الانقلاب الفاشل في تركيا، هل يُحدث انقلاباً في علاقة تركيا بالعرب؟!

عشية الجمعة، الخامس عشر من يوليو 2016، كانت المنطقة والعالم على موعد مع واحدة من لحظات التاريخ الكاشفة، كتذكرة بأن المسارات التي تمر عبرها حركة السياسات الدولية وقواها الحية سمتها الأهم الهشاشة وضعف المناعة تجاه ألاعيب التاريخ والحياة، وأن جدرانها عرضة لحدوث ثقوب لينفذ منها أحداث وفاعلون طارئون يحرفون اتجاه تيارات الحركة فيها ويدفعون بها في مسالك جديدة.
فلساعات قليلة وفي أجواء لا شبيه لها إلا الأجواء التي خيمت عشية اعتداءات الحادي عشر من سبتمبر 2001، حبست عشرات العواصم أنفاسها في انتظار ما ستسفر عنها أحداث الساعات الملتهبة التي بدأت بتوارد الأخبار عن أن انقلاباً عسكرياً يجري في تركيا شملت مجرياته نزول الدبابات إلى الشوارع في كل من أنقرة وإسطنبول، وحركة للطيران الجوي والمروحي تضمن قصفاً لمقرات سيادية في الدولة، وإغلاق للجسور التي تربط بين الشق الآسيوي و الأوروبي لإسطنبول، ليصل تسارع الأحداث إلى ذروته بصدور البيان الذي أعلن فيه أن الجيش قد سيطر على البلاد ومقاليد الحكم فيها. وإذا كانت التطورات اللاحقة في نفس الليلة قد أزاحت غيمة الغموض التي حجبت تفاصيل ما يجري لتنجلي في نهاية المطاف عن حقيقة فشل الانقلاب، فإن مشاعر الدهشة والترقب وربما الفزع لدى المعنيين بما جرى، سينقضي وقت طويل قبل أن تتلاشى و يفهم أصحابها ما اختزنته تلك الليلة من احتمالات وتداعيات.

في الأسابيع القليلة التي سبقت ليلة الانقلاب العسكري الفاشل في تركيا، صدرت تحليلات ومقالات تحذيرية إحداها لكاتب هذه السطور، تتحدث عن أن احتمالية الانقلاب العسكري في تركيا قد أصبحت مرجحة أكثر من أي وقت مضى. أصحاب هذا التصور في معظمهم، لم يسقطوا من حساباتهم تعقيدات الوضع الداخلي التركي التي من شأنها أن تحول دون توفير الممكنات العملية لجعل خيار الانقلاب العسكري خياراً واقعياً في وارد التحقيق، و لكن تصورهم اتكأ إلى أن إسناداً خارجياً قوياً مدعوماً بإلحاحية الحاجة الدولية والغربية لتغيير نوعي في تركيا، قد يدفع باتجاه خيارات من ضمنها الانقلاب، لتمضي نحو إنجاز المهام المستعجلة حتى وإن تم ذلك في ظل مغامرة تتناقض مع المعطيات التي تفرضها تعقيدات الداخل التركي، وذلك في رهان من قبل مختلف الأطراف الدولية التي قد ترعى توجهاً كهذا على إمكانية حصر أي تداعيات تنشأ ضمن حدود الدولة التركية. ولعل مواقف الولايات المتحدة الأمريكية وأطرافاً غربية أخرى، والتي صدرت عن وزير الخارجية الأمريكي وآخرين لحظة الانقلاب، والإعلان عن نجاحه من قبل منفذيه، والتي انطوت على قبول به وبنتائجه من دون أي إدانة أو تباكي على إجهاض المسار الديمقراطي في البلاد، ما اعتبرها البعض دليل تواطؤاً وشراكة مع مخطط الانقلاب، والأهم أنها كشفت ولو جزئياً وجهة السياسة الدولية للفترة القادمة، ومنحت اعتمادية مهمة لهذا التصور.
غير أنه وأياً كان مقدار الحضور لفرضية التواطؤ الخارجي فيما حدث، فإن الفاعلين الأساسيين في مخطط الانقلاب هم الخصوم المحليون لحزب العدالة والتنمية سواء من داخل الجيش أو خارجه، فالحساسيات التقليدية بين الحزب وأردوغان من جهة والعناصر العصية على التطويع داخل الجيش التركي من جهة أخرى، شهدت في الفترة الأخيرة مزيداً من أسباب التوتر والاحتقان، يمكن ردها إلى مروحة واسعة من الإخفاقات والأزمات الداخلية والخارجية نجمت عن سياسات الحزب ورئيس الدولة رجب طيب أردوغان، تولد عنها استعداء صريح من قبل الأخير وحزبه لفئات واسعة من الشعب التركي، شملت العلمانيين بمختلف توجهاتهم من قوميين و يساريين، والقسم الأكبر من المكون الكردي والعلوي في الدولة، وهو استعداء اقترن بضيق غربي ودولي من السلوك السياسي الخارجي لأردوغان وحكومته وما خلّفه من تردّ في أحوال الإقليم عموماً. هذه العوامل مجتمعة دفعت العناصر المتمردة في الجيش التركي لاستشعار ما تبدى لهم كمناخ محلي ودولي على استعداد لتقبل مخططهم الانقلابي.
وأد الانقلاب في مهده، ونجا أردوغان وحزب العدالة من مصير أسود بدا للحظات وشيكاً، وما تلاه من إجراءات انتقامية بحق من قيل أنهم متورطون به، شكلها وحجمها والخوف من تبعاتها سعّر مشاعر القلق التي واكبت ولا زالت تواكب الحدث، بالإضافة للفعاليات والاستعراضات الجماهيرية لمؤيدي أردوغان داخل تركيا وخارجها بغرض بعث رسائل عن قوتهم في كل الاتجاهات، وإن كان قد طوى الصفحة على محاولة العسكريين الانقضاض مجدداً على السلطة في البلاد، فإن محاولة الانقلاب بحد ذاتها شأنها شأن أي زلزال سياسي آخر استتبعها ارتدادات أحدثت هزات في أماكن عدة، أهمها المنطقة العربية.
لا يبدو أن فرضية الانقلاب في تركيا قد وردت في حسابات الأطراف العربية، أيضاً فإن المحاولة برمتها استغرقت وقتاً أقصر من أن يسمح ببروز إشارات لافتة من العواصم العربية تتناقض مع مضمون الموقف الرسمي الرافض للانقلاب في تركيا والذي أجمعت عليه البيانات الصادرة عن هذه العواصم بما فيها دمشق التي كانت قد شهدت علاقة النظام فيها بأنقرة تطوراً نوعياً في الأيام القليلة التي سبقت ليلة الانقلاب الفاشل. كما أن معلومات تحدثت عن دور للاستخبارات الإيرانية، لم تتضح تفاصيله، مساند للرئيس أردوغان عزز من صدقيتها رفض طهران الصريح للانقلاب وإدانتها له. وبالتالي فان أي اجتهاد يسعى للوقوف على قراءة مغايرة لمواقف الأطراف العربية والإقليمية المحيطة بتركيا حول ما جرى, لا تتعدى أن تكون بمثابة رياضة ذهنية سيستلزم أصحابها وقتاً طويلاً لإثبات صحة فرضياتها.
الانقلاب الفاشل منح الأتراك فرصة لمراجعة أوسع للخريطة السياسية التي تشملهم وخياراتهم فيها، فربما قد ظهّر لهم ما غاب عنهم من مآلات بعيدة لمسارات التحالف والخصومة التي خضعوا لها في السنوات الماضية.
فخليجياً، وإذا ما استثنينا قطر للأسباب التي يمكن فهمها والإحاطة بها، فإن المملكة السعودية ودولة الإمارات وعلى الرغم من صفتيهما كشريكتين اقتصاديين كبيرتين لتركيا وحليفتين مفترضتين لها في عدد من النزاعات الدائرة في المنطقة تبدوان الأعلى قدرة على التكيف، حتى لا نقول الترحيب، مع أي تغيير يحدث في سدة الحكم بأنقرة، سيما وأن أولويات السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط هي الناظم المرجعي لكل منهما، أيضاً فإن الانفتاح الملتبس من قبل البلدين على إسرائيل، يشي بخيارات مستقبلية تلتمس قواعد ارتكاز جديدة في الإقليم، تركيا ليست المرشحة الأولى لشغلها، كما أن التباينات الدفينة بين كل من تركيا والسعودية والإمارات وإن تفاوتت درجتها من طرف لآخر، حول ملفات عديدة كالعلاقة بحركة الإخوان المسلمين، ملف الغاز، والأطماع التركية المفترضة في المنطقة، كفيلة بأن تفسح المجال لتأويلات قد لا تعكس بالضرورة توجهات رسمية في كل من السعودية والإمارات، ترى بأن حدثاً يزيح الإسلاميين الأتراك عن حكم البلاد و يُحل بدلاً منهم أطرافاً أخرى بميل أقل للانغماس في شؤون المنطقة العربية والإسلامية، هو في نهاية المطاف يوفر صيغة مريحة في العلاقات بينهما وبين تركيا!
بالمقابل، فإنه وعلى الرغم من كل ما صنعه الحداد بين كل من تركيا وسوريا وحلفائها في الأعوام الأخيرة، وحتى في ظل الارتياح السوري وربما الإيراني المتوقع لحدوث هزة عنيفة كحادث الانقلاب داخل تركيا، تشغلها ولو قليلاً عن الحرب في سوريا، وتدفع الأتراك لإعادة النظر في سياساتهم، فإن القفز للاستنتاج بأن المحور السوري الإيراني وما يستتبعه من حلفاء صغار و كبار آخرين، أصحاب مصلحة في الإطاحة بأردوغان وحزبه، مسألة تستدعي التروي. فالإيرانيون ومعهم الروس وفي مقاربتهم للعلاقة بتركي، تتجاوز حساباتهم معها حسابات الحرب السورية، فهم واعون بشكل جيد لما يعنيه وصول العناصر القومية التركية اليمينية مجدداً إلى سدة الحكم في أنقرة، وللتوجهات التي سيعتمدها هؤلاء في سياساتهم واصطفافاتهم الدولية، وبالتالي فإن مفاضلتهما بين حاكم تركي مزعج لكل من روسيا وإيران ولكنه حريص على انتزاع هامش واسع ومستقل للمناورة الخاصة به كأردوغان وما يمثله، وبين من يحول تركيا بكاملها لقاعدة غربية وأمريكية على الحدود الشمالية لإيران والجنوبية لروسيا، لا شك بأنها ستنحاز للخيار الأول. وحتى بالنسبة للنظام السوري الذي يصعب افتراض أنه جهة مقررة بين حلفائه الكبار بهذا الخصوص، فالأرجح أنه قد يراهن على أن تثمر التطورات الإيجابية التي كانت قد طرأت على علاقته بأنقرة قبل محاولة الانقلاب وبعدها والتي عبرت عنها مواقف كلا الطرفين، والانجازات العسكرية لجيشه وحلفائه في الميدان عن تحقيق اختراق في الموقف والسلوك التركي تجاه الحرب السورية، والأغلب أن حادثة الانقلاب كفيلة بتسريع وتيرة الحركة تجاه هذه النتيجة.

لا زال مبكراً الجزم بماهية التحولات التي يمكن لها أن تطرأ على السياسة التركية في مرحلة ما بعد الانقلاب الفاشل، كما أن أي مطالعة استشرافية لما قد تستقر عليه خارطة العلاقات بين تركيا وباقي الأطراف الدولية والإقليمية ستحتاج إلى ميدان عملي لإثبات فرضياتها، غير أن ميداناً مشتعلاً الآن يمكن لمن يراقبه اختبار السلوك التركي ورصد أي تغيير يطرأ عليه في أي اتجاه، فقراءة ما يجري في أنقرة تستدعي تسليط الضوء على حلب، فالمعركة الجارية في حلب وما ستسفر عنها هي مدخل مفتاحي الآن لقراءة كاشفة في مواقف كل الفاعلين في الإقليم، وللحكم النهائي عما إذا كان الانقلاب الفاشل قد أفضى إلى انقلاب في السياسات والعلاقات التركية تجاه العرب، أم عزز من استكانة الأتراك لمصفوفة تحالفاتهم ومواقفهم الحالية؟ .. لننتظر و نرى.

منشورات أخرى للكاتب