فلسطين في قلب الشراكة الخليجية الأوروبية: من إعلان نيويورك إلى اختبار الدوحة

بعد عام واحد على انعقاد القمة الأوروبية الخليجية الأولى، حقّق التوافق بين دول مجلس التعاون الخليجي والاتحاد الأوروبي بشأن القضية الفلسطينية تقدّماً ملحوظاً. أول الغيث كان نجاح المبادرة الفرنسية السعودية بتبني 142 دولة إعلان نيويورك في الأمم المتحدة يوم 12 سبتمبر 2025، وهو الإعلان الذي يمهد لحل الدولتين والاعتراف بدولة فلسطين.
صدر إعلان نيويورك عقب انعقاد المؤتمر الدولي رفيع المستوى حول “التسوية السلمية لقضية فلسطين وتطبيق حلّ الدولتين”، الذي استضافه مقرّ الأمم المتحدة في نيويورك برئاسة مشتركة بين السعودية وفرنسا. واعتُبر الإعلان نجاحاً بارزاً للرياض في قيادة تحالف عربي يعمل على تسويق قضية فلسطين في المحافل الدولية، في وقتٍ تتزامن فيه الجهود مع إبادة وُصفت بأنها الأفظع في التاريخ المعاصر.
لم يكن الإعلان مجرد تعاطف رمزي بل خطوة عملية تمثل منعطفاً مهماً في مسار القضية الفلسطينية رغم الحصار الإسرائيلي – المدعوم أمريكياً – والذي يطوق كل المبادرات التي تسعى إلى الاعتراف بدولة فلسطين. يمهد التحول اللافت في الموقف الأوروبي من مسألة الاعتراف بفلسطين وتبني فرنسا إلى جانب السعودية ما سمي بـ “إعلان نيويورك”، لاعتراف موسع بدولة فلسطين خلال اجتماع الجمعية العامة. يضع “إعلان نيويورك” خارطة طريق لتقديم حل الدولتين، ويقدم التزامات من جانب السلطة الفلسطينية والدول العربية من أجل السلام والأمن للجميع في المنطقة، وينص على وقف فوري لإطلاق النار في غزة وإطلاق سراح جميع الأسرى المحتجزين وإقامة دولة فلسطينية قابلة للحياة وذات سيادة.
هذا وتدعو خارطة الطريق كذلك إلى نزع سلاح حركة حماس واستبعادها من الحكم في غزة، وتطبيع العلاقات بين إسرائيل والدول العربية. ويدعم “إعلان نيويورك” نشر بعثة دولية في غزة بتفويض من مجلس الأمن لتحقيق الاستقرار على أن تعمل تحت رعاية الأمم المتحدة لحماية المدنيين الفلسطينيين ودعم نقل الأمن إلى السلطة الفلسطينية.
تشكل هذه النقاط مجتمعة أرضية توافق بين معظم الدول الخليجية ودول الاتحاد الأوروبي، بما يشمل نزع سلاح حماس رغم الإقرار بدور إسرائيل في إبادة أهل غزة وتجويعهم وحصارهم.

القمة الخليجية الأوروبية

قبل نحو عام، حين اجتمعت دول مجلس التعاون الخليجي بدول الاتحاد الأوروبي لبحث شراكة استراتيجية جديدة في القمة الخليجية الأوروبية الأولى، لم يكن التوافق بشأن موضوع غزة بالأمر اليسير رغم ما أفضت له القمة من المطالبة بدخول المساعدات بشكل فوري إلى قطاع غزة ودعم الأونروا وفتح المعابر.
جرى التحضير إلى القمة قبل اندلاع أحداث 7 أكتوبر 2023. كان الهدف من التقارب بين أهم تجمعين اقتصاديين وسياسيين إقليميين: مجلس التعاون الخليجي والاتحاد الأوروبي هو التوسّع الاستراتيجي للتجمعين، لكن ظروف الحرب على غزة أملت على التكتلين شروطاً وضغوطاً إضافية كان على الجميع التكيّف معها وتغيير الرهانات تباعاً. وإذا كان موقف دول الاتحاد الأوروبي حاسماً إزاء الحرب بين روسيا وأوكرانيا من خلال فرض عقوبات صارمة على موسكو، فإنّ اتخاذ خطوة مماثلة تجاه إسرائيل ظلّ طويلاً أمراً بعيد المنال. غير أنّ كثيراً من المعطيات تبدّلت منذ ذلك الحين.
في 11 سبتمبر 2025، صوّت البرلمان الأوروبي على قرار بفرض عقوبات على إسرائيل يشمل تعليقاً جزئياً للجوانب التجارية في اتفاق الشراكة بين الاتحاد الأوروبي وإسرائيل، حيث أدان القرار عرقلة تل أبيب دخول المساعدات إلى غزة وتسببت الحرب على غزة في مجاعة قاتلة.
أتت قرارات البرلمان تجسيداً لإعلان رئيسة المفوضية فون دير لاين أن المفوضية ستفرض عقوبات على الوزراء المتطرفين في حكومة إسرائيل. إسبانيا لم تكتف بالاعتراف بفلسطين بل شددت عقوباتها على إسرائيل بحظر عبور الأسلحة عبر موانئها ومنع عبور أي طائرات تحمل سلاحاً إلى تل أبيب. منتصف سبتمبر الجاري، ألغت الحكومة الإسبانية صفقة أسلحة مع إسرائيل بقيمة 700 مليون يورو.
بدأ التنسيق الخليجي الأوروبي بشأن القضية الفلسطينية يتبلور منذ القمة الأولى التي عُقدت في أكتوبر 2024 في بروكسل، أي بعد عام على حرب إسرائيل على غزة. برزت فرنسا كأول دولة من مجموعة السبع وإحدى الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن، تخطو خطوات كبيرة نحو الاعتراف بدولة فلسطين منذ عهد الرئيس الأسبق جاك شيراك.
وفي 22 سبتمبر الجاري، تترأس السعودية وفرنسا قمة في الأمم المتحدة ويُتوقّع أن تعلن باريس خلالها الاعتراف بالدولة الفلسطينية. خطوةٌ وصفها رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بأنها “خيانة من حليف قديم” و”صفعة لضحايا السابع من أكتوبر”، على حدّ تعبيره.
تعمل الرياض وباريس منذ أشهر على دفع مسار حلّ الدولتين رغم معارضة واشنطن وتل أبيب الشديدة.
اليوم، يُنظر إلى حل الدولتين والاعتراف بالدولة الفلسطينية باعتباره الرادع الوحيد والقادر على إجبار إسرائيل على وقف “حرب الإبادة” في غزة، التي حصدت أرواح أكثر من ستين ألف فلسطيني. وكانت عشر دول من الاتحاد الأوروبي قد اعترفت بدولة فلسطين، فيما سبقت دول أخرى إلى ذلك قبل انضمامها إلى الاتحاد مثل رومانيا وقبرص وبولندا وبلغاريا منذ عام 1988.
كما تستعد بريطانيا من جهتها للاعتراف بدولة فلسطين في تحوّل تاريخي لافت في سياستها منذ “وعد بلفور” عام 1917، الذي منح اليهود حقّ إقامة وطن في فلسطين.

التحذير الإماراتي

رغم وجود دول خليجية كانت قد طبعت علاقاتها مع إسرائيل، إلا أن هناك تحولاً لافتاً في مواقف بعضها مؤخراً. في هذا السياق، حذرت الإمارات – التي تربطها بإسرائيل علاقات دبلوماسية وتجارية منذ سبتمبر 2020 – تل أبيب من أن ضم إسرائيل لأي جزء من الضفة الغربية من شأنه أن يقوض الاتفاقيات الإبراهيمية التي تربطهما و”لا يمكن أن يكون هناك سلام دائم بعده”، بحسب ما أفادت به مساعدة وزير الخارجية الإماراتي.
وكان هذا التحذير الخطاب الأشد لهجة من أبوظبي لتل أبيب منذ بدء الحرب على غزة في أكتوبر 2023 ومنذ التطبيع بين الجانبين قبل خمس سنوات. أكثر من ذلك، احتدت العلاقة بشكل أكبر بين أبوظبي وتل أبيب بعد الهجوم الإسرائيلي على الدوحة يوم 9 سبتمبر 2025 حين استدعت أبوظبي نائب السفير الإسرائيلي لتبلغه إدانتها لاستهداف قطر. هذا الاحتجاج أتى متماهياً مع الموقف الخليجي المندد بشدة بما اعتبره “عدواناً على قطر”.
ورغم التحذيرات الأمريكية، تتواصل المساعي الأوروبية بالتنسيق مع دول مجلس التعاون الخليجي لتوسعة رقعة الدول التي تعترف بالدولة الفلسطينية، رغم اعتبار إسرائيل الاعتراف “بادرة جوفاء” وتوعّد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بأنه “لن تكون هناك دولة فلسطينية”. الموقف الأميركي جاء على لسان المبعوثة الأمريكية الدائمة في الأمم المتحدة مورغان أورتاغوس حين هاجمت تبني إعلان نيويورك ووصفته بأنه دعاية تقوض الجهود الدبلوماسية الجادة لإنهاء الصراع معتبرة أنّ الإعلان “هدية لحماس”.

حليف متناقض

على نقيض التحرك الأوروبي اللافت، ترفض واشنطن ما اعتبرته “حركات مناهضة لإسرائيل”.
في هذا السياق، أتت زيارة وزير الخارجية الأمريكي مارك روبيو إلى إسرائيل يومي 13 و14 سبتمبر تأكيداً لالتزام واشنطن بأمن إسرائيل ومواجهة الإجراءات المناهضة، ومن بينها الاعتراف بدولة فلسطين.
اللافت في هذه الزيارة أنها جاءت بعد أقل من أسبوع على الهجوم الإسرائيلي على الدوحة التي قالت تل أبيب إنه كان يستهدف قيادات حماس في قطر. تشير المعطيات إلى أن تل أبيب أخطرت واشنطن بهذه الضربة (قبل تنفيذها أو عند تنفيذها) رغم كون قطر وسيطاً في المفاوضات، ورغم احتضان قطر للتواجد العسكري الأكبر في الخليج.
ومنذ حرب تحرير الكويت عامي 1990–1991، شكّل الوجود الأمريكي في منطقة الخليج ضمانة أساسية لدول المنطقة ضد أي اعتداء خارجي. كانت حرب الخليج بمثابة اللبنة الأولى لترسيخ الشراكة الخليجية الأمريكية؛ والسعودية على وجه الخصوص.
ومهما كانت أسباب عدم تصدي منظومات الدفاع الأمريكية المتمركزة في قطر للضربة الإسرائيلية، فإنّ الموقف الأمريكي أثار العديد من الانتقادات والتشكيك في متانة العلاقات مع واشنطن وتعهداتها بحماية دول الخليج، تلك العلاقات التي تجسدت عبر استثمارات خليجية ضخمة في الولايات المتحدة واتفاقيات تسلّح استراتيجية.
محاولات واشنطن التبرؤ من الاعتداء الإسرائيلي على الدوحة لم تمنع دول الخليج من فتح ملف شائك ومعقد، رغم التقليل من قدرة دول الخليج على مراجعة أو الانسحاب من التعاون العسكري والأمني الوثيق مع واشنطن. يتساءل البعض في الخليج إن كانت واشنطن حليفاً يمكن الوثوق به بعد هذه الضربة وإن كان هناك بدائل لهذا الحليف؟
كانت زيارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى الخليج في مايو الماضي والتي تمخضت عن استثمارات بنحو 2 تريليون دولار منجزاً مهماً للرئيس، لكنها، على ما يبدو، لم تكن كافية لضمان أمن الخليج من ضربة كالتي وجهتها إسرائيل إلى قطر.

خاتمة

لا يخرج الهجوم الإسرائيلي على قطر عن سياق القضية الفلسطينية وموقف قطر والتنسيق الخليجي الأوروبي الذي شكل منعطفاً في العلاقات الاستراتيجية بين الكتلتين، وهو تقارب بالتأكيد يقلق تل أبيب ويزعج واشنطن. ومع ذلك، فإنّ التحرك الأوروبي الخليجي لا ينفصل عن مشهد أكثر تعقيداً تتشابك فيه حسابات الحرب والسلام.
لم يكن “إعلان نيويورك” سوى بداية مسار طويل يعيد الاعتبار لحلّ الدولتين كخيار وحيد أمام المجتمع الدولي، في مقابل إصرار تل أبيب وواشنطن على إجهاضه. الضربة الإسرائيلية في الدوحة، وما أثارته من صدمة خليجية، بدت جزءاً من هذه المواجهة المفتوحة، ورسالة تقول إنّ القضية الفلسطينية لم تعد شأناً بعيداً عن الخليج، بل باتت اختباراً مباشراً لصلابة تحالفاته وصدقيّة وعود حلفائه الغربيين. وبين هذين المسارين، يظل الرهان قائماً على أنّ الاعتراف الدولي المتزايد بفلسطين سيجعل الصراع أكثر احتداماً حول من يملك حقّ رسم خريطة المستقبل.

منشورات أخرى للكاتب
البيت الخليجي للدراسات والنشر
Privacy Overview

This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.