الكويت: من فوائض 1979 إلى ديون 2018

تتمتع الكويت بمكانة نفطية مرموقة قادرة على إنتاج ثلاثة ملايين برميل يوميا. ولها صندوق سيادي يحتل المرتبة العالمية الرابعة من حيث رأسماله. لكنها تعاني منذ سنوات من مشاكل مالية ستقود في حالة الاستمرار بالسياسة الحالية إلى حدوث أزمة خطيرة. وتتجلى هذه المشاكل في عجز الميزانية العامة وما يترتب عليه من انعكاسات اقتصادية واجتماعية سلبية.
طيلة الفترة بين 1961 و 1979 كانت جميع ميزانيات الكويت تحقق فائضاً كبيراً إذ أن الإيرادات النفطية كانت تمثل حوالي ثلاثة أضعاف النفقات العامة. انها فترة الفوائض المالية التي استخدمت في الاستثمارات الخارجية. وهكذا تم تأسيس مؤسسات مالية ضخمة كالصندوق الكويتي للتنمية العربية ثم صندوق احتياطي الأجيال القادمة. وإذا كان الفائض سمة المالية الكويتية في الستينيات والسبعينيات فإن العجز هو سمة السنوات الأربع الأخيرة.

خصوصيات الإيرادات والنفقات التقديرية
تلعب الإيرادات النفطية دوراً أساسياً في مالية البلاد. في عام 2017-2018 قدرت الإيرادات بمبلغ 11700 مليون دينار (الدينار الكويتي يعادل 3.31 دولاراً) أي 87.9% من الإيرادات العامة. وبالتالي فأن أي هبوط في أسعار الخام يؤثر سلبيا على الإيرادات العامة ويسهم في العجز. لكن الميزانية العامة تعاني من عجز حتى في حالة ارتفاع الإيرادات النفطية. ففي عام 2013-2014 بلغت العوائد النفطية 16883 مليون دينار مقابل 12768 مليون دينار في العام السابق. في حين قدر العجز بمبلغ 2907 مليون دينار. ورغم تحسن أسعار الخام مؤخراً إلا أن ذلك لم يعد التوازن إلى الميزانية التي تعاني من عجز قدره 6600 مليون دينار.
وإذا كان التذبذب سمة الإيرادات النفطية فإن التصاعد المستمر سمة الإيرادات غير النفطية التي انتقلت مساهمتها إلى 15.7% من الإيرادات العامة في عام 2016-2017 مقابل 8.3% في عام 2012-2013,
وتحتل إيرادات الخدمات القسط الأكبر من الإيرادات غير النفطية. وتتأتى بالمقام الأول من النقل والمواصلات والكهرباء والماء والغرامات القضائية. وتعد هذه الإيرادات من النقاط الأساسية لخطة الإصلاح المالي والاقتصادي ولبرنامج صندوق النقد الدولي الخاص بالكويت. فمن خلال مشاورات هذا الأخير مع الحكومة يتبين بأن الكويت رفعت أسعار بعض الخدمات. لكن هذا الارتفاع الذي يثير سخط المواطنين ضئيل حسب وجهة نظر الصندوق.
أما النظام الضريبي الكويتي فيتكون حالياً من أربع ضرائب: الضريبة على دخل الشركات الكويتية وتفرض بالدرجة الأولى على شركات المقاولات والخدمات. والضريبة على أرباح الشركات الكويتية المدرجة في سوق الأوراق المالية (تحسب الزكاة ضمن حصيلة هذه الضريبة). وضريبة نقل الملكية العقارية. وأخيراً الرسوم الجمركية المفروضة على الواردات السلعية والتي تستحوذ على ثلثي الموارد الضريبية للدولة. في عام 2016-2017 قدرت حصيلة جميع هذه الضرائب بمبلغ 474.8 مليون دينار أي 4.6% من إيرادات الدولة وهي تعادل مخصصات رئيس الدولة ونفقات الديوان الأميري.
ولم تجد الضريبة على القيمة المضافة تطبيقاً لها لحد الآن رغم التزام الكويت بإدراجها في النظام الضريبي اعتباراً من مطلع العام الجاري 2018 الأمر الذي يحرم البلد من موارد مالية مهمة. وهكذا لم يتبع الكويتيون ما أقدم عليه السعوديون والإماراتيون مؤخرا.
ترتفع النفقات العامة عندما تزداد الإيرادات النفطية وتنخفض بهبوط هذه الإيرادات. وهذه الملاحظة واضحة جداً على الأقل في السنوات الخمس المنصرمة. في حين تتطلب السياسة الرشيدة وضع سقف للإنفاق العام وربطه بالتنمية الاقتصادية والاجتماعية وليس بالعوائد النفطية.
دخلت الكويت في دوامة العجز المالي نتيجة عدم الرغبة في كبح جماح الإنفاق العام لأسباب سياسية واجتماعية. تمثل نفقات الدفاع والأمن مكانة مهمة في مالية الكويت حيث تشكل 3143 مليون دينار أي 16.2% من الإنفاق العام. كما قدرت نفقات الصحة والتعليم 3548 مليون دينار أي 18.3% من الإنفاق العام. تتجه هذه الأبواب الأربعة نحو الاتساع المستمر حتى وإن تراجعت العوائد النفطية. أي أن هبوط النفقات العامة نتيجة انخفاض العوائد النفطية يحدث في أبواب المصروفات الأخرى. وسنجري في الفقرة أدناه تعديلاً على هذه الملاحظة كي تعكس بوضوح ودقة الواقع الحالي.

هبوط العجز الفعلي
تحتوي الميزانية العامة كما هو معلوم على أرقام تقديرية لسنة قادمة. لذلك يتعين أن تنتهي هذه السنة لمعرفة مدى دقة التقديرات عن طريق الحساب الختامي الذي يبين الوضع المالي على حقيقته. في السنة المالية 2016-2017 ارتفعت الإيرادات الفعلية مقارنة بالإيرادات التقديرية من 10238.1 مليون دينار إلى 13099.6 مليون دينار. كما هبطت النفقات العامة الفعلية مقارنة بالنفقات العامة التقديرية إلى 17707.9 مليون دينار مقابل 18892.0 مليون دينار. وهكذا انخفض العجز الفعلي مقارنة بالعجز التقديري. وهذه نتيجة إيجابية من الناحية الحسابية. ولكن لابد من فحص أسباب هذا الهبوط للوقوف عند تداعياته الاقتصادية والمالية والاجتماعية والسياسية.
من زاوية الإيرادات العامة ارتفعت العوائد النفطية ارتفاعاً كبيراً نظراً لتحسن مستوى الأسعار. وهذه العوائد تشمل النفط والغاز الطبيعي. وهي صافية أي تدرج في الميزانية العامة بعد طرح تكاليف الإنتاج والبالغة حوالي 2300 مليون دينار سنويا. ويلاحظ أن المذكرات الإيضاحية التي تحال سنوياً من الحكومة إلى ديوان المحاسبة لا تتطرق إلى الأسس المعتمدة في حساب هذه التكاليف. الأمر الذي يتعارض مع الشفافية في إدارة الأموال العامة.
أما النفقات العامة فيمكن فحصها من جانبين: أولهما إداري وثانيهما وظيفي. فقد انخفضت النفقات الفعلية مقارنة بالنفقات التقديرية للوزارات باستثناء وزارتي الدفاع والداخلية (هذا تعديل على ملاحظتنا السابقة). أي أن النفقات العسكرية والأمنية دون المصروفات الأخرى بما فيها الصحية والتعليمية تحدد بمعزل عن تقلبات العوائد النفطية. ومن جانبها الوظيفي هبطت النفقات الفعلية الجارية بنسبة 3.9% في حين تراجعت النفقات الفعلية الاستثمارية بنسبة 19.6%. وهكذا ارتفعت مساهمة النفقات الجارية الفعلية إلى 87.5% فهبطت مساهمة النفقات الفعلية الاستثمارية حتى بلغت 12.5% فقط.
يشير هذا الوضع إلى تدني الاستثمارات وضعف تنفيذ المشاريع الإنمائية. وعلى هذا الأساس اسهم انخفاض الاستثمارات مساهمة فاعلة في هبوط العجز المالي الفعلي. في حين تتطلب السياسة السليمة العكس تماما أي ارتفاع الاستثمارات حتى وإن أدى إلى تزايد العجز المالي.
في عام 2014-2015 بلغ العجز المالي الفعلي 2721.0 مليون دينار أي 5.5% من الناتج المحلي الإجمالي. وتمثل هذه النسبة حوالي ضعف المعدل المقبول للعجز وقدره 3% (المعيار الأساسي للاتحاد الاقتصادي والنقدي الأوروبي: منطقة اليورو) الذي تبنته حرفياً دول مجلس التعاون في مشروعها المتعلق بالاتحاد النقدي والعملة الخليجية الموحدة. لكن العجز الفعلي ارتفع ارتفاعاً كبيراً في عام 2016-2017 ليصل إلى 5918.3 مليون دينار. عندئذ ارتفعت العلاقة إلى 15.6% الأمر الذي يفسر مدى ثقل العجز المالي على الاقتصاد برمته.

التمويل من الاحتياطي العام والاقتراض
جرت العادة في الكويت على الاعتماد على مصدرين لتغطية العجز المالي. المصدر الأول السحب من الاحتياطي العام. فقد سحبت الحكومة 13 مليار دينار منه خلال السنتين الماضيتين. ويعادل هذا المبلغ تقريباً نصف الحجم الكلي لهذا الاحتياطي. وقد سبق لصندوق النقد الدولي وأن صرح بأن الاحتياطي الكويتي سينضب كلياً في عام 2021 ما لم ترتفع أسعار النفط إلى اكثر من 80 دولاراً للبرميل. هذا أمر مستبعد وفق المؤشرات الحالية وما يترتب على ذلك من بروز سمة أخرى من سمات الأزمة المالية.
المصدر الثاني القروض الداخلية والخارجية. في السنوات القليلة المنصرمة كانت الكويت من الدول العشر الأقل مديونية في العالم وفق تصنيف المنتدى الاقتصادي العالمي الذي يعتمد في ذلك على ترتيب ديون الدول حسب علاقتها بالناتج المحلي الإجمالي.. ففي عام 2014 لم تشكل الديون الكويتية سوى 3.1% من الناتج المحلي الإجمالي. ثم تصاعدت لتصل إلى 22.3% في عام 2017. لاشك أن هذه النسبة لا تزال ضئيلة في المقاييس العالمية لكن المشكلة تكمن في التطور السريع لهذه المديونية بسبب غياب الإصلاحات الفاعلة. إذ ستصل حسب البنك العالمي إلى 27.6% في العام الجاري وإلى 31.1% في عام 2019. ونتيجة الاقتراض ارتفعت الديون في العام الماضي 2017 بمبلغ خمسة مليارات دينار أي ما يعادل حوالي نصف العوائد النفطية. وهكذا لم تعد الكويت من بين الدول الأقل مديونية في العالم.
من غير المقبول المبالغة في تقدير خطورة المشاكل المالية الحالية للكويت نظراً لتحسن العوائد النفطية. ولكن لا يجوز إطلاقاً تهميشها. هنالك مؤشرات سلبية عديدة قد تقود في المستقبل القريب إلى إلغاء الأثر الإيجابي لزيادة هذه العوائد. عندئذ تظهر بوادر الأزمة المالية. فقد تفاقمت الديون العامة الداخلية والخارجية سواء من حيث حجمها أو من حيث علاقتها بالناتج المحلي الإجمالي. وهبط الاحتياطي العام إلى درجة النضوب قريبا. وارتفعت النفقات العامة غير الإنتاجية خاصة العسكرية والأمنية. وتراجعت الاستثمارات العامة المحلية. كما أن الركود الاقتصادي العالمي يلقي بضلاله على استثمارات الصندوق السيادي وبالتالي على حجم أرباحه. وعدم الحصول على إيرادات ضريبية تتناسب مع المقدرة المالية للشركات والأفراد. واستمرار عجز الميزانية للسنة الرابعة على التوالي.
بات من الضروري تحسين الحالة الاقتصادية للبلد والمواطنين بإعادة النظر في السياسة المالية المتبعة وإجراء تعديلات جوهرية على برنامج الإصلاح المالي والاقتصادي والعمل بجدية على تقليص ريعية الاقتصاد.

منشورات أخرى للكاتب