دول الخليج وصراعات الزعامة الدينية في المنطقة

يرتبط الدّين بشرعية العديد من النّظم الحاكمة في الشّرق الأوسط، لاسيما تلك التي لم تبنِ علاقاتها مع المواطنين على أسس تعاقدية يتم تحديد أسسها ومتابعة التزام الحكّام بها وفقا لآليات الانتخاب والمحاسبة التي أرستها الديمقراطية لتحقيق الاستقرار والتّداول السّلمي للسّلطة بين العديد من المرشّحين للأحزاب والتوجّهات السياسية المختلفة. فبالّنظر إلى العديد من دول الشرق الأوسط نجد أن العديد منها، إن لم يكن أغلبها دول قائمة على السلطة المطلقة للحاكم، ذلك أنها بصدد تجسيد زعامة سياسية في مواجهة شعوبها لتكتسب شرعية سياسية تستمد دعائمها من شعارات ورؤى وطنية تجعل المواطنين فى أمسّ الحاجة إلى الحاكم من أجل بقاء الدولة وسلامتها وضمان الاستقرار السّياسي والإقتصادي والإجتماعي.

وفي مقابل ذلك لا يمتلك المواطنون آليات إختيار الحكام ومحاسبتهم ولا أدوات مراقبة السّلطة الحاكمة التي يخضعون لها في مقابل الحصول على الإحتياجات الأساسية.

على صعيد آخر نجد أن لهذه الرؤية التعاقدية القائمة على السلطة المطلقة إستثناءات حيث تخرج عنها بعض دول المنطقة، مثل دول الخليج العربى التي تقوم فيها العلاقة بين الحكام والمحكومين على تقاسم الريع وتقديم وسائل الراحة والرفاهية لشعبها من أجل ضمان ولائه. فى هذه الحالة يستند هذا النمط من العلاقة التّعاقدية دائما، الذي غالبا ما يتّبع في الدّول ذات النّظام السياسي الذي يورّث السّلطة لأسرة أو سلالة حاكمة، إلى سردية دينية أوقيمية يعتمد فيها على التقاليد أو الأسس العقائدية والدّينية لترسيخ شرعية حكمها.

وعلى الرّغم من تشابه نمط دولة القائد مع الدولة ذات النظام الريعي في ملامحها الإستبدادية والسّلطوية وغياب التعدّدية الفكرية والسياسية والحرّيات العامة، إلا أنهما تختلفان من حيث شرعية الحكم ففي الأولى الشرعية مستمدة من سيطرة النظام على مؤسسات وموارد الدولة وانفرادها بتقديم الخدمات في مقابل الإنصياع التام لها أما في الثانية فالدولة تقوم على شرعية دينية يستعصى الخروج عنها.

ومن خلال التركيز على النمط الثاني من العلاقة التعاقدية بين الحكام والمواطنين سنتطرق إلى السياسة الخارجية كآلية لتفعيل شرعية النظام الدينية من خلال الترويج لقيم عقائدية والدّفاع عنها وتمثيل زعامة دينية في المنطقة.

تتجلى الشرعية الدينية من خلال الخطب السياسية والإيديولوجية الموجّهة للنظام والقوانين وسلوكها على المستوى الخارجي، فعلى الرغم من اختلاف دول الخليج الستّ من حيث الإمكانيات والموارد الإقتصادية والإستراتيجية والظروف السياسية والأهداف التي تسعى لتحقيقها نلاحظ أن السّياسة الخارجية من أبرز طرق استخدام الدّين في تأصيل شرعية النظام ودعم أهدافه الخارجية وأبرز الأمثلة على ذلك السعودية والإمارات وقطر، فهذه الدول التي تتبع الإسلام كأساس فكري ومنهج عقائدي لتأصيل شرعيّتها وعلاقتها بالمواطنين غالبا ما تلجأ إلى العديد من أساليب القوة والضّغط لمقاومة أي حركة مناوئة لشرعيتها.

ولتوضيح ذلك سنلقي الضوء على سياسة كل من السعودية والإمارات وقطر تجاه دول الجوار عندما شهدت ثورات الربيع العربي.

فاذا نظرنا إلى السعودية سنجدها خير مثال لتجسيد صورة القوة الإقليمية بصورتيها النّاعمة والعنيفة في المنطقة. ترتكز هذه القوة الإقليمية على مزيج من الشرعية الدينية والإمكانيات الإقتصادية والموقع الإستراتيجي، جعل منها حليفا قويا وهامّا للدول الغربية بالإضافة إلى كونها نقطة الإرتكاز في أي تحالف إقليمي في الشرق الأوسط.

السعودية دولة ذات توجه محافظ سياسيا تسعى إلى الحفاظ على الإستقرار في المنطقة والإبقاء على توازن القوى دون اختلال أو تغيير. وقد ظهر ذلك جليا أثناء ثورات الربيع العربي إذ كانت السعودية من أوائل الدول التي أدانت معظم الثّورات العربية إن لم يكن كلها باستثناء سوريا. وقد كان التّوجه المحافظ المستند إلى الشرعية الدّينية والثّروة هو الموجّه الأساسي لها في المنطقة، فمع خروج مظاهرات حاشدة مندّدة بنظام بن علي كانت السّعودية من أوائل الدول المرحّبة به بعد تنحيه مثلما حدث في مصر في يناير ٢٠١١ وتدخل الجيش لتحقيق الاستقرار من خلال الضغط على مبارك للتّنحي مع الإبقاء على النظام وثوابته المؤسّسية والقيمية على المستويات السّياسية والإقتصادية والإجتماعية. وما كان من السعودية إلا أن أدانت خروج الشعب ضد مبارك مطالبة المجلس العسكري بالسّيطرة على زمام الأمور خصوصا بعد بروز الإخوان المسلمين ونجاحهم في الإنتخابات التشريعية وما عقبها من إنتخابات رئاسية.

أدى ظهور الإخوان المسلمين أو ما يسمى بقوى الإسلام السياسي في كل من مصر وتونس إلى شعور السعودية ومعها الإمارات بتهديد بقاء نظمهم السياسية وسيطرتهم الداخلية على قوى المعارضة لاسيما السعودية في مواجهة حركة الصّحوة التي طالبت النظام بإجراء العديد من الإصلاحات السياسية والسماح لهم بالمشاركة السياسية كقوة معارضة.

وقد سارعت كل من السعودية والإمارات، آنذاك إلى تقديم الدّعم المادي ومساندة استمرارية النّظم القائمة لتحقيق شرعيتها وثباتها في مواجهة التيارات الإسلامية الصاعدة.

أما اليمن وهي التي تشكّل العمق الاستراتيجي للسعودية، مما دعاها إلى أن يكون لها دور بارز في التوصل إلى تسوية سياسية سلمية مع كافة القوى السياسية لحماية وحدة البلاد ومنع ظهور قوى معارضة تغير من الأوضاع وموازين القوى بين البلدين.

ومازالت الصراعات القبلية تثير تحفظات السعودية لارتباطها بأبعاد طائفية تهدّد توازن القوى في المنطقة فبالنسبة إليها كان نظام علي عبدالله صالح وما تبعه من قوى معارضة لسدّة الحكم يمثّل الحل الأمثل في ظل احتمالية صعود قوى أخرى تختلف معها في المصالح والتحالفات الإقليمية مثل الحوثيين. وما كان من السعودية والإمارات إلا أن تتدخلا باستخدام القوة من أجل إخماد الصّراع القائم في اليمن والضغط من أجل الوصول إلى تسوية مرضية تستبعد وصول قوى مناوئة لها لسدة الحكم.

في البحرين أيضا، ومع وجود تركيز للسلطة والموارد الإقتصادية في أيدي أقلية طائفية دون غيرها بالاضافة إلى انعدام وجود آليات تداول للسلطة وأخرى تضمن التوزيع العادل للموارد، قامت السعودية بإرسال قوات درع الجزيرة لإحكام قبضة النظام في البحرين على التظاهرات المطالبة بإصلاحات سياسية وإقتصادية وإجتماعية وقمعها.

أما في ما يتعلّق بقطر، فهي وإن اتفقت مع السعودية والإمارات في استخدامها للشرعية الدينية على المستوى الداخلي والخارجي فإنها وقفت موقفا مختلفا عن كلّ من السعودية والإمارات في مواجهة ما حدث في مصر وتونس. فقطر لم تر في صعود الإخوان المسلمين في مصر والنهضة في تونس تهديد لها لاسيّما أنها كانت تأوي العديد من الشخصيات البارزة للإخوان على أرضها.

لطالما كانت قطر بمواردها المادية ولاسيّما قنواتها الإعلامية ومبادراتها للوساطة تقف في موقف معارض لكل من السعودية والإمارات في ما يتعلّق بكل من مصر وتونس واليمن. فقطر التي تصالحت مع معارضتها الإسلامية ووافقت على تواجدها سياسيا، رحّبت بصعود  الإسلاميين في كلّ من مصر وتونس وتدخلت في اليمن لمساندة الإخوان المسلمين والوساطة في البداية بين الحوثيون وعلي عبد الله صالح إلا أن تعرّضها للضّغط من قبل مجلس التعاون الخليجي ولاسيما السعودية جعلها تتراجع عن موقفها وتنضم للسعودية والإمارات في تدخّلاتهم العسكرية ضد الحوثيون.

ولكن تصريحات المسؤولين القطريين كانت تعكس دائما رغبة قوية للخروج من هذا الصراع والعمل على تسويته من خلال الوسائل السلمية بخلاف السعودية والإمارات ولجوئهما إلى القوة من أجل إخماد الصّراعات بين مختلف الأطراف السياسية في اليمن.

وفي المقابل، اتفقت قطر مع السعودية والإمارات في الخوف من اختلال موازين القوة في المنطقة لغير صالحها وقد ظهر ذلك جليّا في موقفها من الملفّين البحريني والسوري، من خلال حجم التّدخل والوجود القطري سواء في إعلان موقفها أو في آليات تدخلها التي لم تركن فيها لوسائل القوة الناعمة مثل الإعلام والوساطة الدّبلوماسية وحسب، بل وأيضا إلى القوة العسكرية للمساعدة على تحقيق التوازن في مواجهة التواجد الإيراني والروسي لاسيما في سوريا.

وفي النهاية نصل إلى أنّ الربيع العربي قد أبرز مدى تمسّك العديد من دول الخليج العربي بحماية سرديتهم الدينية والدفاع عنها في مواجهة صعود أيّ قوى تتبنى سرديات مختلفة وتتبع توازنات إقليمية ودولية معادية. فعلى الرغم من اتباع كل من الإمارات والسعودية وقطر لسردية إسلامية في دعم شرعيتهم إلا أن السعودية والإمارات اتبعتا القوة العسكرية والاقتصادية لمواجهة تصاعد تيار الإسلام السياسي في مصر وتونس ومواجهة القوى المعارضة في البحرين واليمن والوقوف ضدّ نظام بشار الأسد في سوريا.

من جهة أخرى أيدت قطر صعود الإخوان والنهضة في مصر وتونس ووجدت فى ذلك تعبيرا عن الديمقراطية التي لا تمثل أي تهديد سياسي لها على المستوى الداخلي على عكس السعودية والإمارات اللتين وجدتا في الإسلام السياسي فكرا معارضا يهدّد شرعية نظمهم السياسية. وقد حاولت قطر حماية مصالحها باتباع دبلوماسية نشطة في اليمن اعتمدت فيها على التّواجد الإعلامي ودبلوماسية المساعي الحميدة والوساطة لتسوية النزاعات على عكس السعودية والإمارات اللتين دخلتا في تحالفات عسكرية ضدّ القوى المعارضة.

ولكن وعلى الرّغم من وجود تأثير قوي للسعودية في مجلس التعاون الخليجي إلى جانب الإمارات فإن قطر تعمل على مواءمة سياساتها مع كل من السعودية والإمارات من ناحية ومصالحها كدولة ذات دبلوماسية نشطة تعمد للوساطة في حلّ أزمات المنطقة.

مصدر الصورة: honawahonak.com/

منشورات أخرى للكاتب