسبة المخصصة للاحتياطي 10% من الإيرادات العامة فإن ذلك يعني أن الجيل الحالي يدفع 10% من عوائد النفط ونفس النسبة من الضرائب للأجيال القادمة. وهذا غير مقبول لأنه يعادل عقوبة بالغرامة ضد الجيل الحالي لصالح الجيل القادم.

المرسوم يجبر الحكومة على تخصيص 10% من الإيرادات العامة لصالح احتياطي الأجيال القادمة مهما كانت الظروف. ويمنعها من السحب منه مهما كانت الأحوال. لذلك يكرر الكويتيون مقولة “يضاف إليه ولا يسحب منه”. وهنالك تصريحات وزارية عديدة تصب في هذا المعنى.

وهذه سياسة لا تتناسب مع الإدارة الحكيمة لمالية الدولة. تتطلب هذه الإدارة إلغاء المرسوم والاستعاضة عنه بقانون آخر يحمي حقوق الأجيال القادمة دون تفريط بحاجات الجيل الحالي. يتعين الاستفادة من تجارب الآخرين بحيث يمكن الاقتطاع عند تحسن مالية الدولة والسحب عند ترديها.

ففي البحرين ينص القانون رقم 28 لسنة 2006 على تمويل صندوق الأجيال القادمة تحت شرطين: أولهما تخصيص دولار واحد لكل برميل من النفط يتراوح سعره بين 40 و 80 دولاراً. أو رصد دولارين لكل برميل يزيد سعره على 80 دولاراً. وثانيهما أن يكون البرميل مخصصا للتصدير وليس للاستهلاك المحلي.

كما يتعين السماح للحكومة دون حاجة لتشريع خاص بالسحب من احتياطي الأجيال القادمة شريطة عدم الإضرار بأصوله. ويمكن الاستفادة من تجربة الصندوق النرويجي الذي تأسس كما هو حال الكويت لاستثمار أموال النفط. يسهم هذا الصندوق (اكبر صندوق سيادي في العالم) سنوياً في تمويل عجز الميزانية النرويجية حيث تستطيع الحكومة سحب مبلغ سنوي لا يتجاوز 3% من رأسماله. علماً بأن أرباحه الصافية تتجاوز هذه النسبة.

تأسس احتياطي الأجيال القادمة الكويتي في فترة الفوائض المالية. أما في الوقت الحاضر فلا يوجد فائض بل عجز. وبالتالي فإن استمرار الاقتطاع من الإيرادات العامة يحرم الجيل الحالي من التمتع بأمواله غير الكافية لصالح جيل آخر لا أحد يعلم من هو ومتى يأتي وما هي أحواله.

منشورات أخرى للكاتب