ما بعد هدنة غزة: اختبار زعامة الخليج بين التطبيع والإعمار
في 9 سبتمبر/أيلول 2025، شهدت مدينة شرم الشيخ المصرية التوقيع على اتفاق وقف إطلاق النار في قطاع غزة بعد مفاوضات مضنية وغير مباشرة بين وفدَي حركة حماس وإسرائيل، برعاية أميركية مصرية قطرية.
وقّعت على الاتفاق إلى جانب الولايات المتحدة، كلّ من مصر وقطر وتركيا. وثيقة الرئيس الأميركي التي حظيت بالقبول في النهاية لتنهي عامين من الحرب، وصفها دونالد ترامب بأنها “يوم عظيم للشرق الأوسط” و”انتصار مذهل لإسرائيل والعالم”، مؤكّدًا أن الاتفاق “سيصمد”.
رغم ذلك، يرى مراقبون أن هذا الاتفاق على أهميته في حفظ دماء الفلسطينيين بعد عامين من الحرب التي شهدت دمارًا هائلًا على غزة وسقوط آلاف الضحايا من المدنيين، إلا أنه ليس ضامنًا لسلام دائم في المنطقة، وذلك بالنظر إلى الواقع المحفوف بتعقيدات تاريخية وجيوسياسية عميقة في المنطقة؛ بالتوازي، يشير آخرون إلى أنه اتفاق سيغير مسار الأحداث ليس فقط في فلسطين، بل وفي مناطق أخرى، ومنها الخليج.
تبدو أدوار دول الخليج في اتفاق وقف إطلاق النار متفاوتة من حيث الثقل والمهام. فقطر بوصفها أحد الوسطاء في هذا الاتفاق يُلقى على عاتقها ثِقْلُ إنجاحه، وهو ما أكده الرئيس ترامب بنفسه.
تبدو قطر أكثر الدول الخليجية المعنية بإنجاح وقف إطلاق النار وديمومته، والأسباب لا تقتصر على كونها من لعبت أساسًا دور الوسيط في جولات المفاوضات بين حماس وإسرائيل.
تعرضت قطر في التاسع من سبتمبر/أيلول 2025 إلى هجوم إسرائيلي استهدف قيادات حماس في الدوحة نتج عنه مقتل رجل أمن قطري، حدث ذلك في وقت كانت فيه الدوحة ترعى المفاوضات وكان الضغط عليها شديدًا بعد أن تسلمت مقترحًا يقضي بأن يكون الرئيس ترامب وسيطًا بين حماس وإسرائيل.
الرئيس ترامب تعهّد بأن الهجوم الإسرائيلي على الدوحة لن يتكرر، وأردف تعهده بأمر تنفيذي يتعهد بحماية أميركية لقطر.
صراع السيادة والنفوذ
السعودية التي لم يحضر ولي عهدها مراسم التوقيع على اتفاق شرم الشيخ، رحبت بالاتفاق مؤكدة على ضرورة العمل بشكل عاجل لتخفيف معاناة الشعب الفلسطيني والانسحاب الإسرائيلي الكامل واستعادة الأمن والاستقرار والشروع في خطوات عملية لتحقيق السلام العادل والشامل على أساس حل الدولتين، وتجسيد الدولة الفلسطينية المستقلة على حدود عام 1967.
وللسعودية صاحبة الثقل العربي والإسلامي دور قديم في مسار القضية الفلسطينية منذ بداياتها، وسبق للرياض التوسط بين الفصائل الفلسطينية بما أفضى إلى توقيع اتفاق مكة عام 2007 لإنهاء الاقتتال بين فتح وحماس، لكن الانقسام لم يتوقف بعد نجاح حماس في الانتخابات وحكمها غزة. كما تلعب السعودية دورًا بارزًا في تعزيز مسار حل الدولتين وتراهن عليه.
اليوم وبعد أن تعطل مسار توسعة اتفاقيات أبراهام عقب أحداث 7 أكتوبر 2023، يحظى مسار التطبيع بفرصة ثانية بعد وقف إطلاق النار في غزة، ما قد يسمح بالعودة إلى هذا المسار، وهو ما أشار الرئيس ترامب إليه بوضوح عشية إعلانه عن بنود وثيقته للسلام.
تربط السعودية أي مساعٍ للتطبيع مع إسرائيل بتحقيق حل سياسي للقضية الفلسطينية. وكانت السعودية قد أطلقت مع النرويج والاتحاد الأوروبي تحالفًا دوليًا لتنفيذ حل الدولتين ورعت مع فرنسا مؤتمرًا دوليًا في هذا الشأن أفضى إلى اعتماد “اتفاق نيويورك” في سبتمبر 2025 الذي وقعت عليه دول عربية ودول الاتحاد الأوروبي و17 دولة أخرى. وهو المسار الذي تكلل باعتراف عدة دول بالدولة الفلسطينية،
كررت السعودية دعوتها في أكثر من مناسبة إلى الاعتراف بدولة فلسطين كشرط رئيس لتحقيق السلام. وسبق لها في عام 2002 إبان حكم الملك عبدالله بن عبدالعزيز آل سعود إطلاق مبادرة السلام العربية التي كانت تنص على الاعتراف بإسرائيل والتطبيع معها في حال أنهت الاحتلال ووافقت على قيام دولة فلسطينية.
تطمح الرياض من منطلق امتدادها في المنطقة إلى أن تكون في قيادة التحركات الدبلوماسية الإقليمية لتكون قوة فاعلة، وهو ما يرتبط برؤية 2030 للمملكة. هذه التحركات تضمنت التواصل مع إسرائيل كما كشفت واشنطن بوست مطلع أكتوبر 2025 بأن دولًا عربية عززت تعاونها العسكري مع إسرائيل خلال الحرب على غزة. هذا التعاون شمل لقاءات عسكرية وتدريبات وتبادل معلومات جمعت برعاية أميركية كُلًّا من إسرائيل والسعودية ومصر وقطر والإمارات والبحرين لإنشاء ما سمي بـ “الهيكل الأمني الإقليمي”.
الهدف الرئيس من هذا الهيكل هو التصدي للخطر الإيراني وتعزيز العلاقات مع إسرائيل رغم أن دولتين على الأقل (قطر والسعودية) لا ترتبطان بعلاقات رسمية مع إسرائيل.
يرى مراقبون أن هذا التنسيق يمهد لتطبيع علني بين السعودية وإسرائيل، كما ترجح مصادر غربية أن تطبع كل من باكستان وإندونيسيا العلاقات مع إسرائيل قبل السعودية كونهما أكبر دولتين إسلاميتين لرفع الحرج عن الرياض. وفي الحقيقة، إن مثل هذه التوقعات والتقديرات لا يبدو أنها تحيط بكامل تعقيدات المشهد في المنطقة.
صحيح أن التنسيق الأمني والعسكري يعتبر مدخلًا وازنًا لتطبيع محتمل بين السعودية وإسرائيل، فكل تقارب/تحالف عسكري بينهما هو خطوة إلى الأمام باتجاه توسعة اتفاقيات أبراهام، يضاف لذلك القاسم المشترك الذي يجمع السعودية وإسرائيل وهو التوجس من إيران. رغم ذلك، تبدو السعودية عصيّة على القبول بسيادة إسرائيل على المنطقة، وهو ما يجعل من ذهاب الرياض إلى تطبيع العلاقات مع تل أبيب قبل “حل الدولتين” ليس واردًا. وهو الأمر الذي لن يمنع الرياض من الاستمرار في حضور اجتماعات التنسيق الأمني والعسكري تحت رعاية واشنطن بما يضمن مصالحها.
ماذا بين الإمارات وإسرائيل؟
تشترك الإمارات مع نظيرتها السعودية في الحذر والتأني فيما يتعلق بالانخراط بجهود إعادة ترتيب مستقبل غزة، إلى جانب عدم التأكد من وجود خطة واضحة لتفكيك حركة حماس وإبعادها عن الحكم.
تتوجس أبوظبي من أي مهمة لحماس في المستقبل، وهو موقف ينسجم مع سياساتها الخارجية التي تعارض أي دور لقوى الإسلام السياسي في المنطقة.
لكن وعلى نقيض الموقف السعودي، تربط الإمارات مع إسرائيل باتفاقية تطبيع علنية تشمل جميع المجالات السياسية والأمنية والعسكرية والاقتصادية والاجتماعية.
خلال الحرب الإسرائيلية على غزة، لم يتوقف التواصل بين أبوظبي وتل أبيب رغم تلويح الإمارات للجانب الإسرائيلي بوقف اتفاقيات أبراهام في حال قامت بضم الضفة الغربية.
ورغم التقارب السعودي الإماراتي في أكثر من ملف إلا أن ذلك لا يلغي “التنافس الصريح” و”اختلاف الآراء” حول بعض الملفات، ومنها القضية الفلسطينية وطبيعة العلاقات مع إسرائيل.
أكثر من تطبيع
تدرك إسرائيل أن ثقل السعودية هو الأكبر في منطقة الشرق الأوسط، ولهذا، وفي حال تجاوزت كل من تل أبيب والرياض الحواجز الماثلة بينهما، تكون إسرائيل قد حققت نصرًا كبيرًا ستحتفل به كثيرًا.
تعتقد إسرائيل أن نجاحها في التطبيع مع السعودية يعني أنها كسبت ما تبقى من الدول الإسلامية، طوعًا أو غصبًا، بناءً على ما تمتلكه السعودية من ثقل سياسي واقتصادي ومعنوي على بقية الدول العربية والإسلامية، كونها تضم الحرمين بدلالتهما العميقة لدى الشعوب العربية والإسلامية.
تدفع واشنطن بإدارة الرئيس ترامب خلال ولايتيه السابقة والحالية باتجاه توسعة التطبيع ليشمل السعودية لعدة اعتبارات.
أولاً: يثبت اعتراف السعودية بإسرائيل قدم تل أبيب الحليف الأول لواشنطن في المنطقة كقوة عسكرية وسياسية واقتصادية.
ثانيًا: أي تقارب سعودي إسرائيلي يعني بالضرورة تحالفًا إقليميًا واسعًا في وجه إيران.
ثالثًا: يتيح تطبيع العلاقات بين السعودية وإسرائيل، الوصول بين الرياض وواشنطن إلى اتفاقية الدفاع المشترك التي تلزم واشنطن بالدفاع عن السعودية.
بالتوازي، يُروَّج لتطبيع العلاقات بين السعودية وإسرائيل بوصفه صناعة لصورة جديدة للمملكة تبدو أقل اقترانًا ووفاءً للقضية الفلسطينية. غير أن الخلاف بين الطرفين يتجاوز هذا الملف إلى التنافس على السيادة وتراتبية النفوذ في الإقليم. إن أي تطبيع بلا تنازلات إسرائيلية ملموسة سيحمّل الرياض كلفة رمزية كبيرة: يمنح تل أبيب شرعية طالما سعت إليها ويخفف من عزلتها الإقليمية، بما يقتطع من رصيد السعودية كقوة قيادية في المنطقة.
ولهذا، يصعب أن تقبل الرياض بالتفريط في جزء من زعامتها من دون شبكة ضمانات أوسع، من بينها مضي إسرائيل في خطوات ملموسة نحو “حل الدولتين” وتحويل التطبيع إلى مسار جماعي يضم عواصم عربية وإسلامية.
دول الخليج وإعادة إعمار غزة
بعد اتفاق وقف إطلاق النار في غزة، يواجه القطاع تحديات غير مسبوقة لإعادة إعماره بعد أن سُوِّيَ بالأرض.
تعول واشنطن بشكل كبير على دول الخليج لإعمار غزة، رغم ذلك، تذهب أصوات خليجية إلى أن إعادة الإعمار هو مهمة إسرائيل التي شنت الحرب وتسببت في كل هذا الدمار.
إعادة إعمار غزة تأتي كمرحلة رابعة من خطة ترمب التي تبدأ بوقف إطلاق النار ثم دخول المساعدات الإنسانية ومنع أي تهجير قسري أو ضم، يليها إطلاق مرحلة إعادة الإعمار.
دمرت إسرائيل نحو 300 ألف وحدة سكنية بشكل كلي و200 ألف بشكل جزئي، كما أخرجت 25 مستشفى عن الخدمة ونسفت 103 مراكز للرعاية الصحية الأولية. قضت الحرب على نحو 95% من مدارس القطاع كما أن نحو 85% من مرافق المياه والصرف الصحي باتت خارجة الخدمة.
يقول برنامج الأمم المتحدة للتنمية إن الحرب على غزة خلفت 55 مليون طن من الركام وقدر كلفة إعادة إعمار القطاع بنحو 70 مليار دولار.
شاركت دول الخليج مرارًا في إعادة إعمار مناطق النزاع في الدول العربية، سواء في جنوب لبنان بعد انسحاب الجيش الإسرائيلي في العام 2000 أو في العراق وسوريا.
تشترط دول الخليج وقفًا دائمًا لإطلاق النار في القطاع قبل أي مساهمة في إعادة إعماره. وتراهن الإمارات لإعادة إعمار القطاع على نزع سلاح حماس وتولي إدارة دولية مهمة تسيير القطاع، وهذا ما ينص عليه اتفاق ترامب.
من المقرر أن تستضيف مصر في نوفمبر المقبل مؤتمرًا لإعادة إعمار قطاع غزة. وتعول واشنطن مثلما قال جي دي فانس نائب الرئيس الأميركي على دول الخليج لإعمار القطاع دون أي حديث عن دور إسرائيل.
خاتمة
من المبكر اعتبار اتفاق غزة طيًا لصفحة الصراع الأطول في المنطقة، هو أقرب إلى كونه تغييرًا في تكتيكات المواجهة والصراع.
توسعة اتفاقيات أبراهام التي لمح اليها ترامب في خطته للسلام في الشرق الأوسط كانت مرهونة بتوقف الحرب، توقفت الحرب الآن، فمن يبادر بالتطبيع؟
لا يبدو أن السعودية في صدد القبول بعضوية رمزية في اتفاقيات أبراهام، هي تسعى وبوضوح إلى تثبيت زعامتها وريادتها. من غير المحتمل أن تتنازل الرياض عن أي جزء من هيبتها أو ريادتها أو نفوذها، حتى لو كان الثمن اتفاقية الدفاع التي طال انتظارها.