الخليج كمرآة للهويات المتقاطعة: المواطن والوافد وعديمو الجنسية
تتقاطع في دول الخليج هويات ملايين السكان الأصليين بهويات الوافدين من شتى أصقاع الأرض، وبهويات مقيمين منذ أجيال وبآخرين دون جنسية محددة. فسيفساء من الهويات تشكل ثروة ثقافية وعرقية وطائفية لافتة، لكنها في الآن ذاته تبدو معقدة.
تُعرف الهوية في اللغة بحقيقة المرء وما يميزه عن غيره، أي مجموعة السمات التي تجعله مختلفًا عن غيره أو شبيها له.
وتقترن الهوية الجماعية إلى حد كبير بالمكون الثقافي والاجتماعي لفئة من السكان تجمعها اللغة والتاريخ وأصول دينية مشتركة.
يقدر عدد سكان دول مجلس التعاون الخليجي بنحو 61 مليون شخص بحسب أرقام العام 2024. وتعد السعودية أكبر دولة خليجية من حيث عدد السكان بأكثر من 36 مليون نسمة، تليها الإمارات بنحو 9 ملايين فالكويت بـ 4.2 مليون ثم سلطنة عمان بنحو 4.5 تليها قطر بنحو 2.6 مليون ثم البحرين بنحو 1.47 مليون نسمة.
يمثل الأجانب نسبة مهمة من عدد سكان دول الخليج، لكنها نسبة تتفاوت من دولة إلى أخرى. تصل نسبة الأجانب في الإمارات إلى ما يقارب 90% من السكان ويقدر عدد الوافدين بنحو 6 مليون و600 ألف نسمة تقريبًا بحسب الإحصائيات الأخيرة.
يمثل الخليجيون نسبة 18٪ فقط من القوة العاملة في دول الخليج، وتعد منطقة الخليج ثالث أهم وجهة للعمل في العالم. ولعل هذه إحدى أهم الإشكاليات التي تطرح في كل نقاش عن الهوية في الخليج، فمعظم الوافدين أتوا للعمل وبعضهم استوطن منذ أربعة أجيال مساهمًا في تأثيرات ثقافية واجتماعية عميقة في الخليج.
ماهيّة الهوية الخليجية
في الخليج، يكثر الحديث عن “الهوية الخليجية” للدلالة على السمات الثقافية المتشابهة بين دول الخليج العربية، بما يشمل التاريخ المشترك والروابط الاجتماعية القوية بحكم التصاهر بين قبائل المنطقة إلى جانب التقارب من حيث اللهجات والعادات والتقاليد.
عرفت الهوية الخليجية تحولات عميقة ومتسارعة في القرن الماضي بدأت من المرور من مرحلة البداوة إلى المدنية والاستقرار في ما يُعرف بالهجرات الداخلية داخل دول الخليج في أربعينيات القرن الماضي، وهي الفترة التي شهدت وأد صراعات قبلية عدة.
عرفت هذه الدول موجات هجرة خارجية بعد اكتشاف النفط حين وفدت عليها العمالة الخارجية لا سيما من والهند وإيران ما شكل تحولا لافتا في البنية السكانية لدول الخليج بل وتحولات ثقافية وإثنية. تلت تلك المرحلة مرحلة توافد العمالة العربية من دول كفلسطين ومصر والأردن والسودان في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي.
وسط هذا التنوع الثقافي والديني والاجتماعي المستجد على دول الخليج برز مفهوم جديد هو مفهوم “المواطنة” محاولاً النأي بنفسه عن الجذور القبلية والاختلافات المذهبية والتعايش مع وافدين من الجيل الرابع.
لكن في الآن ذاته، يصطدم المقيمون منذ عقود في دول الخليج بقوانين تجنيس صارمة تعتمد بالأساس على رابطة الدم أو الجنسية الممنوحة بأوامر عليا أو وفق نظام نقاط معقد، وهو ما يجعل من الأجيال الجديدة من المقيمين في دول الخليج أو المنحدرين من آباء أجانب وأمهات خليجيات أمام أزمة هوية، فلا هي قادرة على الحصول على جنسية البلد الذي ترتبط به منذ عقود، ولا هي قادرة على العودة إلى مسقط رأس أجدادها الأوائل.
في المقابل يخشى سكان الدول الخليجية الأصليون من أن يؤدي فتح باب التجنيس إلى اختلال التركيبة السكانية وتلاشي الهوية الوطنية. وهنا تحديدًا، يصطدم مفهوم المواطنة بعدة تحديات، من أهمها قضية البدون أو منعدمي الجنسية وهي أكبر تحد للهوية الجماعية في دول الخليج.
البدون قضية إنسانية شائكة
يعرف “البدون” بأنهم مجموعة من الأشخاص الذين يعيشون على أرض واحدة لكنهم لا يحملون جنسية محددة. وتعرف مفوضية الأمم المتحدة للاجئين الشخص عديم الجنسية بأنه من لا يحمل جنسية أي دولة. و”لا تعترف أي دولة بالأشخاص عديمي الجنسية كمواطنين لها”. وتقدر المفوضية عدد عديمي الجنسية في العالم بنحو 10 ملايين شخص.
ظهر مصطلح البدون في الكويت في عام 1956 لتوصيف بعض الأشخاص في الوثائق الرسمية “بدون جنسية” لأنهم لا يملكون بطاقات هوية. ثم استعارت بقية دول الخليج هذا المصطلح لوصف فئة من السكان لا ينطبق عليها قانون الجنسية أو لم تستكمل إجراءات إثبات جنسيتها أو لم تستطع إثبات حقها في الحصول على الجنسية بالنظر إلى قوانين البلد حيث تعيش.
يتراوح عدد البدون في كافة دول الخليج بين 170 ألفا و350 ألف شخص، معظمهم يعيش في الكويت والسعودية.
تمثل الكويت أكبر تجمع للبدون فيما تعد السعودية زهاء 70 ألفا من البدون. وترجح عدة مصادر أن يعود أصل البدون إلى قبائل من البدو في شبه الجزيرة العربية أتوا من مناطق كانت مراعي على حدود الكويت والسعودية والعراق والأردن وبلاد الشام وإيران في الوقت الحالي.
ويُعرف البدون في الكويت بأنه مقيم بشكل غير شرعي ويقدر عددهم بنحو 100 ألف أو يزيد. قبل غزو العراق للكويت كان عددهم يقدر بنحو 350 ألف شخص وترجح بعض المصادر البحثية أن ينحدر معظم البدون في الكويت من القبائل الشمالية ومنهم من تعود أصوله إلى العراق.
وتعتبر الحكومة الكويتية أن 34 ألف شخص منهم فقط يمكنهم الحصول على الجنسية وتقول إن البقية ينحدرون بالأصل من دول أخرى وأنهم قدموا إلى الكويت خلال طفرة النفط.
وفي يوليو 2024، قررت وزارة الداخلية الكويتية وقف جوازات السفر الخاصة بالمقيمين بصورة غير قانونية “البدون” باستثناء الحالات الإنسانية مثل العلاج والدراسة. ويحمل البدون جوازات سفر رمادية للعلاج أو الدراسة تحت بند “المادة17”. ولا يسمح لحامل هذا الجواز بدخول دول مجلس التعاون الخليجي ولا يمنح امتيازات الإعفاء من تأشيرات بعض الدول. وتسعى الحكومة إلى معالجة بعض الحالات التي تثبت بالوثائق جنسيتها الأصلية.
تتهم السلطات الكويتية بعض البدون بإخفاء جنسياتهم الحقيقية طيلة عقود لكنها في المقابل منحت لمن يعترف بجنسيته الحقيقية حق الإقامة في الكويت وحق العمل.
في ستينيات القرن الماضي، شكل البدون 80٪ من الجيش الكويتي وخدموا في قوات الشرطة والأمن العام والمرور والحرس الأميري. كما شارك البعض منهم في التصدي لغزو صدام حسين الكويت في العام 1990. لكن الدولة توقفت منذ عام 1991 عن تسجيل البدون في الجيش ثم أعادت تسجيلهم في عام 2015 بسبب حاجتها لسد الفراغ في عدد المجندين الذي تناقص بشكل ملحوظ.
وفي ديسمبر 2024، أقرت الكويت تعديلات جديدة على قانون الجنسية تجيز لوزير الداخلية سحب الجنسية الكويتية في حال الحصول عليها بطريق الغش أو التزوير، أو إذا حكم عليه بحكم باتّ بعد منحه الجنسية الكويتية في جريمة مخلة بالشرف أو الأمانة، أو إذا فصل/ت تأديبيًا من وظيفته الحكومية، لأسباب تتصل بالشرف أو الأمانة خلال عشر سنوات من منحه/ا الجنسية الكويتية، أو إذا استدعت مصلحة الدولة العليا أو أمنها الخارجي ذلك. كما تضمنت التعديلات عدم تمرير جنسية الكويتي لزوجته.
بالتزامن مع ذلك، أطلقت الكويت حملة واسعة لمراجعة حالات اكتساب الجنسية، وقامت بموجبها “اللجنة العليا لتحقيق الجنسية الكويتية”، بإلغاء جنسية أكثر من 42,000 شخص تقريبًا منذ 2024، وهي خطوة تمثل تصعيدًا غير مسبوق في عمليات سحب الجنسية. استهدفت الحملة مجموعة واسعة من الأشخاص، بما في ذلك المواطنون المتجنسون ومزدوجو الجنسية والمتهمون بالحصول على الجنسية بطرق احتيالية. عدد كبير من الذين أسقطت عنهم الجنسية نساء حصلن على الجنسية الكويتية عن طريق الزواج”. ويرجح أن يكون أكثر من نحو 50 ألف شخص قد جردوا من جنسياتهم في الكويت، وتمثل النساء نحو 70 ٪ تقريبا ممن جردوا من الجنسية الكويتية.
مشكلة خليجية
لا تبدو مشكلة فئة البدون كويتية فقط، بل هي إشكالية قانونية خليجية عامة في تخصيص الجنسية الأصلية في بعض البلدان بناءً على إحصاء عام محدد. بعد استقلال دول الخليج أجرى بعضها مسحًا سكانيًا لتسجيل المواطنين، تخلف بعض السكان ولم يشملهم المسح بسبب طابع البداوة الذي كانوا يعيشون فيه وترحالهم من منطقة إلى أخرى، أو حتى لعدم اهتمامهم بالتسجيل لأسباب ثقافية واجتماعية.
تظهر هذه الإشكالية في قطر وإن كانت بأعداد أقل. وتتهم حكومات بعض دول الخليج بعض الأشخاص ممن يحملون أوراقا ثبوتية من دول أخرى بأنهم أتلفوها للحصول على هوية جديدة في بلد أغنى.
في البحرين، أسقطت السلطات الجنسية عن عدد من معارضين سياسيين فاق عددهم 500 بين عامي 2012 و2018. وقبل عام 2000 بقي العديد من السكان في البحرين دون جنسية لأن أصولهم تعود إلى إيران. ويحرم منعدم الجنسية في البحرين من حقوق المشاركة في الانتخابات أو العمل في وظائف حكومية.
قوانين مجحفة وأخرى سلسة
تشير عدة تقارير صادرة عن مؤسسات حقوقية دولية إلى أن قوانين التجنيس للوافدين في دول الخليج تبدو مجحفة وتتيح لوزراء الداخلية سحب الجنسية عن المتجنس لأسباب غريبة، منها السفر عن الدولة سنتين أو حتى ارتكاب مخالفات أو جرائم بسيطة داخل الدولة. وتشترط بعض دول الخليج فترة إقامة طويلة تصل إلى 25 سنة للحصول على جنسيتها مع منع ازدواجية الجنسية. فيما تشترط السعودية إقامة في السعودية 10 سنوات متتالية ومهنة تحتاجها البلاد. في المقابل تسمح الإمارات بمنح جنسيتها للأجانب من أصحاب المهارات الخاصة كالعلماء والأطباء والمستثمرين مع السماح لهم بالاحتفاظ بجنسيتهم الأصلية. كما تختلف شروط منح الجنسية للأبناء بناءً على جنسية الأب أو الأم.
في السعودية يقر القانون لأبناء المواطنة السعودية المتزوجة من أجنبي حق التقدم للحصول على الجنسية السعودية حين يكونوا ذكورا في سن 18، وبالنسبة للبنات حين يتزوجن من مواطن سعودي. لكن هذا الحق مرتبط بنظام يسمى نظام النقاط، وعليه، يشترط للحصول على الجنسية السعودية أن يجمع المتقدم 10 نقاط تشمل المستوى التعليمي وجذور الأم.
أما في سلطنة عمان، فلا يسمح لأبناء المواطنة العمانية من زوج أجنبي الحصول على الجنسية العمانية. وتضع الدولة شروطا للسماح للعمانية بالزواج من أجنبي. وفي قطر لا تمنح الجنسية لأبناء مواطنة قطرية من زوج أجنبي بشكل تلقائي، في المقابل يحصلون على إقامة دائمة في قطر ولهم الحقوق في التعليم والرعاية الصحية ويمنحون وثائق سفر قطرية ويُعطون أولوية في اكتساب الجنسية عند بلوغهم سن الرشد.
اللافت أن التجنيس يأخذ بعدًا أكثر سلاسة في المجال الرياضي، إذ تسمح الإمارات والسعودية (بشكل أقل) بتجنيس اللاعبين الأجانب المميزين لتحسين أداء منتخباتها، فيما تمنح قطر الجنسية المؤقتة لبعض الرياضيين، وتسمح البحرين بتجنيس من هم دون 16 للانضمام إلى فرقها الرياضية كما أتها اشتهرت بتجنيس اللاعبين الأفارقة في بطولات ألعاب القوى.
وقامت الإمارات في العام 2023 بأكبر عملية تجنيس شملت لاعبي كرة القدم.
خلاصة
تمثل الهوية في الخليج تحديًا بالغ الأهمية أمام تراجع نسبة المواطنين مقارنة بالوافدين الأجانب، وبين سيادة الدولة في منح الجنسية بالتجنيس لمن تراه أهلا لها وبين الحفاظ على الهوية الوطنية من جهة أخرى.
وأمام حاجة دول الخليج إلى كفاءات في سوق العمل وفي بعض المجالات العلمية والرياضات البدنية، ما يجعلها غير قادرة على الاستغناء عن استقدام العنصر الأجنبي الذي بات جزءا من تركيبة البلاد، لا فقط السكانية بل والثقافية والاجتماعية أيضًا.
تبقى قضية “البدون” بتعقيداتها الإنسانية والاجتماعية والسياسية وتجنيس أبناء المواطنات والزوجات الأجنبيات، وتطبيق شروط صارمة أحيانًا على المكتسبين للجنسية، أبرز ملامح هذه المعادلة.
تبدو دول الخليج مرآة متعددة الجنسيات تتداخل فيها الهويات الوطنية بالهويات الوافدة الغربية منها والعربية، بعضها لا يتعايش بالضرورة لكنه بات أمرًا واقعًا لا يمكن الرجوع عنه.
لقد أصبحت دول الخليج كما القوى الاقتصادية الكبيرة، مجتمعات كوسموبوليتية تتكون من خليط لغات وأعراق وأديان على أرض واحدة.