العراق والسبل المقطوعة لمغادرة الأزمة
خلال العامين الماضيين اهتزت دعائم البيت الشيعي العراقي أكثر من مرة على وقع أحداث وتبدلات طرأت على المشهد السياسي العراقي وخارطة التوازنات القائمة بين مكوناته، تضاءل بموجبها حضور بعضها، وفتحت الأبواب على مصراعيها لمكونات جديدة وافدة إليه. فانتخابات البرلمان العراقي في مايو/أيار 2014، مثلت محطة مفصلية في مسار تطور النظام السياسي العراقي الذي نشأ في أعقاب الغزو الأمريكي للعراق. ففي حينه اُعتبرت النتائج التي أفضت إلى حصول رئيس الوزراء العراقي الأسبق نوري المالكي على الكتلة النيابية الأكبر والحق الدستوري بتشكيل الحكومة، بمثابة انتصار للقوى السياسية الشيعية الجديدة على حساب المرجعيات الدينية التقليدية. لكن التحالف المناهض الذي تشكّل من باقي الأطراف السياسية والدينية الشيعية للتقدم الذي أحرزه المالكي والذي دفع باتجاه حرمان الأخير من ولاية ثالثة، أفلح جزئياً في تحقيق غاياته عبر إقصاء المالكي عن موقع رئاسة الحكومة، وأعاد خلط الأوراق داخل المعسكر الشيعي ليشعل فتيل أزمة توالت فصولها تباعاً. أيضاً فإن واقع تمثيل القوى الشيعية في البرلمان العراقي وفي ضوء نتائج تلك الانتخابات أسس لحالة من فقدان التوازن والاختلال في النظام السياسي أقله في داخل المعسكر الشيعي بفعل الفجوة بين الأوزان الحقيقية للقوى السياسية في الشارع العراقي وبين حصصها التمثيلية في البرلمان، ولعل هذا المدخل يصلح كنقطة انطلاق على خط تتبع الحركة السياسية لعناصر الجبهة التي تقف خلف الاحتجاجات الأخيرة وفي مقدمتها مقتدى الصدر وأتباعه.
نصب الزعيم الشيعي مقتدى الصدر نفسه بعد ظهور نتائج الانتخابات رأس حربة في الهجوم على المالكي، في انقلاب بدت بوادره قبل الانتخابات على التحالف الملتبس الذي كان قائماً بينهما. دخول الصدر على خط معركة إقصاء المالكي وتصدره لها بضراوة استدعى تدخلاً إيرانياً سريعاً لاحتواء تداعيات الأزمة، اضطرت إيران بموجبه وفي سبيل الحيلولة دون مزيد من التصدعات في داخل البيت الشيعي للتضحية بالحق الدستوري الذي يمنح حليفها العراقي الأول نوري المالكي الحق في تشكيل الحكومة، و دعم التوافق الهش الذي أفضى لترشيح حيدر العبادي عن حزب الدعوة الإسلامية للموقع. غير أن الحلف الشيعي المناهض للمالكي وبزعامة الصدر، اعتبر أن المطلوب هو تفكيك المنظومة الموالية للمالكي في الدولة العراقية باعتبارها عنواناً للفساد وسوء الإدارة فيها، وهي المنظومة التي عمل نوري المالكي على تدشينها منذ أن وصل لرئاسة الحكومة العراقية لأول مرة عام 2006، عبر تخصيصه للمواقع المتنفذة والامتيازات في مختلف قطاعات جهاز الدولة لمواليه والقريبين منه. وجاء الانخفاض الكبير في أسعار النفط، مصدر الدخل الوحيد تقريبا في البلاد، وما رتبه من تفاقم في مشكلاتها الاقتصادية وعجز في الموازنة بلغ 25% منها، وسقوط الموصل في مشهد صادم بيد تنظيم الدولة الإسلامية ليصب الزيت على نار السخط الرسمي والشعبي تجاه كل ما يجري ويزيد من حدة التشنج في مواقف مختلف الأطراف ويساهم في تسعير الجو العام المشحون الذي أفضى إلى تفجير موجة الاحتجاجات الأخيرة مطلع العام الجاري.
قبل احتجاجات شباط 2016، عمل رئيس الوزراء المكلف حيدر العبادي على تبني موقف محايد من حالة الاستقطاب القائمة بين المالكي وحلفائه من جهة، ومعسكر المناهضين له وعلى رأسهم الصدر من جهة أخرى، لكنه وبذريعة الاستجابة لمطالب الاحتجاجات في الشارع، سرعان ما أصبحت مواقفه تسجل تقارباً نحو معسكر الصدر، وهو ما أنضج التوافق على تشكيل حكومة تكنوقراط من الكفاءات تتولى مسؤولية انتشال البلاد من الأزمة. مقترح حكومة الكفاءات وإن كان قد حظي لدى طرحه بدعم وتأييد أطراف دينية وسياسية عدة أهمها المرجع الشيعي الأكبر علي السيستاني، والمالكي، وزعيم التيار الصدري مقتدى الصدر الذي بادر إلى فض الاعتصام الذي نفذه أتباعه على مدار أسبوعين قبلها أمام بوابات المنطقة الخضراء، فإنه قد أثار حفيظة أطراف أخرى من الجبهة التي دعمت تولي العبادي رئاسة الحكومة في مقدمتها المجلس الإسلامي الأعلى برئاسة عمار الحكيم صاحب الكتلة النيابية الوازنة في البرلمان العراقي الحالي. حالة التشظي داخل المعسكر الشيعي هذه عادت لتتسع بُعيد إخفاق العبادي في تمرير حكومة التكنوقراط سواء في صيغتها الأولى أو حتى بعد التعديلات اللاحقة عليها بجعلها حكومة كفاءات حزبية في تناغم مع مطالب الحكيم، فالمرجعية الدينية في النجف و فيما فسره مراقبون موقفاً يعكس إحباطها مما يجري ورفعاً لغطائها عن العبادي، أعلنت وقفها الإعلان عن موقفها السياسي الأسبوعي من الشأن الجاري، كما أن تردد العبادي ومحاولاته الفاشلة في إرضاء كل الأطراف جاءت بنتائج عكسية. فالصدر من جهته وفي سبيل الهيمنة على المزاج الشيعي الشعبي وتكريس نفسه كزعيم أول له، ساير مطالب الحركة الاحتجاجية الأخيرة حتى في حدود الغلو والتطرف الشعبوي التي لا تبقي مساحة للسياسة ويستعصي على العبادي مجاراتها أو اللحاق بها، كما أن الصدر استطاع بعد ما طفا إلى السطح من خلافات بينه وبين إيران وقبلها سجله في مقاومة الاحتلال الأمريكي أن يجذب إليه قطاعات معتبرة من العلمانيين والوطنيين العراقيين، خصوصاً و أنه في العامين الأخيرين عمل على تكريس صورته كزعيم وطني عابر للطوائف بالرغم من كل الشطط الاستعراضي الذي واكب سعيه لتزعم الحركة الاحتجاجية. أيضاً فإن مسار تفاعل الأحداث ينذر بتقارب وشيك بين المالكي والحكيم قد يقود إلى تفاهم بينهما يدفع باتجاه عزل العبادي واستبداله بمرشح آخر يقتصر برنامجه السياسي على الإعداد لانتخابات 2018، وبالتالي يتم وأد كل المسار المتعثر للعبادي ومن حالفه، والذي استشعرت أطراف عديدة تهديداً منه طوال العامين الأخيرين.
إلى جانب كل ذلك فإن الاستعدادات لتحرير الفلوجة والتي تهدف لتفكيك أهم معاقل الجهادية السنية في العراق، قد تحولت لعنوان اصطفاف وطني وشيعي يمنح الفرصة للمجموعات الشيعية المسلحة الوافدة حديثاً إلى قلب المشهد العراقي لحصد مزيد من الشعبية والمشروعية لدورها السياسي والعسكري، وهو ما يعني وبفعل تبعية هذه المجموعات المباشرة لإيران، بسطاً لأذرع إيرانية جديدة في الساحة العراقية سواء عبر تعزيز حضور الأخيرة في الميدان، أو في هيمنة القوى الموالية لها داخل مختلف أجهزة الدولة، سيما وأن الحشد الشعبي الذي تشكل من فصائل شيعية مقاتلة قد جرى اعتماده كجهاز عسكري خاضع للحكومة باعتباره جسماً أمنياً رديفاً لباقي القوات النظامية.
استطاعت الطبقة السياسية الشيعية خلال السنوات الأولى التي تلت الغزو الأمريكي للعراق، مستفيدة من الدعم الدولي الذي حظيت به والواردات المالية التي تدفقت عليها من بيع النفط، أن توفر عبر النظام السياسي الوليد آليات احتواء واستيعاب لقطاعات اجتماعية شيعية واسعة، ولكن وتحت وطأة التغيرات الدولية واقتحام المشهد العراقي من قبل لاعبين جدد، والأزمات المالية المتصاعدة، والسأم الشعبي من أداء هذه الطبقة، فإن هذه الآليات تهتكت وأضحت عاجزة عن تأدية مهامها السابقة. فأجيال جديدة من العراقيين لم تكن موجودة في سنوات توزيع المغانم، باتت تقتحم الميادين والشوارع وحتى “المنطقة الخضراء” سعياً لتأمين مصائرها في بلاد مصيرها نفسه يستجدي من يؤمنه.