مصر والحلفاء في الخليج: قراءة مغايرة
عند الحديث عن السياسات الخارجية لدول الشرق الأوسط هناك ثوابت أساسية ترسم ملامحها علاقات القوة داخل النظم الحاكمة ومصالح هذه الدول مع الدول الغربية لاسيما القوى الكبرى. ولذلك، لا يمكننا أن نركن للأيديولوجيات والتّوجهات السياسية للنظم العربية كأسس فكرية ومرجعية في تحديد علاقاتها ببعضها البعض ودول الجوار دون الرجوع إلى الثوابت الأساسية التي تعلو على العقيدة السياسية للنّظم. ونجد خير مثال على ذلك السّياسة الخارجية المصرية فى مراحل تطورها بل واختلافها عبر النظم السياسية المتلاحقة منذ إعلان الجمهورية عام١٩٥٢. فمنذ ذلك التاريخ حتى الآن اتبعت السياسة الخارجية المصرية مسارات متعددة وفى بعض الأحيان متعارضة في فترات الحكم المتعاقبة عليها، فيما يتعلق بالتحالفات الإقليمية، كان القاسم المشترك بينها البقاء على علاقات القوة داخل الدولة ومصالحها مع القوى الكبرى خارجيا.
منذ أن أعلنت مصر الجمهورية عام ١٩٥٢ سعت لتقوية علاقاتها الخارجية بالقوى الكبرى مثل الولايات المتحدة والقوى الغربية ولكن عندما أعلنت مصر مشروعها القومي المتمثل في إنشاء السد العالي كجزء من السياسات الداخلية للنظام الناصري الذي اعتمد عليها لتأسيس شرعية نظام وليد، وجد عبد الناصر أن رفض الولايات المتحدة للمشروع هو نذير بوجود اختلاف للمصالح بين الطرفين.
واستتبع هذا الرفض تقوية العلاقات مع الإتحاد السوفيتي دون الولايات المتحدة، خصوصا بعد تأميم قناة السويس وما تبعه من عدوان ثلاثي على مصر من قبل فرنسا وبريطانيا واسرائيل.
قامت شرعية نظام عبد الناصر على العروبة ودعمها من خلال كاريزما شخصية القائد على المستوى الداخلي وزعامة إقليمية على مستوى المنطقة تناطح إسرائيل العداء كعدو أول للعروبة يليها الولايات المتحدة الداعم الأول لها ضد مصالح العرب في المنطقة.
وقد نافس مصر على هذه الزعامة العربية، وهي إحدى أهم دعائم النظام داخليا لإرساء شرعية تمتد من المحيط إلى الخليج، بعض القوى الإقليمية في المنطقة مثل السعودية.
فالأخيرة بموقعها الإستراتيجي وإمكانياتها المادية وجغرافيتها المترامية الأطراف والمسيطرة على التطورات الجيوسياسية في دول الجوار وبالنظر إلى مكانتها الدينية، كانت تعتبر أنها الأولى بهذه الزعامة دون عبدالناصر الذي مع خوضه العديد من الحروب الخاسرة ضد إسرائيل وخطاباته المدوية عداءً لها قد اجتمعت عليه معظم دول المنطقة كزعيم العروبة الأول لتوحيد صف العرب وحمايتهم كما ظهر في حربه في اليمن ودعمه للمقاومة الجزائرية والليبية.
في عهد السادات تغيرت سياسة مصر الخارجية إلا أن هذا التغيّر كان نابعا من أولوية حماية استقرار النظام ومصالحه مع القوى الكبرى.
بعدما رأى السادات لا واقعية مشروع العروبة، كمشروع قومي تتبناه مصر لاسيما مع أزمتها السياسية بعد موت عبد الناصر واحتلال جزء من أراضيها على يد إسرائيل وما استتبع ذلك من أزمات اقتصادية وتطورات اجتماعية، قام السادات بتغيير السياسة الخارجية المصرية التي تحولت إلى سياسة قطرية بدلا من سياستها الممثّلة للعروبة وعمد إلى الخروج من سردية العداء مع إسرائيل والولايات المتحدة ليتحالف معهما. فبعد حرب ١٩٧٣ وإيقاع الخسائر في صفوف العدو الإسرائيلي قامت مصر بتحديد وجهتها ناحية الولايات المتحدة والتصالح مع إسرائيل بإجراء معاهدة السلام عام ١٩٧٩ واتباع الانفتاح كبداية اعتماد الرأسمالية نظاماً اقتصادياً للبلاد.
كان لتغيير السياسة الخارجية المصرية أثره في علاقاتها مع دول الجوار العربي التي قامت بمقاطعة مصر وتعليق عضويتها بجامعة الدول العربية لاتهامها بخيانة العروبة بعد إبرامها معاهدة سلام مع إسرائيل. فلم تكن فترة حكم السادات من الفترات التي شهدت علاقات خارجية مثمرة مع الدول العربية خصوصا مع اعتماد النظام وقتها للإسلام كأساس من أسس شرعية النظام وإعلان دولة العلم والإيمان على يد الرئيس المؤمن الذي واجه التيار الإسلامي بجناحيه السلفي والجهادي في تفنيدهما لسردية النظام الدينية.
فى عهد مبارك عرفت السياسة الخارجية المصرية استقرارا كبيرا وظهرت لها ملامح واضحة. اتسمت فترة حكم مبارك بالاستقرار من حيث هيمنة القطبية الأحادية يليها ظهور القوى الاقتصادية وأيضا استقرار الجوار الإقليمى العربي على الأسلوب البراجماتي الواقعي في تعامله مع العديد من القضايا.
عمل مبارك على تأسيس تحالف قوي مع الولايات المتحدة والحفاظ على السلام مع إسرائيل كإحدى دعائم شرعيته على المستوى الداخلي والخارجي، ففي ذلك الوقت استقرت دول المنطقة، فيما عدا عدد قليل منها على الاصطفاف إلى جانب الولايات المتحدة الأمريكية فيما يتعلّق بالمصالح الإقليمية والدولية. واستطاعت مصر أن تقيم تحالفاتها الإقليمية بسهولة ذلك أنّها انضمت إلى تيّار الدول المحافظة الذي يضم دول الخليج وعلى رأسها المملكة العربية السعودية بالإضافة إلى الأردن في مواجهة دول المقاومة التي تضم سوريا وإيران وحماس كفاعل أساسي في القضية الفلسطينية.
وعلى الرغم من قيام الثورة المصرية فى يناير٢٠١١ والتي ندّد فيها الثوار بتحالف نظام مبارك مع الولايات المتحدة وإسرائيل على حساب مصلحة الوطن فإن الإخوان المسلمين، بعد اعتلائهم سدّة الحكم، حرصوا على الحفاظ على علاقاتهم مع الولايات المتحدة الأمريكية من خلال العديد من الزيارات التي أكّدوا فيها التزامهم بالديمقراطية وحقوق الإنسان والأقليات ومعاهدة السّلام مع إسرائيل.
أدّى حرص حكومة الإخوان على علاقات طيبة مع أمريكا إلى اضطراب علاقة مصر مع العديد من الدول الإقليمية الحليفة ولاسيّما السّعودية التي رأت في صعود الإخوان في مصر بداية لتهديد شرعية النظام الحاكم فى السعودية وبقائه، خصوصا بعد تصاعد حركة الصحوة ومطالبتها بتطبيق الشّريعة والسّماح لها بالمشاركة في الحياة السياسية أسوة بما يحدث في مصر.
لم تكن السعودية قريبة من مصر في عهد حكم الإخوان وكانت تميل إلى التّعامل مع القوى السياسية التقليدية الممثّلة في الجيش مكررة رثاءها لنظام مبارك وتخلي حلفائه الغربيين عنه، ولكن حكم الإخوان لم يستمر وتمت الإطاحة به من قبل الجيش. وقد كان للسّخط الشعبى على الإخوان واتّهامهم بالتقاعس عن تحقيق مطالب الثورة وتركيزهم على تدعيم حكمهم كأولوية تعلو على مصلحة الوطن. كانت السعودية من أوائل الدول الدّاعمة لذلك التغيير وقد عمدت إلى تقديم العديد من المساعدات المادية والاقتصادية والدعم السّياسي للنّظام فى المحافل الدّولية مؤكّدة على أهمية استقرار الحكم الحالي من أجل مصلحة مصر والمنطقة. لم تكن السعودية الدولة الوحيدة المؤيدة لذلك بل أيضا الإمارات رحّبت بذلك التغيير على إثر محاكمتها لعناصر الإخوان المقيمة بها ومنعها المعارضة الإسلامية وتقويضها لها في الدّاخل. فالإمارات عملت على تقديم مساعدات مادية وعينية لمصر، كانت لها أهمية كبرى في دعم النظام وتقوية شرعيته. وقد عمل النظام على توسيع شبكة علاقاته الخارجية حتى يدعم شرعيته فإلى جانب حفاظه على علاقاته مع الولايات المتحدة يسعى النظام إلى التقرّب من روسيا كخيار استراتيجى وبديل متوافر لديه في حال تصدّع العلاقات مع الولايات المتحدة ولإكسابه المزيد من الشّرعية خصوصا فى ظل وجود الحزب الديموقراطي في الحكم وهو الذي لا يتبع موقفا حاسما تجاه ما يحدث في مصر.
من الجدير بالذّكر أن السياسة المصرية وبالنّظر إلى ظروفها الدّاخلية تتبع سياسة خارجية غير واضحة المعالم، تهدف بالأساس إلى كسب المزيد من الصّداقات على الساحة الدولية للتأكيد على شرعية النظام.
من المؤكد أنّ الحديث عن دعم السعودية والإمارات لمصر يستدعي بعض التوضيحات، فالسعودية قوة إقليمية لديها موقعها وإمكانياتها وتحالفاتها التي لا يمكن التغاضي عنها وعن تأثيرها، ويستتبع ذلك أنه لديها مسؤوليات يجب أن تقوم بها حيال المنطقة ولحماية مصالحها. وعلى الرغم من أن السعودية والإمارات كانتا من الدول الداعمة لمصر بعد يونيو ٢٠١٣ إلا أن الإمارات لم يقع على كاهلها المسئوليات الإقليمية الواقعة على السعودية من حيث مواجهة صعود القوى المتطرفة في المنطقة الممثلة في داعش وتزايد التواجد الإقليمي لإيران في سوريا جنبا إلى جنب مع روسيا، لاسيما بعد تسويتها للبرنامج النووي مع الولايات المتحدة، بالإضافة إلى تصاعد الحوثيين فى اليمن وصراعاتهم التي تهدد أمن واستقرار النظام في السعودية. في ظل هذه الأوضاع الإقليمية، ما تزال الإمارات والسعودية تدعمان مصر ونظامها السياسي ولكن بدرجات متفاوتة فالسعودية منشغلة بالقضايا الإقليمية الطارئة وهو ما يدفعها للدخول في صراعات ومواجهات ومسؤوليات تحول دون استمرار دعمها لمصر بنفس القوة المعهودة كما كان الحال فى ٢٠١٣. من جهة أخرى نجد أن مصر لا ترتكز على الدعم الإقليمي كما كان الحال منذ سنتين ولكنها تسعى لتوسيع علاقاتها على المستوى الدولي والحصول على المزيد من الدعم الذي يفوق كل ما تمنحه السعودية والإمارات وإن كان ما تقدّمه كلّ منهما ضرورة بالنسبة للنظام.