من حصار برلين إلى حصار قطر
في 24 يونيو/ حزيران 1948 فرض الاتحاد السوفيتي حصاراً خانقاً على برلين؛ كان الحصار سياسي الأهداف؛ اقتصادي الأدوات. وقتئذ؛ أغلق السوفييت الطرق البرية وعُطلت مسارات السكك الحديدية إلى غرب المدينة، وهو ما عرف حينها بحصار برلين (Berlin Blockade).
سعى الاتحاد السوفيتي من الحصار إلى فرض إرادته السياسية على الجزء الغربي من ألمانيا عبر التحكم بتوريد احتياجاته من الغذاء والوقود.
في 5 يونيو/حزيران 2017 قررت كل من السعودية والإمارات والبحرين ومصر قطع علاقاتها الدبلوماسية مع الدوحة، وفرض حصار عليها بإغلاق كافة المنافذ الجوية والبرية والبحرية معها. وقدمت دول الحصار شروطاً أكدت أنها الطريق الوحيد لـ “إعادة العلاقات وإيقاف المقاطعة الاقتصادية المفروضة على الدوحة”.
الحلول موجودة
واجهت الولايات المتحدة وحلفاؤها الحصار المفروض على برلين عبر تدشين جسر جوي شاركت فيه إلى جانب الولايات المتحدة كل من بريطانيا وكندا وأستراليا ونيوزيلندا وجنوب أفريقيا، ووفرت هذه الدول من خلال أكثر من 200 ألف رحلة طيران إلى مطارات برلين ما يزيد عن 4500 طناً من المحروقات والغذاء والسلع الأخرى يومياً.
في الجهة الأخرى؛ سرعان ما استجابت الدوحة – التي تعتمد على السعودية والإمارات بشكل أساسي في تأمين الغذاء والعديد من الاحتياجات الأساسية لمواطنيها والمقيمين على أراضيها – إلى تنسيق جسر بري وآخر بحري لتعويض الخسائر الكبيرة في مخزونها من الغذاء والسلع الأخرى. ولاشك في أن كل من تركيا وإيران لعبتا دوراً محورياً في مساعدة الدوحة على تجاوز صدمة الأيام الأولى من الحصار المفروض عليها.
ما أعطى الدوحة أفضلية في التعامل مع هذا الموقف الصعب والمربك هي ملاءة مالية تقترب من 400 مليار دولار؛ أسطول ناقلتها الوطنية الكبير بحوالي 200 طائرة؛ بالإضافة إلى بقاء منفذها البحري متاحاً أمام الموانئ الإيرانية وميناء صلالة بسلطنة عُمان الذي ورث عمليات ميناء جبل علي الإماراتي.
تطبيع الحصار
في العام 1949؛ أحرج الجسر الجوي الذي دشنته الولايات المتحدة وحلفاؤها موسكو، ولم تجد الأخيرة خياراً سوى فك الحصار في مايو 1949 لتتجاوز هدفها في توحيد برلين في حكم ماركسي ينطوي تحت عباءة الاتحاد السوفييتي؛ كانت فوائض الإنتاج من المصانع السوفييتية تتصاعد وخسائر موسكو من الحصار تتراكم قبالة نموذج اقتصادي جديد بدأ بالتشكل والنمو والاستقرار غرب برلين.
اليوم وبعد مرور أكثر من 120 يوماً على بدء الحصار لا شك أن خسائر الدوحة كبيرة؛ ولا يُعرف بدقة مقدار التدخل الحكومي لسد النقص في السيولة المالية وفي دعم شركات ومؤسسات القطاع الخاص المعنية بتوفير الغذاء وباقي السلع التي يحتاجها السوق القطري، وهو ما ينطبق أيضاً على خسائر كل من السعودية والإمارات وباقي دول الحصار. في السعودية تحديداً؛ يزيد المعلن رسمياً من خسائر القطاع الخاص عن 6.45 مليار ريال سعودي. لكن المؤكد هو أن فاتورة الخسائر القطرية تنخفض يوماً بعد يوم، فلا يمكن المقارنة بين ما تكبده الاقتصاد القطري من خسائر في يونيو 2017 وما يتكبده اليوم ونحن في الشهر الرابع من الأزمة.
بطبيعة الحال، تبدو تداعيات الأزمة الخليجية وتشعباتها معقدة؛ وليست الورقة الاقتصادية منفردة المؤشر الوحيد والمسؤول عن رسم مسار الأزمة ونهايتها. لكنه أيضاً؛ يستطيع تحسين فرص التفاوض والتموضع لأي طرف من أطراف الصراع. وهو ما قد يكون (أولوية) لدى الدوحة قبل غيرها؛ إذ أنه عامل رئيسي في تحديد ما إذا كانت مجبرة بالفعل على تقديم (سلة تنازلات) لدول الحصار. وهو أيضاً؛ ما سيجعلها أكثر قدرة على تصميم هذه السلة من التنازلات إن أجبرت عليها وبما لا يؤثر عن سيادتها وقرارها الوطني.
وكما أن الاتحاد السوفييتي لم يقم بفك الحصار عن برلين إلا حين تأكد من فشل الحصار وعجزه عن الوفاء بأهدافه؛ يبدو أن الخيار الأفضل أمام الدوحة في التعامل مع هذه الأزمة في تطبيعها وتجاوزها؛ وهو ما يتطلب عقلية جديدة ومغايرة في إدارة يوميات الحصار/ المقاطعة والتعامل معها؛ سياسياً واقتصادياً، وإعلامياً أيضاً.
تطبيع الحصار والمعالجة الجديدة التي تحتاجها الدوحة من المفترض أن تنقل مفهوم الأزمة والانفعال بها من كونها أزمة (قطرية) إلى كونها أزمة تخص دول الحصار ذاتها. وهو ما يتطلب إعادة هيكلة شاملة في الدولة؛ هوية؛ سياسة؛ واقتصاداً، وبما يصل إلى إعادة صياغة هوية البلاد والثقافة المجتمعية. وبمعنى أوضح، هو ما يتطلب صناعة قطر جديدة.
الإجراءات التي اتبعها السوفييت في حصار برلين كانت تنطلق من نصوص اتفاق (الدول المنتصرة) بعد الحرب العالمية الثانية التي كانت تنص على حق موسكو في إغلاق الطرق البرية إلى غرب برلين؛ وكذلك هي دول حصار قطر التي تؤكد أن لا حصار مفروض على الدوحة، وأن مقاطعتها حق مشروع وسيادي تمارسه دول الحصار على أراضيها وموانئها البرية والبحرية.
ولئن كانت دول الحصار تقدم مثل هذه المقدمات خلاف ما يصدر عن منصاتها الإعلامية إلا أنها تقدم لقطر حلولاً جاهزة في تطبيع الصراع؛ ويبرز التحدي الحقيقي أمام الدوحة في جرأتها وشجاعتها على المضي في إجراء عمليات جراحية شجاعة في بنية اقتصادها؛ وفي علاقاتها الإقليمية والدولية أيضاً.
بطبيعة الحال؛ لم يكن سيناريو انتهاء أزمة حصار برلين العام 1949 ناعماً أو كلاسيكياً؛ فبالإضافة لعوامل أخرى وكمخاض للحرب الباردة بين الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة انقسمت ألمانيا لشرقية وغربية؛ وصولاً إلى بناء جدار برلين الذي بدأ بناؤه بعد عامين من فك الحصار؛ ليطوي بذلك تعايش الألمان في دول موحدة.
وكذلك هو الحال اليوم في الأزمة الخليجية؛ على دول الصراع الدائر في مجلس التعاون الخليجي إدراك أن لا عودة لما قبل 5 يونيو/حزيران 2017، وأن هذا اليوم كان يوم بدء أعمال الإنشاء لبناء (جدار برلين جديد) سيؤسس لانقسام طويل بين دول الخليج؛ شعوباً ودولاً.