السعودية: قراءة من صفحات المستقبل

المعالجات الأمنية الاقتصادية وحدها لا تكفي ولن تحقق الاستقرار إلا إذا وازتها معالجات حقوقية واجتماعية

المعالجة المطلوبة تشرعن آليات المجتمع المدني وتحسن جودة التعليم والصحة والمعيشة

يفرض علينا الواقع المعاصر القراءة المستفيضة لكل متحول ومؤثر في نمط الحياة، فقد اعتاد العقل البشري القيام بعمل مسح مستمر لما حوله من متغيرات لضمان حاجاته الطبيعية واستمرارها. والمتابع لحالتنا الراهنة في ظل مظاهر العولمة الحديثة ووسائلها المتطورة، يستطيع بسهولة تحديد المهددات التي تشغل المجتمع سواء كانت مهددات لحظية أم مهددات دائمة ناجمة عن تراكمات سابقة، حيث يتم التجاذب والتفاعل معها حسب قوة تأثيرها على أولويات الطبيعة البشرية واحتياجاتها، بدءاً من الأمن والمعيشة وحتى التطور والإعمار.
مؤخرًا، تزايدت المخاوف مع نشأة الجماعات الإرهابية وتنوع تشكيلاتها، بعد أن أفرز العالم الإسلامي عبر مراحل ثقافته أخطر الجماعات التكفيرية وأكثرها تطرفاً، المعروفة اليوم باسم “داعش” والتي أنتجت بدورها نظاماً مختلاً، يتضارب كلياً مع مفاهيم ومضامين رسالة الإسلام السمحة. عملت هذه المجموعة الوحشية على استغلال الدين لإخفاء نواياها في التسلط على الناس، والتمدد في الجغرافيا عبر بناء دولة مشوهة أسسها التطرف والإكراه! وآلياتها سفك الدماء، وكان من أبرز مخرجاتها الاعتداءات المتوالية على بيوت الله وتفجير المسلمين فيها كما حدث في الدمام وعسير والقطيف، ومؤخراً في نجران.
وبحسب آخر خطاب لخليفة داعش “أبوبكر البغدادي” والذي أذيع في معظم القنوات الفضائية، فإن هدفها الأبرز في هذه المرحلة هو “استهداف المملكة العربية السعودية، لما لها من أهمية بالغة إسلامياً وجغرافياً ومحاولة إثارة المجتمع وتفكيك نسيجه الاجتماعي، واستفزازه عقائدياً”.
من ناحية أخرى، تابع الاقتصاديون بحذر هبوط الأسعار في سوق النفط العالمي بعد ارتفاعات غير مسبوقة لنصف عقد تجاوز معها سعر البرميل الواحد المائة دولار والتوقعات في هذا الإطار تؤكد المزيد من الانخفاض يرافقه اضطرابات اقتصادية على مستوى الأسواق العالمية تزامناً مع ما تمر به المنطقة من حروب وصراعات ومع ثورة اكتشاف الصخر النفطي في ولاية تكساس.
وفي حال تصنيف هذين المهددين، سواء المهدد الإرهابي أو المهدد الاقتصادي، فإنه يمكننا وضعهما تحت بنود مهددات الحاجات الأساسية الطبيعية التي سبق وأن أشرنا إليها، لارتباطهما المباشر بالأمن والمعيشة. وقد احتاطت الدولة لقاء هذه المهددات بخطوات داخلية وخارجية للحفاظ على استقرار البلد، شملت سن قوانين داخلية تجرم الهجرة إلى الجماعات الإرهابية، والمشاركة خارجياً في الحرب الدولية على دولة داعش، وفي الجانب الاقتصادي، استعارة الحكومة لمليارات الريالات من الاحتياطي العام، لأول مرة منذ عدة سنوات لتغطية الهبوط في أسعار النفط والمحافظة على توازن واقتصاد الدولة.
ولكن، هل تكفي هذه الخطوات لتحقيق الاستقرار الشامل الذي يطمح له النظام والمواطن على حد سواء؟
لا يمكن لأي عمل أن ينجح ويأخذ شكله النهائي دون الأخذ بالحسبان جميع الظروف المحيطة. بالتأكيد، نؤيد الاحترازات الاستباقية ضد أي عمل يستهدف أمننا وشعبنا إلا أننا نخشى المبالغة في الحذر حين يطال التحرص الأمني جميع شرائح المجتمع بلا استثناء، من نشطاء ومفكرين وباحثين ووضعهم بلا مواربة في صفوف الإرهابيين!
كما نؤمن أن لدينا اقتصاد قادر على الصمود والاستمرار بناء على الثروات الهائلة المتوفرة، شريطة المحافظة عليها وتدويرها كاقتصاد مستدام وبديل للطاقة، وتقليص الاعتماد شبه الكامل على النفط، خصوصاً مع سياسات الترشيد الحديثة للطاقة في الدول المتقدمة والتطورات التقنية في استخراج البترول والغاز الصخري.
ولعلي أجد نفسي هنا مضطراً لاستذكار مقولة الدكتور فاتح بيرول، أحد أهم الاقتصاديين في وكالة الطاقة الدولية: we have to leave oil before oil leaves us (علينا أن نترك النفط قبل أن يتركنا).
ومن باب الأهمية، فإني أكرر وأؤكد أن الإجراءات والمعالجات الأمنية الاقتصادية وحدها لا تكفي، ولن تحقق الاستقرار الشامل الذي يقطع دابر كل متربص إلا إذا وازتها معالجات حقوقية اجتماعية وبإشراف جهات مستقلة عن التبعية الأمنية.
معالجة اجتماعية تشرعن آليات المجتمع المدني وتحسن جودة التعليم والصحة والمعيشة، وتسعى إلى انسياب عوائد الاقتصاد من أعلى إلى أسفل ليتسرب في جميع طبقات المجتمع. ومعالجة حقوقية تحارب الطائفية والكراهية وتعزز الهوية والقيم الوطنية وتتجه نحو استيعاب -تحسب للنظام لو قام بالمبادرة- النشطاء الذين سجنوا لمجرد رأي أو توجه والأمر بالإفراج الفوري عنهم.
بتوفر هذه المعالجات وتوحدها نكون قادرين على رفع درجة الأمان ونوعيته، من الاستقرار الهش المعتمد على التحرز والتوجس إلى درجة الاستقرار الصلب القائم على الثقة والمشاركة. وهكذا، تصنع المجتمعات القوية نسيجها المترابط صعب الاختراق، سواء من الداخل أو الخارج.

منشورات أخرى للكاتب