الأزمة الخليجية: الصراع المفتوح أو عودة الأخ الأكبر

في 28 أكتوبر 1945م أرسل حاكم أبو ظبي آنذاك الشيخ شخبوط بن سلطان آل نهيان رسالة يطلب فيها من السلطات البريطانية تأديب حاكم دبي الشيخ سعيد بن مكتوم بن حشر آل مكتوم، أو السماح له بأن يفعل ذلك بنفسه. يؤكد الشيخ شخبوط في رسالته أن دبي انتهكت اتفاقية السلم البحري حين نقلت قواتها بحراً، علماً بأن الشيخ شخبوط ذاته كان قد أرسل احتجاجاً على نقل هذه القوات إلى خور غناضة موضوع النزاع. يريد الشيخ شخبوط معاقبة دبي لأي سبب؛ ابتداءاً حين حركت قواتها، أو انتهاءاً حين قامت بسحبها!

الرسالة هي جزء من السجل رقم IOR/R/15/2/2010A (المكتبة البريطانية: سجلات مكتب الهند) تحت عنوان الصراع الحدودي بين دبي وأبوظبي في الفترة ما بين 19 أكتوبر 1945 إلى 26 أغسطس 1946، هي وباقي الرسائل الواردة في السجل تقدم نموذجاً للآليات التي كانت مشيخات الخليج آنذاك تدير صراعاتها الداخلية من خلالها. بالإمكان العودة إلى الأرشيف المذكور والاطلاع على المراسلات التي ترتبط أيضاً بملف آخر يتناول صراعات المشيختين على بعض الإبل والماشية. ولا تقتصر هذه “الخفة”- إن صح التعبير – على مشيختي دبي وأبوظبي دون غيرها من المشيخات.

أدار البريطانيون لأكثر من مائة وخمسين عاماً (1820 – 1971) يوميات الصراع بين المشيخات المتناحرة على ساحل الخليج. وتعهدت معالجة ما يستجد بين المشيخات من خلافات حدودية أو تجارية. الأهم من ذلك، لعبت بريطانيا دور الأخ الأكبر والممثل السياسي والتجاري لمشيخات الخليج مع دول العالم، وتكفلت بحمايتها من التهديدات الإقليمية المحيطة بها.

وحين قررت بريطانيا الانسحاب أوائل سبعينيات القرن الآفل، ورثت الولايات المتحدة في عهد ما بعد الاستقلال الجزء الأكبر من الدور البريطاني في المنطقة. وصولاً إلى تدخل بوارجها العسكرية لحماية إمدادات النفط الخليجية في الحرب العراقية الإيرانية (1980-1988)، كما حملت واشنطن على عاتقها مسؤولية تحرير الكويت وحماية باقي دول الخليج من اجتياح عراقي محتمل، ما نتج عنه حرب الخليج الثانية (1990 -1991). ورغم أن دول الخليج قد استطاعت البدء في بلورة سياساتها الخاصة إقليمياً ودولياً، إلا أن واشنطن كانت “الأخ الأكبر” الناظم لهذه السياسات على المستويين، الإقليمي والدولي.

وكما كان العام 2011 حاسماً في العديد من المتغيرات الإقليمية المتسارعة في منطقة الشرق الأوسط، كان ذلك العام حافلاً بمتغيرات دولية لا تقل أهمية وتأثيراً، إذ ترشحت سياسة “الانزواء والمراقبة عن بعد” مساراً جديداً في السياسة الخارجية الأميركية بعد مخاضٍ ونقاشٍ حاد في الداخل الأميركي، وذلك بعد حربين جدليتين خاضتهما واشنطن في المنطقة، في أفغانستان والعراق.

راهنت السياسة الخارجية للرئيس الأميركي السابق باراك أوباما في منطقة الشرق الأوسط عامة والخليج خاصة، على تحقيق الممكن والمتاح من المكاسب بأقل التكاليف الممكنة، سياسياً واقتصادياً وعسكرياً. هكذا، ودون سابق إنذار، وجدت دول الخليج العربية نفسها بعد العام 2011 أمام معادلة أميركية جديدة في المنطقة، على دول الخليج أن تعالج مشاكلها بنفسها، فالأخ الأكبر أعلن انسحابه الرسمي من المعركة. يأتي ذلك في توقيت دقيق، تتجه فيه المنطقة نحو تغيير دراماتيكي من تونس إلى البحرين.

تصدت دول الخليج إلى المهمة التي لم تعهد/تتعود القيام بها، وبدأت في صياغة إستراتيجياتها حيال ملفات ما عرف بـ “الربيع العربي” والأخطار الإقليمية المحيطة بها، فُعِّلت الإستراتيجيات من خلال خطوات إجرائية عاجلة نفذتها أدوات دول الخليج الفاعلة؛ الآلة الإعلامية الضاربة، الوفورات المالية المتضخمة، المراهنات على الإسلام السياسي تارة، وعلى المؤسسات العسكرية والاقتصادية ومكونات الدول العميقة في الدول العربية تارة أخرى.

لم يكن للإستراتيجيات التي اعتمدتها دول الخليج كل على حدا خط ناظم. وعليه، كان لا مفر من التصادم وتضارب السياسات مبكراً، في مصر، وليبيا، وسوريا، واليمن. وفيما كانت مظلة مجلس التعاون الخليجي لدول الخليج العربية تحد من فرص التصادم، كان تصارع الأجندات والحروب بالوكالة بين دول الخليج حقيقة مُعاشة في كل من مصر وليبيا واليمن وسوريا. نستذكر هنا الانقلاب العسكري في مصر الذي قدم الصورة الأكثر وضوحاً لصراع دول الخليج في المنطقة.

لم يكن ثمة مفر من الوصول إلى لحظة الصدام في 23 مايو/أيار 2017 مع اختراق موقع وكالة الأنباء القطرية، تلاها إعلان ثلاث دول خليجية (السعودية والبحرين والإمارات) ومصر قطع العلاقات الدبلوماسية والطلب من الدبلوماسيين القطريين المغادرة، تبع ذلك إغلاق جميع المجالات والمنافذ الجوية والبرية والبحرية أمام قطر، دولة ومواطنين. لقد استنفدت دول الخليج رصيد الشراكة التاريخية في “مجلس التعاون الخليجي” كاملاً، وبات تضارب الأجندات يستنزف الجميع بلا رحمة، سياسياً، مالياً، وإعلامياً. وعليه، كانت الأزمة الخليجية المحطة الأخيرة التي سيصل اليها الجميع، اليوم أو غداً.

لا يبدو أن أداء دول الخليج الذي لم ينجح في حلحلة أي ملف من ملفات الإقليم الساخنة يستطيع الوصول إلى تسوية لأزمتها الداخلية الجديدة. وحده الدور الأميركي المفقود من يستطيع إعادة فرض قواعد الاشتباك بين دول الخليج وسقوفها. وحدها واشنطن من تستطيع رفع الحصار عن الدوحة وكبح جماح التنمر الخليجي عليها، لكن السؤال المطروح هنا؛ لماذا تفعل واشنطن ذلك؟

قدم التغيير في البيت الأبيض مطلع العام الجاري 2017 إشارات عدة حول تغيير جوهري في السياسة الخارجية للولايات المتحدة في المنطقة إلا أن هذا التغيير لم يكن كما كان متوقعاً. باتت الولايات المتحدة أقرب إلى الخليج من بوابة التصدي لإيران، لكن لا بالصفة ولا الدور التاريخيين لها، بل بصيغة تاجر السلاح الدولي، دورٌ لم يكن لأحد سوى رجل الأعمال الناجح دونالد ترامب أن يلعبه بهذه المهارة التي تمخضت عن أكبر صفقة تجارية/ عسكرية في التاريخ.

تحتاج الدوحة إلى التفكير خارج الصندوق وبجدية. فهي وإن كانت تلاعب جيران الأمس ودول حصار اليوم بذات الأدوات والإستراتيجيات، إلا أن مسار تنمر دول الخليج على الدوحة مرشح لما هو أكثر من ذلك، ولا يجب التهاون مع أي فرضية تشاؤمية على اعتبار أن دول الحصار ستتراجع عن مشروع التغيير في قطر اليوم أو غداً، نعلم جيداً أن أقصر الطرق للوقاية من الحرب كانت دائماً وأبداً في الاستعداد لها.

منشورات أخرى للكاتب