العلاقات الخليجية: زوبعة في فنجان هزه ترامب في الرياض
التصعيد السياسي والإعلامي المفاجئ وغير المسبوق، الذي نشب بين دول مجلس التعاون الخليجي على خلفية تصريحات منسوبة لأمير قطر – جرى نفي صحتها – اعتُبرت مسيئة لدول الجوار وتسهم في تعزيز خلافاتها. يمكن رده إلى كونه إحدى أعراض تفريغ فائض حماس زائد لا زالت مصبات قنوات تصريفه مبهمة، وشعور يحيطه الالتباس بالقوة خلفته زيارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى الرياض، وسلسلة القمم التي عقدها الأخير هناك.
صحيح أن جهات عدة تحدثت عن أن الهجوم الإعلامي والسياسي العنيف الذي شنته السعودية والإمارات ومصر على قطر وأميرها الشيخ تميم بن حمد، وأنه شكلاً ومضموناً أعطى انطباعاً بأنها حملة “منظمة” جرى تنسيقها مسبقاً بين الأطراف المنخرطة بها، دللت هذه الجهات على طرحها بأن الأيام الأخيرة قبل الأزمة انطوت على مؤشرات تشي بتصعيد مرتقب في الأجواء وتمهد الطريق له، سواء فيما تضمنته مواد تحريضية على قطر وسلوكها السياسي في الإقليم بثتها وسائل إعلام محسوبة على الإمارات ومصر والسعودية، أو في ما رافق المشاركة الباهتة لأميرها في القمة التي جمعت الرئيس الأمريكي بزعماء المنطقة في السعودية من تفاصيل رأى البعض أنها تنتقص منها معنوياً، والتي منحت خصومه التقليديين فرصة التقريع العلني لبلاده كما حدث في كلمة الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي التي فُهم بأن قطر هي المقصودة فيها عن ضرورة التصدي للدول الراعية للإرهاب.
غير أن كل هذا لا يكفي لعزل هذه الأزمة عن تداعيات قمة الرياض التي وإن تسببت للمحتفين بها بقدر عالٍ من النشوة وشحذ الهمم وبخاصة المستضيف السعودي، فإن محاولات الوقوف على المخرجات العملية لها لازالت مهمة تقتضي التريث والتأمل، سيما وأن ما من معطيات محددة يمكن رصدها توصّف تغيرات نوعية ستطرأ على سلوك الأطراف المتنازعة في ملفات الإقليم، وتتجاوز الصياغات الإنشائية المكرورة التي صدرت عن المؤتمرين. وقد لا يتعدى أن يكون الهجوم الذي شنته السعودية ومن معها ضد قطر وأميرها سوى تنفيس اضطراري وربما غير واعٍ لنفسه ولدوافعه لفائض الحماسة التي نجمت عن القمة الكرنفالية. سيما وأن الاستقواء الخليجي والعربي على قطر سياسياً وإعلامياً هو أمر بحد ذاته غير مكلف، وبدورها تمثل مشاغبات الأخيرة على ترتيبات الشقيقات الكبرى سمة دائمة لفعلها السياسي في مختلف الملفات. وهذه المشاغبات تشكل رصيداً جاهزاً من “التجاوزات” يصلح للاستدعاء في أي لحظة بداعي اللوم والمحاسبة من قبل الآخرين.
الأزمة الأخيرة وحتى لا ننتقص من حجمها وتداعياتها، شكلت نقلة نوعية في مستوى حدة التخاطب بين دول الخليج. وأّقحم فيها سواء بقصد أو بغير قصد إشارات صريحة لتناقضات جرت العادة على النأي بها عن التداول العلني، كالخلافات في داخل الأسر الخليجية الحاكمة، والروابط غير الرسمية والتحالفات الخفية التي تربط بين أعضاء من أسرة بعناصر من أُسر أخرى. كذلك فقد جرت الاستعانة والاستقواء الصريح في هذه الواقعة بأطراف من خارج البيت الخليجي لحسم تناقضات داخلية فيه.
وأيا كان موعد تهدئة الأجواء وعقد المصالحة المتوقعة بين الفرقاء فإن الجرح الذي تسببت به هذه الأزمة سيخلف ندوباً أبدية سترسم معالم شكل جديد للعلاقات داخل مجلس التعاون الخليجي. إلا أن هذا لا ينفي أن أي صدام سياسي بين هذه الأطراف ومهما احتدت اللغة التي تشحنه وعلا موقع من يتحدث بها، لن يغير من حقيقة أن هذه الأزمة وما شابهها غير كفيلة بإعادة رسم خارطة موازين قوى جديدة في المنطقة التي ينشط بها أطرافها. تحديداً أن فرضية الخروج عن منظومة الضبط الأمريكية لحركتهم غير واردة لدى أي منهم. ومنظومة الضبط المقصودة هنا تتجاوز شبكة العلاقات القائمة بين أنظمة الخليج والإدارات الأمريكية المتعاقبة ومحدداتها، بل هي تلك المعقودة بين أركان الأسر الخليجية الحاكمة ومراكز القوى واللوبيات الكبرى التي تشكل عماد الدولة العميقة في الولايات المتحدة الأمريكية، والتي نسجها أعضاء هذه الأسر على مدى عقود من التحالف الوثيق بينهم وبين الأمريكيين. كما أن أي تناقضات تقع بين دول الخليج سيحد من تفاقم مفاعيلها التهديد الإيراني الذي تستشعره هذه الدول، حيث يبقى العداء الذي تناصبه مجتمعة للجمهورية الإسلامية الإيرانية بمثابة جامع لها في مواجهتها، وأي فرضيات جرى تداولها في الأيام الأخيرة تتحدث عن انتقال مفترض لأحد الأطراف الخليجية إلى الضفة الإيرانية كرد فعل على الأزمة، تدحضه حقائق ومقتضيات المحددات التي تضعها أمريكا والغرب على مساحات الحركة المسموح بها لهذه الدول.
وإذا كان من الواضح حتى هذه اللحظة بأن قطر تتجنب مجاراة نبرة التصعيد في لغة خصومها خلال هذه الأزمة، وتبدي استعداداً للتجاوب مع دعوات رأب الصدع التي بادرت دولة الكويت لإطلاقها، فعلى المقلب الآخر بدأت تتضح ملامح نوايا وغايات فريق السعودية والإمارات أقلّه الآنية من افتعال الأزمة، والتي تستهدف حث الولايات المتحدة الأمريكية لنقل “قاعدة العديد” من قطر إلى مكان آخر، الأرجح أنه الإمارات، وبمعزل عن مدى واقعية هذه الرغبة وتوافر ممكناتها، فإنها كفيلة بالإفصاح عن المحرك الرئيسي للنزاعات بين دول الخليج، والقائم في جوهره على تنافس التحالفات الخفية بين عناصر الأسر الحاكمة لحسم مركزية السيطرة والقرار لصالح تحالف واحد منها، يرى أنه بات الأجدر بالوكالة الحصرية للسياسات الدولية في الإقليم وتمثيلها سياسياً وأمنياً وعسكرياً واقتصادياً وبوضع مقدراتها وأقدارها في يده.