انتخابات الرئاسة الإيرانية .. لا مرشح للصقور، ولا برنامج للحمائم

آمال وخيبات:

حين أجريت الانتخابات البرلمانية في فبراير 2016 في إيران، كان الاهتمام الخارجي مُنصباً على رصد انعكاسات الاتفاق النووي الذي عقدته الأخيرة مع المجتمع الدولي على مكونات الطبقة السياسية الإيرانية، وتبيان الفروقات التي قد يخلّفها الاتفاق على توازن القوى الداخلي. وككل جولات الاقتراع الإيرانية السابقة، جاءت النتائج مبهمة وملائمة لأي تأويل لدلالاتها، فلا من يجري وسمهم بالمعتدلين قد أحرزوا فوزاً حاسماً، ولا من يصطلح على تسميتهم بالمتشددين سجلوا تراجعاً ذا مؤشرات جازمة. غير أن نتائج الانتخابات البرلمانية لم تثني الأطراف الدولية والمراقبين المعنيين عن استكمال تقفي آثار الاتفاق النووي على الخريطة الداخلية الإيرانية في محطات لاحقة، واستقر رهانهم على أن تحولات نوعية حتمية ستجد طريقها إليها في المدى الزمني الذي سيلي تثبيت مفاعيله. فكان أن اُعتبرت الانتخابات الرئاسية الإيرانية المزمع عقدها في منتصف عام 2017 بمثابة الاستحقاق الاختباري الذي سيؤسس مساراً تاريخياً جديداً في “إيران ما بعد الاتفاق”.
مخرجات السباق الرئاسي في الولايات المتحدة الأمريكية الصادمة نهاية عام 2016، وفوز المرشح الإشكالي دونالد ترامب أعادت خلط أوراق السياسة الدولية في كل مكان، وعلاوة على التبعات التي يرتبها دخول ترامب إلى البيت الأبيض على الصعيد الداخلي الأمريكي، فإن ارتداداته في الخارج وبحسب البعض ستبدو أكثر جلاء، وبخاصة عندما يأتي الحديث عن الكيفية التي سيؤثر بها ذلك على المكونات السياسية في القارة الأوروبية لجهة تحفيز صعود العناصر والاتجاهات اليمينية فيها، حيث الدعائم المؤسسية هناك أقل مناعة وقدرة على الصمود قياساً بنظيرتها الأمريكية في مواجهة خطر الانزلاق نحو الفاشية الشعبوية، سيما وأن اليمين الأوروبي وبوحي من صعود ظاهرة ترامب في أميركا استطاع تسجيل مكاسب انتخابية في أكثر من موقع إضافة لمواقع أخرى مرشحة لأن تسقط تباعاً في يده، وذلك من دون الخوض في حقيقة أن الاتجاه العام للسياسات في أميركا يمثل أوروبياً بوصلة للأيديولوجيا يجري ضبط اتجاهات المعسكرات السياسية في القارة البيضاء وفقاً لها، ما يجعل في زمن “أميركا ترامب” بالتبعية كلاً من المستشارة الألمانية إنجيلا ميركل يساراً أوروبيا، ومن النازيين الجدد يميناً، والليبراليين يساراً فوضوياً!

الغرض من هذا الاستطراد، هو الوقوف على المتغيرات المرتقبة ومقدماتها في توجهات السياسة الغربية عموماً، والتي خلقها وصول دونالد ترامب إلى الرئاسة، سيما وأن الغرب هو العنصر الناظم والمهيمن على مسرح العلاقات الدولية والسياسات التي تربط أجزاءها ببعضها البعض، وفي القلب من هذه المتغيرات، ما يلوح من بوادر وتهديدات بتنصل أمريكي وغربي من الاتفاق النووي مع إيران، ناهيك عن عودة التصعيد الكلامي بين الأخيرة والغرب بعد فترة من الهدوء النسبي الذي اتسمت به فترة وجود الرئيس السابق باراك أوباما في البيت الأبيض.

البحث عن مرشح:

التطورات التي طرأت على هذا السياق، تركت آثاراً ثقيلة على الصعيد الداخلي الإيراني، تراجعت بموجبه كل التبشيرات التي ازدهرت عقب التوقيع على الاتفاق النووي بأن خريطة توازنات وسياسات داخلية سيتم تخليقها تؤهل إيران للانخراط بعلاقات طبيعية مع المجتمع الدولي، وأن نزوحاً داخلياً عاماً نحو الاعتدال ستولده مفاعيل الاتفاق. وعادت بدلاً منها إلى الواجهة من جديد الأصوات المتشددة التي ترى أن المعركة مع الغرب لازالت مفتوحة، وأن الاتفاق لم يفلح في شق مسار جديد للعلاقة معه.
والحال كذلك، فإن التغييرات الدولية التي عصفت بالعالم خلال الشهرين الأولين للعام 2017، قضت بإعادة تشكيل الأرضية السياسية التي كان من المفترض أن تجري الانتخابات الرئاسية الإيرانية بالتأسيس على معطياتها. وإذا كنا لا نميل إلى اعتماد المنهج الدارج في تقسيم الطبقة السياسية الإيرانية إلى معسكرين رئيسيين “متشددين” و”معتدلين أو إصلاحيين” كونه ينطوي على تبسيط مخل يغفل عن مروحة المكونات الأكثر تعددية وشبكات الترابط الداخلي المعقدة بينها، فإنه وعلى الرغم من أن المدى الزمني الذي يفصل الإيرانيين عن موعد الاستحقاق الانتخابي لا تتعدى مدته الشهرين، فإن الضبابية والتخمينات لازالت تلف قائمة المرشحين النهائية لمنصب الرئيس من كلا المعسكرين ومصير من أعلنوا نيتهم خوض السباقن فالرئيس الحالي حسن روحاني الممثل الأبرز أقله حتى الآن لمعسكر الإصلاحيين، لم يُوضع بعد حداً قاطعاً للتشكيكات التي تثار حول أهليته القانونية لخوض المنافسة الرئاسية لولاية ثانية، ما يشير إلى أن الدوائر والتقاطعات فيما بينها المكونة للطبقة السياسية لم تصل بعد إلى توافقات تبلور مرشحيها النهائيين، وتحدد الائتلافات السياسية التي ستصطف خلفهم، وبخاصة وأن تعارضات جلية ظهرت في داخل كل معسكر على حدا، حالت حتى الآن دون الوصول لهذه التوافقات الفرعية، كما هو الحال في صفوف من يوصفون بالمتشددين الذين لم يستقروا بعد على خيار أو وجهة محددة تنظم مشاركتهم في العملية الانتخابية، فالرئيس الإيراني الأسبق أحمدي نجاد والذي جرى تداول اسمه كأحد مرشحي هذا المعسكر المفترضين، قيل بأن مرشد الجمهورية السيد علي خامنئي غير متحمس لطرحه كمرشح لهذه الدورة، من دون أن يعني ذلك إقصاءً نهائياً وقاطعاً له، بالنظر إلى أن رغبة المرشد خضعت لتأويل مفاده أن موقفه ليس أمراً حاسماً بقدر ما هو “نصيحة” من الأب لأحد أبنائه!

المرشد:

في ظل هذه الأجواء المبهمة، تلتفت الأنظار إلى موقع المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية الإيرانية السيد علي خامنئي، الذي كعادته يحيط موقفه بأستار من الغموض والسرية تحجب عن الآخرين القدرة على تلمس الوجهة التي تكتسب أفضلية لديه عن سواها في هذه الانتخابات. وهو ما يدفع المراقبين إلى محاولة حصر وتحديد الخيارات التي يمكن للسيد خامنئي أن يلجأ إليها في مقاربته للاستحقاقات الداخلية والخارجية أمام الدولة الإيرانية في السنوات القادمة، من دون أن تصدر عنه بالضرورة إشارات صريحة تخيّر مرشحاً عن آخر، ومن دون أن تكتسب أي من استقراءات المراقبين هذه اعتمادية عالية، بالنظر إلى حقيقة أن الوضع الدولي الآنف عرضه لم تثبت بعد اتجاهات السكة التي ستسير عليها عربة العلاقات الإيرانية مع المجتمع الدولي.
فالبعض يرى أن المرشد قد يخضع للمناخ العام الحالي المتشدد في إيران، والذي خلفه الارتداد الذي أصاب مسار الانفتاح النسبي على الغرب، في أعقاب التهديدات الغربية بالعودة عن الاتفاق النووي، والذي يهدد بدوره بتجريد المعسكر المعتدل في إيران من المشروع الذي كان يراهن عليه في بناء حيثيته السياسية الأساسية داخلياً للسنوات القادمة، وبالتالي يضع قائد الثورة ثقله خلف مرشح راديكالي يراه منسجماً أكثر مع حالة الاحتقان التي تسيطر على إيران والغرب في علاقتهما ببعض.
أما الرأي الآخر فيبني تصوره على أسس تفترض أن المرشد قد يُبقي الباب موارباً في وجه آمال التواصل مع الغرب وإن بدت شحيحة، عبر تصديره لرئيس معتدل أكثر مقبولية على المستوى الدولي يعزز في حده الأدنى من فرص الوصول إلى اتفاقات تجارية ترفد الاقتصاد الإيراني بما يعينه على تجاوز أزماته الحالية، سيما وأن إخفاقات الرئيس نجاد السابقة على هذا الصعيد لازالت حاضرة في ذاكرة الرأي العام الإيراني. أيضاً، فإن رئيساً إصلاحياً من شأنه تسهيل عملية احتواء الانقسامات الاجتماعية في الداخل الإيراني.
غير أن الثابت في خضم كل المتغيرات التي قد يحدثها وصول أي مرشح للرئاسة وبمعزل عن التيار الذي يمثله، يكمن في أن الملفات الإستراتيجية المتعلقة بمشاريع توسع النفوذ الإيراني في فضائها الجيوبوليتيكي كالعراق وسوريا ولبنان وفلسطين وغيرها، أو ما يتصل بالتسليح، والطاقة النووية سيظل في يد المرشد والهيئات والأجهزة المحيطة به، ما يضع سقفاً لحدود ما تنتظره كل الأطراف من انتخابات الرئاسة الإيرانية، فأياً كانت هوية الرئيس القادم فهو حتماً لن يحمل كلمات السر التي تفتح هذه الملفات!

منشورات أخرى للكاتب