من يستكمل اعتماد النسخة المُحدثة من “العدالة والتنمية” في البحرين؟

في سوق سياسية شحيحة الوظائف، مُتوقفة النمو، داخل بيئة سياسية اختارت لها مؤسسة الحُكم الركود على الحركة، وإذ تعجز مؤسسات المعارضة بمختلف أيديولوجياتها ورهاناتها -في الداخل والخارج- عن اقتراح الحلول أو تقديم تفسير معقول لتعقيدات اللحظة، نسأل؛ مَن يُبادر إلى استكمال اعتماد النسخة المُحدثة لإشهار جمعية “العدالة والتنمية” في البحرين؟

يعود تاريخ هذه الوظيفة الشاغرة إلى عام 2004. وقتئذ، اختار عضو جمعية الوفاق الوطني الإسلامية السابق ووزير الدولة للشؤون الخارجية (2006 – 2011) نزار البحارنة مع بعض النخب من أعضاء الجمعية تقديم استقالاتهم والانشقاق نحو تأسيس جمعية سياسية تحت مسمى جمعية “العدالة والتنمية”.

الجمعية التي كان الهدف من بعثها إلى الحياة -بحسب البحارنة- هو ما لمسهُ المؤسسون/المنشقون من ضيقٍ في أفقِ القبول بالاختلاف داخل المؤسسة الأم (الوفاق)؛ وميلاً وفاقياً نحو خيارات “التشدد”، خصوصاً بعد قرار الوفاق مقاطعة أول انتخابات للمجلس النيابي عام 2002.

جمعية “العدالة والتنمية” التي لم يكتب لها أن ترى النور بعد “فيتو” المرجعية الدينية الأولى لشارع المعارضة الشيعية الشيخ عيسى قاسم؛ كانت تؤكد في أدبياتها التأسيسية على “طرح مطالب عقلانية ومشروعة من أجل مصلحة الجميع” (صحيفة الوسط، البحرين، 29 أغسطس 2004).

ورغم محاولات نزار البحارنة وآخرون تجنب الصدام والشيخ عيسى قاسم وطموحهم -المبالغ فيه- في الاجتماع به رغبة الحصول على مباركته، إلا أن حضور أمين عام الوفاق الشيخ علي سلمان وحضوته لدى الشيخ عيسى قاسم كانت أقوى وأهم وأكثر تأثيراً ونفوذاً من أن يتم اختراقها.

ورغم إخفاق نزار البحارنة ورفاقه في مساعي الخروج بتنظيم سياسي جديد أكثر قرباً من مؤسسة الحكم ومشروع الملك حمد بن عيسى آل خليفة وبما يشمل الدخول في الانتخابات النيابية واللعب في فضاء الممكن والقبول بتدرج بطيء في الإصلاح؛ إلا أن السلطة ورغبة منها في اختراق شارع المعارضة -نخبوياً على الأقل- سارعت إلى احتضان هذه المجموعة ورعايتها؛ بادر الملك إلى ضم نزار البحارنة ليكون والمعارض السابق مجيد العلوي في مجلس الوزراء كوزيرين لحقيبتي الشؤون الخارجية والعمل؛ جنباً إلى جنب مع المعارض السابق منصور الجمري الذي فضل اختراق فضاء الإعلام والصحافة كرئيس تحرير لصحيفة الوسط البحرينية.

وتحت مظلة مباشرة من ولي العهد الأمير سلمان بن حمد آل خليفة، عمل الثلاثي (نزار البحارنة ومجيد العلوي ومنصور الجمري) لسنوات كوسطاء غير رسميين بين أجهزة الدولة وجمعية الوفاق وباقي جمعيات المعارضة؛ وبالتأكيد، لا ينكر أحد الدور الذي لعبه هذا الثلاثي في رسم وتحويل سياسات قوى المعارضة نحو المزيد من التشبيك مع الدولة ومؤسساتها؛ وهو ما نتج عنه مشاركة جمعيات المعارضة في الانتخابات النيابية العام 2006 والعام 2010 على التوالي.

في مقصلة مارس 2011 ومع دخول القوات السعودية إلى البحرين وتراجع الدور السياسي لولي العهد الأمير سلمان بن حمد آل خليفة لم يكتب للثلاثي النجاة. في البدء أطاحت الأحداث بالوزيرين العلوي والبحارنة مباشرة؛ فيما أمهل الحظ منصور الجمري 6 سنوات قبل أن يتم إغلاق صحيفة الوسط العام الجاري.

ولئن كان إسقاط مشروع جمعية “العدالة والتنمية” العام 2004 لم يمنع ظهور تشظيات وانشقاقات أخرى داخل جمعية الوفاق، تصدر المشهد فيها القياديان الأستاذان حسن مشيمع وعبدالوهاب حسين كنتيجة لصراع كاريزمات تارة ومغالبة في طلب المزيد من خيارات “التشدد” و”المواجهة” مع السلطة تارة أخرى، إلا أن سقوط “العدالة والتنمية” أضاع على المعارضة البحرينية ما هو أكثر أهمية من مراكمة خيارات التشدد والمواجهة؛ وهو وجود قراءة أكثر انفتاحاً، قراءة مختلفة ومغايرة في فهم العملية السياسية في البلاد وخيارات التفاعل فيها؛ وهو بكل تأكيد؛ يبدو فهماً أكثر ميلاً لعقد الصفقات والتسويات والشراكات مع السلطة مقارنة بخيارات الصدام المباشر معها؛ الفظ والعنيف منها كما هو الحال في (الوفاء الإسلامي وحركة حق)، أو الناعم كما كانت (الوفاق).

فعلياً، اعتقد الوفاقيون أنهم نموذج الاعتدال والانفتاح منذ 2006 مقارنة بما تطرحه أدبيات تيار الوفاء الإسلامي وحركة حق، إلا أنهم لم يدركوا أنهم جزء لا يتجزأ من فكرة واحدة؛ ورؤية واحدة.

إن سقوط مشروع جمعية “العدالة والتنمية” من أهم العوامل التي أثرت بالسلب على العملية السياسية في البحرين، كما أن خسائر الوفاق، التي عملت على وأد المشروع، باعتباره تمرداً على وحدة القرار السياسي فيها لصالح مؤسسة الحكم، هي أكثر فداحة وكارثية من مكاسب النظام المتوقعة.

تسببت الوفاة المبكرة لهذا الوليد في تجميد وتعطيل التطور السياسي داخل أكبر التيارات السياسية المعارضة في البلاد، وفي فرض واقع جديد على “التيار الولائي”، كما خلف وراءه نتائج بالغة الأهمية؛ في مقدمتها أن “التيار الولائي” في البحرين بات يختلف عن باقي التيارات الولائية في دول المنطقة، فهو تيار مقطوع عن تطورات مركزه، أحادي الفهم والحركة والقرار والقيادة، ولم تعد يوميات هذا التيار ومستويات فهمه وأدواته السياسية وآليات صناعة القرار فيه تستجيب أو تتفهم مُتغيرات الواقع ومتطلباته كما هو الحال في تجارب أخرى قريبة، ومنها التجربتان الكويتية والسعودية.

اليوم في العام 2017؛ يقضي كل من أمين عام الوفاق الشيخ علي سلمان والأستاذان أمين عام حركة حق حسن مشيمع ومؤسس تيار الوفاء الإسلامي عبدالوهاب حسين أحكاماً بالسجن بعد محاكمات تتعلق بالإرهاب والتحريض على الكراهية بحسب السلطة. قبالة ذلك، يطعن تقرير اللجنة البحرينية المستقلة لتقصي الحقائق في عدالة المحاكمات، وتؤكد منظمات حقوقية دولية وازنة بأنها محاكمات سياسية.

اليوم أيضاً، يختفي عن المشهد البحريني منذ العام 2011 وحتى اليوم غالبية الممثلين السابقين لجمعية العدالة والتنمية. والملاحظة الأهم؛ هي أن شخصيات وازنة من داخل جمعية الوفاق الوطني الإسلامية -التي قامت الدولة بحلها سبتمبر 2016- باتت اليوم أقرب وأكثر التصاقاً وقبولاً بتلك الأدبيات القليلة واليتيمة لجمعية “العدالة والتنمية”.

الثابت الوحيد منذ 2004 والذي لم يتغير منذ ذلك الحين هو أن أحداً لا يمتلك الجرأة الكافية لإكمال أوراق تأسيس جمعية “العدالة والتنمية” أو الدفاع عن منطلقاتها وأفهامها في العلن. لا يمكن الجزم بأن إعادة بعث هذه الجمعية إلى الحياة كفيل بحلحلة الأزمة الداخلية المتفاقمة في البلاد منذ 2011، لكنها بكل تأكيد نافذة مفتوحة لم يختبر أحد حتى اليوم أن يخرج برأسه منها.

منشورات أخرى للكاتب