اليمن و الخليج .. من يركب الأسد الهائج؟!

نزاع إيراني–سعودي واقتتال طائفي وحرب استقلال للجنوب وغزو أهل شمال البلاد … لوحة فسيفساء واسعة لعناصر متنافرة في هذه البلاد

ألاعيب النخب الحاكمة على صيغ التوازنات والتشبيك الهشة بين العناصر الهوياتية الأولية للسكان وصلت إلى نقطة انعدام الجاذبية … لتتبعثر مكونات اليمن

لم تسفر حتى هذه اللحظة المشاورات التي تعقدها الأطراف اليمنية في الكويت لبحث سبل الوصول إلى وقف إطلاق نار بين الأطراف المتحاربة، ووضع مسودة اتفاق لإطلاق مفاعيل تسوية سياسية في البلاد، في تحقيق أي إنجاز في أي من الملفات المطروحة، من شأنه كسر حالة الإحباط والملل التي رافقت هذه المحادثات منذ بدء انعقادها، بل إن رعاة الحوار وأطرافه لم يفلحوا حتى في تبيان و تأكيد المسار المقترح للعملية السياسية التي ينشدونها، حول ما إذا كان العنوان العريض الذي تجري تحته هذه المداولات ينص على يمن واحد موحد،أم أن الأمور قد انزلقت إلى مصاف أحاديث التقسيم و الكونفدرالية.
غير أنه و أياً كان ما ستفضي له جولات الحوار في الكويت، فإن وقائع يوميات القتال الملتهبة وما تضمره الأماني المستترة لأطرافه هناك، تشي بأن الأمل بانفراجات قريبة للأزمة قد بات بعيد المنال، و أن أي صياغات توافق لو قُدر الوصول إليها، فإن أثرها لن يتعدى باب الغرف التي تمت بها.
فدوناً عن كل الصراعات التي دارت و تدور رحاها في المنطقة، اكتسبت الحرب اليمنية خصوصيتها من كونها المرة الأولى التي تقتتل فيها الأطراف الإقليمية في غياب فعلي للقوى الدولية الغربية. فالولايات المتحدة الأمريكية و سائر الدول الأوروبية من أصحاب الرعاية التقليدية لحروب الشرق الأوسط، انكفؤوا عن الغوص في وحل المستنقع اليمني، واكتفوا فعلياً بتشاطر مشاعر القلق بالدرجة الأولى والحيرة وربما الدهشة تجاه ما يجري، وإن تغلفت مشاعرهم هذه بانحياز علني اضطراري ومجامل لحلفائهم في السعودية و الخليج، دفعهم إليه ما استلزمه الاتفاق النووي الإيراني من جوائز ترضية تخفف من غيظ السعودية و الخليج من الاتفاق، وشجعت عليه صفقات بيع السلاح التي لاحت فرصها بإعلان قيام تحالف عاصفة الحزم.
أما الأطراف المقتتلة سواء المحلية أو الإقليمية منها، فقد استدرجت بعضها بعضا بلا حساب إلى ثقوب سوداء يصعب تجاوزها أو العودة منها، فالمعسكران المتحاربان اللذان أنتجا ضرورات المعركة و تعقيداتها والتحالفات القائمة بين عناصر كل معسكر منهما، لا زالت تتراءى لكل عنصر فيهم أوهام القدرة على سحق المعسكر الآخر، ومن ثم الالتفاف لحلفائه و التخلص منهم، وهي فرضية يمكن الاستدلال عليها عبر تظهير حقيقة أن خريطة التحالفات اليمنية الداخلية المعقودة، أنتجتها الحرب لحظة إعلانها، وأن إبطال مفاعيل الحرب سيفرط بالضرورة عقد هذه التحالفات، وهو ما قد يفتح الباب أمام مواجهات أخرى تستدعي أهدافاً و تحالفات جديدة لتكتمل خيوط المتاهة و تطبق بالكامل على اليمن و أهله.
في الآونة الأخيرة صدرت مجموعة من التصريحات المتضاربة عن مسؤولين إماراتيين تتحدث عن انتهاء المهام العسكرية للقوات الإماراتية المنضوية في التحالف العربي الإسلامي الذي تشكل بقيادة السعودية بهدف الإطاحة عسكرياً بأنصار الله و حلفائهم من حزب المؤتمر الشعبي الذي يتزعمه الرئيس اليمني السابق علي عبد الله صالح. التصريحات الإماراتية و بغض النظر عن مدى تعبيرها عن حقيقة الموقف الإماراتي، وإذا ما أضيف إليها ما يتوارد من تسريبات لأحاديث يدلي بها أركان الأسرة الحاكمة في السعودية فيما يخص تململهم من حرب اليمن، تعكس إلى حد بعيد مناخ اليأس والإحباط الذي بات يهيمن في أوساط المكونات الفاعلة في هذا التحالف، خصوصاً وأن فاتورة تكاليف الحرب على صعيد الخسائر البشرية والمادية للدول الخليجية المنضوية فيه، والضرر الكبير الذي ألحقته بسجلاتها الدبلوماسية والحقوقية في المحافل الدولية، قد ارتفعت إلى مستويات لا يمكن احتمالها، بالترافق مع سخط و تقريع دولي رسمي و شعبي لوحشية الغارات الجوية التي يشنها طيران التحالف خصوصاً السعودي على الأهداف المدنية في اليمن. فالسعودية والإمارات اللتان تشكلان عماد التحالف، تستشعران أن مغامرتهم العسكرية في اليمن قد وصلت لحائط مسدود، وأن الحسابات التي وضعوها أمامهم في مرحلة التخطيط للحرب لا تمت للواقع بصلة، فالأطراف اليمنية الداخلية الحليفة لهم، ثبتت لا فاعليتها العسكرية في مواجهة الحوثيين وحلفائهم، واتضحت أيضاً حقيقة عجزهم حتى عن استلام المواقع “المحررة” وتثبيت سيطرتهم فيها، كما أن التباينات السعودية الإماراتية حول تقييمهم لحلفائهم اليمنيين طفت على السطح وساقها البعض كأحد الدوافع الخفية التي تقف وراء إعلان المسؤولين الإماراتيين عن وقف عملياتها الحربية، فمن جهة السعودية، فإن إحدى المعضلات التي واجهت الأخيرة هو انكشاف الامتدادات الشعبية والتنظيمية الهزيلة للرئيس اليمني الحالي عبد ربه منصور هادي التي لا يعول عليها في حمل أي مشروع مستقبلي، غير أن صفة الرئيس الشرعي التي يحملها كفيلة بأن تحُول دون استغناء السعودية عنه، أقله ليس قبل أن تتضح معالم مسار حل سياسي جديد.
كذلك فان تصورات المملكة السعودية لأي حلول مستقبلية في اليمن ترتكز بالدرجة الأولى على مجموعة خيارات يمنية محلية تتوزع ما بين حزب الإصلاح الذراع اليمنية لحركة الإخوان المسلمين وروافدها سواء القبلية كعائلة الأحمر أو عناصر سابقة في نظام علي صالح كمحسن علي الأحمر، والسلفيين،أو الفرقة المنشقة عن حزب المؤتمر الشعبي، وعند هذه النقطة تفترق تصورات كل من المملكة السعودية و دولة الإمارات لمستقبل اليمن، فالإمارات وبمعزل عن واقعية وممكنات تحقيق ما تصبو إليه، تغلق الباب بالكامل على أي أفق لتعاون مستقبلي مع الإخوان المسلمين في مرحلة ما بعد الحرب، وهي عوضاً عن ذلك تدفع برجلها رئيس الوزراء اليمني الحالي خالد بحاح إلى واجهة الصورة، باعتباره مرشحاً مستقبلياً لرئاسة اليمن من دون أن تشرح كيف سيتسنى للسيد بحاح فرض سيطرته على مقاليد الدولة. إلا أنه يمكن فهم القصور في مساعي وأهداف الإمارات أو السعودية وحلفائهم داخل اليمن، إذا ما أعدنا النظر إلى أجواء الحماسة والتسرع والاستسهال التي هيمنت على حساباتهم خلال مرحلة التخطيط والحشد للحرب.
بدورهم فإن أنصار الله وحلفاءهم في حزب المؤتمر الشعبي،اثبتوا فاعليتهم العسكرية الميدانية بشكل فاق بمراحل خصومهم المحليين، كما أن لجوءهم لتهديد الأراضي السعودية إلى جانب الخسائر الفادحة التي أوقعوها في صفوف جنود التحالف وبخاصة السعوديين والإماراتيين منهم، أفلح في حده الأدنى بالحيلولة دون تحقيق حملة “عاصفة الحزم” هدفها بالقضاء عليهم وحكمهم في المناطق التي كانوا قد سيطروا عليها في أعقاب اجتياحهم لها في مارس 2015. ولكن في الوقت نفسه فإن الحوثيين وأياً كانت دوافعهم الحقيقية لدى سيطرتهم على البلاد، فان الإخفاقات المتتالية للرئيس هادي في إدارة شؤون البلاد والعزلة التي أحاط نفسه بها، وتعويله بالكامل على الإسناد السياسي الخارجي السعودي على وجه الخصوص، وسياساته لإضعاف حلفائه قبل خصومه والتآمر عليهم، وإن كانت قد أوجدت الحجة التي تذرع الحوثيون بها للهجوم على صنعاء ومناطق أخرى في البلاد، فإنهم لاحقاً وفي مناطق سيطرتهم فاقموا من الأزمات المستفحلة فيها، ولم ينجحوا وبمعزل عن الأسباب بتقديم أي انجاز يبعث الطمأنينة حول مستقبل هذه المناطق تحت حكمهم، كما أن سيطرتهم على عدن ونجاح التحالف في استعادتها منهم، أرسى ثنائية حكم بين صنعاء وعدن مرشحة لمزيد من التشظي لمراكز أخرى، ولاستدخال معامل انقسام داخل البلاد ستمتد مفاعيله لأمد طويل، وسيتحول وآثاره السلبية لعنوان تنازع داخلي رئيسي أياً كانت الصيغة التي ستنتهي إليها حال البلاد، سيما وأن احتمالية الحسم الشامل والكامل لصالح أي طرف من الأطراف قد باتت غير متاحة، خصوصاً وأن لاعبين جدد في جنوب البلاد كالقاعدة وتنظيم الدولة قد بدؤوا يطلون برؤوسهم، وهو ما يعني أن فريقاً ثالثاً قد يقتحم المشهد بأجنداته الخاصة، وبالتالي يُبطل معنى ومفعول أي تفاهمات بين الفريقين الرئيسيين، إن حدثت.
قيل قديما أن ركوب الأسد الهائج أهون من حكم اليمن، غير أن لسان العرب تعوزه الفصاحة اللازمة لتصوير المشهد اليمني الحالي وما هو مقبل عليه، فحرب اليمن التي تجيز مقاربات شائكة و متعددة لتفسيرها تتراوح ما بين وصفها بنزاع إيراني–سعودي، واقتتال طائفي، وحرب استقلال للجنوب، وغزو أهل شمال البلاد لجنوبها، كشفت عن لوحة فسيفساء واسعة لعناصر متنافرة في البلاد، كان من المستحيل استمرار تسكين وتورية تناقضاتها، فالائتلاف القبلي والمناطقي والإقليمي الذي كان عامود خيمة حكم اليمن طوال سنوات دولة الوحدة، وبعد ما راكمه من إخفاق وتردٍ للحال عبر شبكات الفساد المالي و الإداري المنضوية تحت رايته، وشحذه للنعرات الطائفية والمناطقية حفزته ألاعيب النخب الحاكمة على صيغ التوازنات والتشبيك الهشة بين العناصر الهوياتية الأولية للسكان، وصلت أدوات حكمه وسياساته وركائز تحالفاته إلى نقطة انعدام للجاذبية انفرطت بفعلها حلقات عقد حكمه، لتتبعثر مكونات اليمن وأزماته الكامنة في وجه أهل البلاد و جيرانهم.

منشورات أخرى للكاتب