إيران بعد أزمة العامين: الانسحاب بوصفه مشروعًا للعودة  

بعد عامين من أحداث وصدمات متتالية في الشرق الأوسط، تبرز إيران اليوم كدولة محاصرة تعتمد على استراتيجية دفاع تكتيكي وانتظار مدروس.

تعمل طهران على إعادة ترتيب أوراقها الداخلية والإقليمية بعد سلسلة هزات كان لها أثر عميق على قدراتها ونفوذها. الحرب التي اندلعت في غزة قبل عامين وما تبعها من مواجهات متبادلة بين إسرائيل وإيران في يونيو/حزيران، أظهرت قدرة طهران المحدودة على تحويل حلفائها الإقليميين إلى أدوات تغيير حاسم في الميدان، بالتوازي، برزت الولايات المتحدة كقوة حاسمة وقادرة على ضبط إيقاع الانسداد الإقليمي وفرض البدائل السياسية على أطراف النزاع. إعلان الهدنة في غزة وتبادل الأسرى، برعاية الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، أكد هذا الواقع، وعكس قدرة واشنطن على تشكيل مخرجات النزاع، وهو بالضرورة، ما أعاد تعريف الأولويات الاستراتيجية بالنسبة لإيران.

منذ قيام الثورة الإيرانية عام 1979، كان دعم القضية الفلسطينية، ولا سيما حركة حماس، أحد الركائز الثابتة للسياسة الخارجية الإيرانية. زيارة ياسر عرفات لطهران بعد أسبوع من نجاح الثورة، وظهور الرمزية الفلسطينية في شعارات الحرس الثوري والرموز الوطنية الإيرانية، رسخ هذا الالتزام. ورغم التقلبات في التحالفات الإقليمية، ظل الدعم المالي والتسليحي للفلسطينيين مستمرًا، بما في ذلك تقديم نحو 100 مليون دولار سنويًا، وفق تقديرات وزارة الخارجية الأميركية، مع تبني إيران وصف هذا الدعم بأنه استشاري، حفاظًا على الرمزية السياسية والأيديولوجية مع إدارة دقيقة للمخاطر. 

أظهرت تجربة الحرب الأخيرة في غزة لطهران أن حماس، رغم الدعم، لم تكن الأداة التي يمكن توجيهها لتحقيق أهداف استراتيجية. في النهاية، اضطرت الحركة لقبول خطة أميركية شاملة للتهدئة تشمل وقف إطلاق النار وتبادل الأسرى، مع الحفاظ على الغموض حول مصيرها وسلاحها لإرضاء جمهورها الداخلي. هذا الواقع أكد للقيادة الإيرانية أن أي مواجهة مباشرة مع إسرائيل في المرحلة الحالية هي مواجهة محفوفة بالمخاطر، وأن القرار الأميركي هو العامل الحاسم في تحديد بداية أي مواجهة ونهاياتها.

في سوريا ولبنان، يظهر التراجع الاستراتيجي بشكل واضح. اليوم، لم تعد سوريا قاعدة لتأمين خطوط الإمداد العسكري أو التموضع التكتيكي للحلفاء، فيما تآكلت قدرة حزب الله على القيام بأدوار الدعم والإسناد العسكرية بالمعايير السابقة، مما أدى إلى تقلص العمق الاستراتيجي لإيران في لبنان.

في العراق، الذي لطالما كان منفذًا حيويًا لتخفيف أثر العقوبات الدولية وتأمين قنوات التمويل والإمداد، يرزح الحلفاء تحت أدوات مراقبة صارمة، ما حد من قدرة طهران على التأثير المباشر والسيطرة على مجريات الأحداث. هذا التراجع في العمق الاستراتيجي جاء بالتوازي مع زيادة الضغط الدولي، مما جعل أي تدخل مباشر مخاطرة كبيرة، وهو ما دفع إيران إلى إعادة ترتيب أولوياتها بين إدارة المخاطر والمناورة الصبرية.

الملف النووي يمثل أحد أهم محاور الضبط الإيرانية اليوم. ومع انهيار الاتفاق النووي وتفعيل آلية “الزناد” الدولية، عادت إيران رسميًا إلى الفصل السابع، مع فرض عقوبات اقتصادية صارمة وقيود على برامجها النووية والصاروخية، وإمكانية الرد العسكري قانونيًا إذا اقتضت الظروف. استراتيجياً، اعتمدت طهران نهج “التجميد المحسوب”، حيث يتم تجميد البرنامج النووي عمليًا لتجنب أي استفزاز مباشر للغرب أو إسرائيل، مع الحفاظ على المعرفة التقنية والمخزون النووي كأداة تفاوضية مستقبلية.

هذا التجميد ليس استسلامًا بل تكتيكًا لحماية المكتسبات وتقليل الخسائر، إلى جانب شراء الوقت الضروري لتحقيق الاستقرار الداخلي والتخطيط طويل المدى. أي خطوة نحو العتبة العسكرية النووية خلال السنوات الثلاث القادمة ستخضع لاعتبارات دقيقة، مع التركيز على إدارة الأزمات بشكل يضمن الحد الأدنى من التصعيد.

في المقابل، يمثل البرنامج الصاروخي الإيراني ركيزة استراتيجية لا يمكن التراجع عنها. أظهرت التجربة الميدانية خلال النزاع الأخير في يونيو/حزيران الماضي قدرة هذه الصواريخ والطائرات المسيرة على التأثير الفعلي في إعادة تشكيل حسابات الخصم وفرض قيود تكتيكية على إسرائيل. هذه التجربة عززت قرار القيادة الإيرانية التمسك بالبرنامج الصاروخي كعمود أساسي للردع وتطوير القدرات الدقيقة والمدى والفاعلية المضادة للاعتراض، دون الانزلاق نحو سباق نووي مفتوح أو مواجهة مباشرة مع القوى الدولية.

البرنامج الصاروخي أصبح الورقة الاستراتيجية الأكثر قيمة، وهو الضمانة الأوضح لقدرة إيران على الردع وحفظ هامش نفوذها الإقليمي حتى في ظل التجميد المؤقت لبقية الملفات.

اقتصاديًا، تفرض العقوبات الأميركية والأوروبية قيودًا صارمة على جميع قنوات التجارة والتمويل، بما في ذلك النفط والشبكات المصرفية، ما أدى إلى تراجع كبير في الإيرادات وزيادة الضغوط على الداخل الإيراني. استجابة لذلك، تبنت القيادة الإيرانية سياسات داخلية تهدف إلى تعزيز الاستقرار وتلطيف الأوضاع الاقتصادية من خلال دعم محدود للشبكات الاجتماعية، والحفاظ على رأس النظام واستقرار مؤسسات الدولة. تركز هذه السياسات على منع أي أزمة داخلية من أن تتحول إلى شرارة تصعيد خارجي أو اضطراب سياسي يعيد إنتاج الضغوط الدولية في توقيت غير مرغوب فيه.

خلال السنوات الثلاث القادمة أي حتى انتهاء ولاية الرئيس الأميركي دونالد ترامب الحالية، ستستمر إيران في تبني سياسة “التجميد المنظّم” على مستويات متعددة.

أولاً، سيتم تجميد التحركات الإقليمية المباشرة مع الحد من التدخل العلني في ساحات مثل سوريا ولبنان وقطاع غزة والعراق والاعتماد على تأثير غير مباشر عبر وكلاء أو قنوات غير ظاهرة. ثانيًا، سيتم تجميد أي خطوات تصاعدية في البرنامج النووي، مع الحفاظ على المخزون والقدرة التقنية لضمان استخدامهما كورقة ضغط استراتيجية. ثالثًا، سيتم تعزيز قوة الردع الصاروخية مع تحسين الدقة والمدى، دون الانزلاق إلى مواجهة شاملة.

في قطاع غزة، ستستمر إيران في دعم الفلسطينيين وحركة حماس بشكل غير مباشر مع الحفاظ على الأبعاد الأيديولوجية والاستراتيجية، لكنها ستفرض على الحلفاء ضبط النفس واتباع تكتيك حماية المكتسبات وتقليل المخاطر. في سوريا، من المتوقع أن تتجه إيران نحو تطبيع العلاقات مع النظام الجديد. في لبنان، ستبقى سياسة ضبط نشاط حزب الله قائمة مع التركيز على الاستقرار الداخلي وتجنب الانزلاق في استفزازات كبيرة. العراق سيبقى محور إدارة النفوذ السياسي والاقتصادي بحذر مع الحد من أي مواجهة محتملة مع القوات الأجنبية أو القوى الدولية.

يمكن تصور ثلاثة سيناريوهات رئيسية خلال هذه الفترة. السيناريو الأساسي وهو الأكثر احتمالًا، يقوم على تجميد متوازن لكل الملفات مع الاحتفاظ بقوة الردع الصاروخية وإدارة الأزمة الاقتصادية داخليًا. السيناريو الثاني، وهو التصعيد المحدود، قد يحدث كرد على أي ضربة مباشرة تستهدف قدرات حساسة وتشمل ردًا منضبطًا ومحددًا. السيناريو الثالث، الأقل احتمالًا والأكثر خطورة، يرتبط بسقوط الحسابات نتيجة أزمة داخلية أو تصعيد خارجي، ما قد يؤدي إلى رد أكبر، لكنه يتطلب تجاوز الحواجز الاستراتيجية التي تسعى القيادة الإيرانية إلى الحفاظ عليها.

خلاصة التقييم هي أن إيران بعد هذين العامين ليست دولة منهارة ولا منتصرة، هي دولة تحمي مكتسباتها وتختار المسار الأقل تكلفة بما يحفظ التوازن بين المخاطر الداخلية والخارجية بحذر استراتيجي.

الآثار الإقليمية لهذا النهج ستكون واضحة على مستوى النفوذ والحلفاء. مساحة المناورة لحلفاء إيران ستتقلص ما يضغط على فصائل مثل حماس وحزب الله لاتخاذ أي مواقف تصعيدية. قبالة ذلك، الدول الإقليمية المعتدلة قد تعزز أدوارها الاقتصادية والسياسية ما قد يغير من بعض خرائط النفوذ والثقل السياسي في الإقليم. الولايات المتحدة وحلفاؤها سيظلون في موقع حارس الإقليم، ما يعيد رسم قواعد اللعبة في الشرق الأوسط لسنوات قادمة، رغم ذلك، هم يدركون أن أي مواجهة مباشرة مع إيران هي مواجهة محفوفة بالمخاطر.

هذه ليست لحظة ضعف أو انسحاب وإن كانت تبدو للكثيرين كذلك، هي لحظة استراتيجية تمكن إيران من شراء الوقت وتقليل الخسائر ودراسة الخسارات والاحتفاظ بخيارات مستقبلية واسعة بينما تعيد ترتيب أوراقها الداخلية والإقليمية، الهدف هو أن تكون جاهزة للتفاعل مع أي تغيرات قد تطرأ في المشهد. وعليه، إيران لا تزال لاعبًا مهمًا، ومستقبل دورها يبقى مرهونًا بما تحمله الأيام القادمة.

منشورات أخرى للكاتب
البيت الخليجي للدراسات والنشر
Privacy Overview

This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.