ميزانية العراق 2018: مراكمة الديون والتأثيرات السلبية على المواطنين

يعاني العراق من صراعات عسكرية مدمرة ومستمرة منذ حوالي أربعين سنة الأمر الذي يتطلب رصد أموال طائلة تستدعي اللجوء إلى التمويل الخارجي. كما إنه البلد العربي النفطي الوحيد الذي لم يسجل فائضاً مالياً منذ أكثر من عشر سنوات. الميزانية العراقية في حالة عجز حتى في السنوات التي شهدت طفرة عالية في أسعار النفط. إذ كلما ارتفعت الإيرادات تصاعدت النفقات بمعدلات أكبر.
والعراق على عكس دول مجلس التعاون الخليجي لا يملك صناديق سيادية يمكنها تقليص العجز المالي. وهو ايضاً على عكس الدول العربية غير النفطية لا يطبق نظاماً ضريبياً يسهم بفاعلية في تمويل الإنفاق العام.

ارتفاع العجز المالي

أحالت الحكومة العراقية مشروع الميزانية لعام 2018 إلى مجلس النواب بعجز قدره 22.7 ترليون دينار (19.2 مليار دولار). وبدلاً من أن يناقش البرلمانيون هذه المشكلة بغية تقديم حلول لمعالجتها راحوا يطالبون بزيادة المخصصات لمناطقهم. نواب المحافظات الجنوبية والوسطى يتمسكون بالمظلومية والبترودولار. ويرى نواب المحافظات الغربية عدم كفاية الاعتمادات المقررة لإعادة إعمار مدنهم. ويرفض ممثلو الأكراد تخفيض حصتهم. أي أن مجلس النواب ولأسباب سياسية وتحت تأثير الانتخابات التي ستجري بعد بضعة أشهر يحول دون التصدي للعجز المالي بل بات يمثل أحد أسباب تفاقمه.
في ميزانية عام 2018 ارتفعت الإيرادات العامة إلى 85.3 ترليون دينار بعد أن كانت 79.0 ترليون دينار في ميزانية عام 2017 أي بمبلغ 6.3 ترليون دينار. نجم هذا الارتفاع عن تحسن أسعار النفط وحجم الصادرات النفطية وهي المصدر الأساس للإيراد العام. أما النفقات العامة فقد قدرت بمبلغ 108.0 ترليون دينار مقابل 100.6 ترليون دينار أي بزيادة قدرها 7.4 ترليون دينار. ويعود هذا الارتفاع بالمرتبة الأولى إلى تصاعد الإنفاق العسكري والأمني.
ونتيجة ارتفاع الإنفاق العام بمبلغ يفوق مبلغ تحسن الإيراد العام ازداد العجز المالي ليصل إلى 9.5% من الناتج المحلي الإجمالي. وهي نسبة عالية تتجاوز ثلاثة أضعاف المعدل المقبول للعجز حسب المعايير الأوروبية والخليجية.

تزايد النفقات العسكرية والأمنية

في ميزانية عام 2018 بلغت مصروفات وزارة الدفاع 9.2 ترليون دينار ووزارة الداخلية 10.8 ترليون دينار. وبذلك تمثل هاتان الوزارتان 18.6% من النفقات العامة. لكن الإنفاق العسكري والأمني لا يتوقف عندهما. بل هنالك أبواب أخرى وهي الاعتمادات المخصصة للحشد الشعبي وجهاز مكافحة الإرهاب ومجلس الأمن الوطني. وبذلك يصبح مجموع المصروفات العسكرية والأمنية 23.0 ترليون دينار أي 21.3% من النفقات العامة.
وينبغي كذلك إدراج فوائد وأقساط الديون العامة الناجمة عن قروض داخلية وخارجية أبرمت لتمويل الإنفاق العسكري والأمني. لكن الإحصاءات لا تبين حجم الديون العسكرية علماً بأن العراق كغيره من الدول العربية استدان بالمقام الأول لتغطية عملياته العسكرية.
وحتى عند عدم احتساب خدمة الديون فإن الإنفاق العسكري والأمني في العراق يعادل 10.1% من الناتج المحلي الإجمالي وهو يتجه نحو الارتفاع. مقابل معدل عالمي قدره 2.2% وهو يتجه نحو الهبوط.
لاشك أن هذا الإنفاق يمثل السبب الأساس في عجز الميزانية العامة. لكنه ليس السبب الوحيد. فهنالك الفساد المالي المستشري في أجهزة الدولة. أدى هذا الوضع إلى نتائج خطيرة مالية واستثمارية واجتماعية وسياسية.

تداعيات خطيرة

بسبب تفاقم الديون العامة واستمرار الحرب الأهلية والتلكؤ في الوفاء بالالتزامات المالية يواجه العراق صعوبات في الحصول على التمويل خاصة في السندات التي يطرحها في السوق العالمية والتي تتسم بارتفاع أسعار الفائدة. إذ لم يحصل البلد على مركز في التصنيف الائتماني الدولي إلا مؤخراً من قبل وكالة ستاندرد أند بورز. علماً بأن الدرجة التي حصل عليها متدنية وقدرها “بي سالب”.
1- ارتفاع الديون العامة: لتغطية العجز المالي تلجأ الدولة إلى القروض الداخلية والخارجية. حسب ميزانية عام 2018 يتم تمويل العجز بقروض داخلية قدرها 9.9 ترليون دينار ستعقد مع المصارف والأفراد. وكذلك بقروض خارجية قدرها 12.8 ترليون دينار أهمها قرض صندوق النقد الدولي وقرض أمريكي وآخر بريطاني إضافة إلى سندات خارجية.
ونتيجة اللجوء المتكرر للقروض تزايدت الديون العامة التي بلغت في عام 2017 إلى 122.9 مليار دولار وستصل إلى 132.6 مليار دولار في عام 2018 (تقديرات صندوق النقد الدولي).
يترتب على ذلك ارتفاع الديون الخارجية التي أصبحت تشكل ثلثي الديون العامة. وبلغت خدمة الديون العامة 8.2 ترليون دينار في عام 2018 الأمر الذي يفضي إلى هبوط مستوى معيشة المواطنين. فبدلاً من تخصيص الأموال للتعليم أو الصحة أو الإنتاج يتم دفعها للدائنين. ونلاحظ أن هذا المبلغ يفوق المصروفات المقررة لوزارات التربية والصحة والتعليم العالي والزراعة والصناعة مجتمعة.
وستسجل الديون العامة ارتفاعا كبيراً في الأعوام القادمة ليس فقط بسبب العجز المالي المزمن وعجز العمليات الجارية في ميزان المدفوعات بل كذلك بسبب مخلفات الحرب الأهلية. ففي عام 2018 سينعقد في الكويت مؤتمر المانحين لإعادة إعمار المناطق المحررة من تنظيم داعش الذي أثر سلبياً على التنمية الاقتصادية والمعالم الحضارية للبلد. وقد صرحت وزارة التخطيط بضرورة رصد 100 مليار دولار خلال عشر سنوات للقيام بهذه المهمة. ومما لاشك فيه أن هذه الأموال لا تمنح مجاناً بل إنها بصورة أو بأخرى قروض تتحول إلى الديون.
2- تزايد العبء الضريبي: بلغت حصيلة الضرائب المباشرة وغير المباشرة 7.2 ترليون دينار في عام 2018 مقابل 6.6 ترليون دينار في العام السابق. الأمر الذي يعني ارتفاع العبء الضريبي على المكلفين. في حين يتطلب الوضع الاقتصادي المتردي تخفيفه. وتجدر الإشارة إلى أن صندوق النقد الدولي وضع برنامجاً لإصلاح المالية العراقية. من بين بنوده ضرورة زيادة الإيرادات الضريبية وتقليص مخصصات الحصة التموينية. ومن المعلوم أن الصندوق لا يمنح قروضه إلا إذا وافقت الحكومة على برنامجه وعملت على تنفيذه.
في عام 2013 بلغت اعتمادات الحصة التموينية 4.9 ترليون دينار وستهبط إلى 1.5 ترليون دينار في عام 2018. كما ارتفعت حصيلة الضرائب من 5.5 ترليون دينار في عام 2008 إلى 7.2 ترليون دينار في عام 2018. سيسهم تفاعل هذين المؤشرين في تدهور مستوى المعيشة.
3- عدم الوفاء بالالتزامات المالية: بسبب الضائقة المالية قررت السلطات العامة استقطاع 4.8% من مرتبات الموظفين العاملين والمتقاعدين. في حين كان من الأولى رد المبالغ المستقطعة إلى أصحابها لاحقاً بدون فوائد وفق الأسس المعروفة في القروض الإجبارية.
أضف إلى ذلك تذمر المستثمرين الأجانب والمحليين من عدم حصولهم على حقوقهم بموجب العقود المبرمة مع الدولة. فقد تفاوضت الحكومة مراراً مع شركات النفط الأجنبية العاملة في البلد بشأن تأجيل مستحقات هذه الشركات. أما على الصعيد المحلي فهنالك صور عديدة لعدم الوفاء بالالتزامات المالية كتقاعس الدولة في صرف البدل النقدي في الموعد المحدد للعقارات التي تستأجرها من القطاع الخاص.
4- تقليص حصة إقليم كردستان: تقرر الميزانية العامة سنويا حصة إلى إقليم كردستان. بين 2004 ولغاية نهاية 2017 حددت هذه الحصة بنسبة 17% من النفقات العامة. أما في ميزانية عام 2018 فقد قررت الحكومة المركزية وبإرادتها المنفردة تخفيضها إلى 12.67%. نجم هذا التخفيض عن ثلاثة أسباب أساسية: السبب الأول أن النسبة الجديدة تنسجم مع القاعدة المعتمدة في الدستور العراقي وهي توزيع الأموال على المحافظات وفق عدد السكان. والسبب الثاني الأزمة المالية التي يمر بها البلد والتي تتطلب تقليص الإنفاق العام. والسبب الثالث والأهم وهو التطور العسكري ما بعد الاستفتاء الانفصالي الكردي الذي أدى إلى تردي علاقات الإقليم بتركيا وإيران. فضعف الجانب الكردي مما قاد إلى إعادة سيطرة الحكومة المركزية على كركوك وحقولها النفطية وإلى قرار تخفيض الحصة. سيفضي هذا التخفيض إلى توتر العلاقات بين اربيل وبغداد المتأزمة أساسا.
لا تتحقق معالجة العجز المالي في العراق بتقليص مرتبات الموظفين وزيادة الضرائب وتقليص الحصة التموينية. هذه الإجراءات غير فاعلة وتسهم في تردي مستوى معيشة المواطنين.
لابد من إنهاء الصراع العسكري والتوتر السياسي والتدهور الأمني والفساد المالي. عندئذ سينجح الإصلاح المالي الذي سيركز على زيادة الإنفاق الاستثماري ونسبة تنفيذه. ستكون الاستثمارات الفعلية مساوية تقريباً للاستثمارات التقديرية. وبالتالي يتحسن الإنتاج والتشغيل والتصدير فيرتفع النمو. وهكذا تصبح الميزانية العامة أداة أساسية للتنمية الاقتصادية والرفاهية الاجتماعية حتى وإن نظمت بعجز.

منشورات أخرى للكاتب