تحرير المبادلات التجارية الخليجية الأوروبية: حقيقة أم خيال؟
تعاني دول مجلس التعاون الخليجي في تعاملها مع أوروبا من عجز تجاري هائل ومزمن يتزايد باطراد. في عام 2015 بلغت الصادرات الخليجية بما فيها النفط إلى الاتحاد الأوروبي 43,9 مليار يورو ووصلت وارداتها منه إلى 111.6 مليار يورو.
لا تغطي الصادرات إذاً سوى 39.3% من الواردات. كما تعادل واردات بلدان الخليج من الاتحاد الأوروبي 23.7% من وارداتها الكلية. في حين لا تتعدى واردات الاتحاد الأوروبي من هذه البلدان 2.5% من وارداته الكلية وتنخفض إلى 0.7% عند استثناء المواد الطاقية.
يشير هذا الوضع إلى أن حاجة دول المجلس لأوروبا اكبر بكثير من حاجة أوروبا لهذه الدول. الأمر الذي يفسر قوة أوروبا في تفاوضها التجاري ورغبتها في إبقاء الوضع على ما هو عليه.
لكن هذا التدهور يستوجب العمل على تحسين الصادرات الخليجية عن طريق إنشاء منطقة التجارة الحرة. وقد أعلنت الأمانة العامة لدول المجلس عن نيتها في إجراء دراسة حول العودة إلى طاولة المفاوضات التجارية المتوقفة منذ تسع سنوات.
تحرير التجارة تدريجياً
منطقة التبادل الحر اتفاق تُلغى بموجبه الرسوم الجمركية والحواجز غير الضريبية. لكن هذا التحرير يخضع لضوابط عديدة ينظمها الاتفاق الذي ينص عادة على جدول زمني معين يختلف حسب طبيعة السلعة.
لا توجد وثيقة رسمية تتعلق بهذا التحرير المتدرج. ولكن يمكن استخلاصه من خلال المفاوضات بين الخليجيين والأوروبيين من جهة واتفاقات الشراكة بين الاتحاد الأوروبي وبعض الدول العربية من جهة أخرى. فعلى افتراض توصل الطرفان إلى معالجة جميع المشاكل العالقة بينهما ووقعا على اتفاق التبادل الحر حالاً فإن تحرير التجارة السلعية سيكون على النحو التالي.
سيخضع كل نوع من المنتجات الزراعية المصدرة كالألبان والأسماك لنظام جمركي خاص به يتضمن الكمية القصوى المعفاة من الرسوم الجمركية. وما زاد على ذلك يخضع لرسم معين. هنالك إذاً قيود كمية على هذه الصادرات. أما الواردات الزراعية من أوروبا فسوف تعفى من الرسوم الخليجية تدريجياً إن لم تتمتع أساساً بالإعفاء كالمواد الغذائية الرئيسية.
ومن الناحية المبدئية سيوافق الاتحاد الأوروبي على إلغاء الرسوم الجمركية المفروضة على صادرات الصناعات التحويلية الخليجية حال دخول منطقة التبادل الحر حيز التنفيذ وبصورة تدريجية. ولكن يشترط أن تكون السلعة المصدرة خليجية المنشأ. وسوف يتم تحديد قواعد المنشأ في بروتوكول ملحق بالاتفاق. علماً بأن الاتحاد الأوروبي متمسك بقاعدة “التحويل الجوهري” وبموجبها لا يمكن اعتبار السلعة خليجية أي معفاة من الرسوم الأوروبية إلا إذا أضيفت إليها قيم خليجية جديدة ترتبط بذات السلعة وليس بمظهرها كالتغليف. وسيسري على كل سلعة مصدرة من الخليج نظام خاص. ففي الأدوات الإلكترونية يتعين أن تكون نسبة القيم المضافة الخليجية 60% على الأقل. وهكذا ستحد هذه القاعدة من حجم الصادرات الصناعية المعفاة من الرسوم في أوروبا بسبب كثرة الصناعات المصدرة من الخليج التي تحتوى على نسبة عالية من القيم الأجنبية.
وتجدر الإشارة إلى أن الصادرات الطاقية تخرج من نطاق تنظيم منطقة التجارة الحرة لأن أوروبا لا تفرض أساساً رسوماً جمركية عليها.
أما الواردات الخليجية الصناعية من أوروبا فسوف تنظمها ملاحق مرفقة باتفاق المنطقة. هنالك ملحق خاص بالسلع المعفاة كلياً وفوراً من الرسوم الجمركية وسلع أخرى معفاة تدريجياً وسلع يبدأ تحريرها بعد مضي مدة معينة من تاريخ نفاذ الاتفاق.
بكيفية عامة يتطلب تحرير المبادلات التجارية فترة قد تستغرق تسع سنوات من تاريخ نفاذ الاتفاق. وهنالك فترة أخرى تفصل بين التوقيع على الاتفاق ونفاذه لا تقل عن ثلاث سنوات. بمعنى آخر وعلى افتراض انطلاق وانتهاء المفاوضات والتوقيع على الاتفاق خلال العام الجاري فإن الإعفاء الجمركي الكلي للسلع المتفق عليها سيبدأ في عام 2029.
ينبني التحليل أعلاه على فرضية نجاح المفاوضات والوصول إلى اتفاق فورا. وهذه الفرضية غير ممكنة لعدة أسباب منها عدم وجود قواعد قانونية متفق عليها لتنظيم التبادل الحر الخليجي الأوروبي واصطدام التحرير التجاري بالمصالح الأوروبية.
غياب الإطار القانوني
في عام 1995 وضعت المجموعة الأوروبية قاعدة للتفاوض التجاري مع الدول المحاذية للبحر الأبيض المتوسط أطلق عليها اسم “مسيرة برشلونة” والتي تسمى أيضاً اليورومتوسطية أو اليوروميد. وعلى إثر توسع هذه المجموعة وازدياد الاهتمام بالهاجس الأمني ألغيت هذه المسيرة لتحل محلها في عام 2001 “سياسة الجوار” المعمول بها حاليا. وتهتم بجميع المشاكل السياسية والاقتصادية والإدارية للدول المجاورة لأوروبا. وتقترح عدة طرق لمعالجتها من بينها إقامة مناطق تجارة حرة.
إن هذه السياسة كتلك المسيرة لا تنطبق على دول الخليج. وبالتالي لا يوجد أي إطار للمفاوضات التجارية الخليجية الأوروبية. أما المعاهدة الإطارية لعام 1988 فقد أصبحت غير مناسبة للوضع الراهن ناهيك عن أنها لم تصمم لتنظيم مفاوضات التبادل الحر. بل وضعت معايير عامة لتحسين العلاقات الاقتصادية الخليجية الأوروبية. فلا يوجد في هذه المعاهدة أو في أي وثيقة أخرى تاريخ لإقامة منطقة تجارة حرة الأمر الذي يشجع على المراوغة إلى أجل غير مسمى. في حين حددت سياسة الجوار موعداً نهائياً للتوقيع على اتفاقيات مناطق التجارة الحرة وهو عام 2010.
لقد انطلقت المباحثات الخليجية الأوروبية في 1990 واستمرت لغاية 2008 دون التوصل إلى اتفاق حول منطقة التبادل الحر. في حين دامت مفاوضات الاتحاد الأوروبي ست سنوات فقط مع مصر وأقل من ثلاث سنوات مع كل من المغرب وتونس. وأدت في هذه الحالات الثلاث إلى اتفاق تجارة حرة.
شروط أوروبية وأخرى خليجية
من خلال المفاوضات السابقة حقق الأوروبيون اغلب مطالبهم التي باتت تغنيهم عن منطقة التجارة الحرة. فق اشترطوا انضمام السعودية إلى منظمة التجارة الخارجية أسوة ببقية دول المجلس. وهذا ما تم في عام 2005. علماً بأن هذه المنظمة لا تشترط الانضمام إليها لعقد اتفاقات التجارة الحرة. بل أبرم الاتحاد الأوروبي شراكة مع دول غير أعضاء في المنظمة كالجزائر في عام 2005 ولبنان في عام 2006.
كما اشترط الأوربيون إلغاء الدعم الحكومي المقرر للمنتجات الصناعية الخليجية. الأمر الذي يقود إلى القضاء على ميزتها التنافسية. لكن دول المجلس لم ترضخ لذلك. علماً بأنها قلصت الدعم مؤخراً تحت وطأة المشاكل المالية الناجمة عن هبوط أسعار النفط. وبالتالي فإن هذا الشرط تحقق أيضاً إلى حد ما.
وفي المقابل لم ينفذ أي مطلب خليجي. فقد دعت بلدان المجلس إلى إلغاء الضريبة الأوروبية على الكربون. وحدث العكس تماماً حيث أخذت ضرائب الكربون بالانتشار في أوروبا وبأسعار ترتفع سنوياً وتفرض على جميع السلع تقريباً. كما طالب الخليجيون تخفيف الرسوم الجمركية المفروضة على صادراتهم الصناعية. ولكن وقع العكس حيث حذفت دول المجلس في عام 2014 من قائمة المعاملة التفضيلية الأوروبية فتضاعفت الرسوم الجمركية على هذه الصادرات. قاد هذا الارتفاع إلى خسائر فادحة للشركات السعودية التي تستحوذ على ثلاثة أرباع صادرات البتروكيماويات الخليجية إلى أوروبا. وتليها الشركات القطرية.
يدل هذا الوضع دلالة واضحة على عدم اكتراث الاتحاد الأوروبي بإنشاء منطقة تبادل حرة مع دول المجلس مكتفياً باعتدال النظام الجمركي الخليجي الحالي وتحرير استثماراته من القيود.
ويرفض الاتحاد الأوروبي رفضاً قاطعاً منح الصادرات الصناعية الخليجية إعفاءات جمركية لأنها بذلك ستنافس الصناعات الأوروبية المماثلة. إذ تشترط المعاهدة الاطارية صراحة أن لا يقود أي اتفاق تجاري مع دول الخليج إلى التأثير سلبياً على البتروكيماويات الأوروبية.
ساهم الأوربيون مساهمة فاعلة في إفشال المفاوضات عندما أصروا على إقحام العامل السياسي. فقد ربطوا اتفاق منطقة التجارة الحرة باحترام مبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان والقيام بإصلاحات إدارية واسعة النطاق. الأمر الذي أفضى إلى استياء خليجي من هذا التدخل في الشأن الداخلي فاضطرت القمة الخليجية لعام 2008 إلى اتخاذ قرار بتعليق المفاوضات.
في حالة انطلاق جولة جديدة من المفاوضات لا يمكن لدول المجلس تحقيق مكاسب تجارية إلا إذا قدمت امتيازات إضافية للأوربيين كامتلاك أسهم في شركات خليجية دون قيد. عندئذ يتعين على المفاوض الخليجي أن يوازن بين هذه الامتيازات وتلك المكاسب.
الصورة: منتدى الأعمال الخليجي الأوروبي