إيران في مرمى الزناد: خيارات محدودة وأثمان باهظة
تمر إيران اليوم بمرحلة حرجة وربما الأكثر تحديًا منذ توقيع الاتفاق النووي عام 2015، بعد أن قررت الدول الأوروبية تفعيل آلية الزناد بعد مهلة زمنية لا تتجاوز الشهر إن فشلت المفاوضات مع طهران. والزناد هي آلية العودة التلقائية للعقوبات الأممية التي رفعت عن إيران بموجب توقيع الاتفاق النووي. لا تعد هذه الخطوة مجرد إجراء شكلي بل أصبحت تهديدًا مباشرًا لإمكانات الدولة الاقتصادية والأمنية، ما يجعل الثلاثين يومًا المقبلة مرحلة اختبار حقيقي لمتانة الدولة الإيرانية ولقدرتها على المناورة داخليًا وخارجيًا.
الواقع النووي والخيارات الإيرانية
يحكم الخيار النووي الإيراني اليوم بمزيج من الضغوط الداخلية والخارجية، ولا يملك مساحة واسعة للتصرف دون تبعات كارثية محتملة. ردت إيران على قرار الأوروبيين بتفعيل آلية الزناد بتحرك برلماني لمشروع قانون للخروج من معاهدة حظر الانتشار النووي (NPT). لكن الخروج من معاهدة حظر الانتشار دون التوجه نحو إنتاج سلاح نووي سيكون خطوة عبثية لا تمنح إيران أي قدرة ردع حقيقية، بل تعرضها لعزلة دولية خانقة وتزيد من الضغوط الاقتصادية. هذا الخيار، وإن بدا لبعض الجهات وسيلة للضغط أو التفاوض، فإنه عمليًا لا يقدم لإيران أي منفعة ملموسة ويتركها معرضة للعقوبات دون أي رادع استراتيجي.
بالمقابل، إن السعي لتطوير سلاح نووي ليس مجرد تحدٍّ سياسي أو تقني بل هو يقود مباشرة نحو صراع عسكري أشد بكثير من الحرب الأخيرة، مع تبعات أمنية واقتصادية لا يمكن التنبؤ بها بدقة، بما في ذلك فرض عقوبات أشد واستهداف محتمل للمنشآت النووية والعسكرية الإيرانية، وربما تحولات استراتيجية في المنطقة كلها. هذا المسار يفرض على إيران ثمنًا سياسيًا داخليًا وخارجيًا فادحًا مع احتمالية اندلاع مواجهة مباشرة مع الولايات المتحدة أو إسرائيل أشد ضراوة من الحرب الأخيرة في يونيو/حزيران 2025.
في الوقت ذاته، الردع النووي دون وجود أساس قوي من الردع غير النووي سيكون مدمّرًا على إيران. هذا الردع غير النووي يشمل اقتصادًا قويًا، أسلحة تقليدية متينة، روح دفاعية عالية، تماسكًا داخليًا، علاقات خارجية واسعة، وصلات استراتيجية مع روسيا والصين. في غياب هذه العناصر، تصبح أي خطوة نحو النووي مجرد قنبلة موقوتة، مع احتمال تفجر الأوضاع الداخلية وتأجج الاحتجاجات الشعبية وإضعاف سلطة الدولة أمام القوى الإقليمية والدولية.
يعاني الاقتصاد الإيراني منذ سنوات من اختلالات هيكلية متراكمة، تضاعفها العقوبات الدولية وأزمات السياسة النقدية. تفعيل آلية الزناد يزيد من هذه الضغوط، ويضع إيران أمام واقع اقتصادي شديد التعقيد: ارتفاع التضخم، انخفاض القدرة الشرائية للمواطنين، اضطراب سوق العملة ومحدودية الموارد المالية للحكومة.
حتى في حال استمرار المفاوضات دون اتفاق، فإن الاقتصاد يظل مشلولًا إلى حد كبير مما يفاقم المشاكل الاجتماعية ويزيد احتمالات الاحتجاجات الشعبية، مع ما يرافق ذلك من خطر فقدان الثقة في الحكومة، وتعميق الانقسامات الداخلية.
إن أي محاولة لتحقيق نمو اقتصادي في هذه المرحلة يحتاج إلى انفراج دبلوماسي ملموس يتيح الإفراج عن الأموال المجمّدة، استعادة ثقة المستثمرين وفتح قنوات التمويل الدولي، وهو ما يصعب تحقيقه في ظل التوتر الحالي.
سيناريوهات
يمكن تحليل الوضع من خلال ثلاثة سيناريوهات رئيسية:
السيناريو الأول: الانفراج المحتمل: يحدث هذا السيناريو إذا تم التوصل إلى اتفاق نووي مع أوروبا أو الولايات المتحدة، مع عدم تفعيل آلية الزناد وخطر حرب منخفض. في هذا المسار، تتحرر الأموال المجمّدة تدريجيًا، يستقر سعر الدولار بين مستويات مقبولة، ينخفض العجز المالي وتعود فرص الاستثمار والعمل في قطاع الطاقة. كما يمكن العودة إلى آليات التمويل الدولي مثل FATF وSWIFT، مع نمو اقتصادي تدريجي بنسبة 2.5–3%.
يوفر هذا السيناريو فرصة حقيقية لإيران لإنعاش اقتصادها لكنه يتطلب تنازلات سياسية كبيرة، بما في ذلك التراجع عن بعض السياسات الإقليمية أو تعديل برامجها النووية وفق الشروط الدولية. ورغم أنه الأكثر أمانًا فإن تنفيذه ليس مضمونًا بسبب الضغوط الداخلية والمعارضة السياسية، وهو ما يجعل النجاح فيه مسألة دقيقة تتطلب إدارة حكيمة ومتوازنة.
السيناريو الثاني: الأسوأ اقتصاديًا وأمنيًا: إذا لم يتم التوصل إلى اتفاق وتم تفعيل آلية الزناد بالفعل. ومع ارتفاع خطر الهجوم العسكري، ستواجه إيران أقصى درجات الضغط الاقتصادي: موارد مالية محدودة، تضخم مرتفع، ارتفاع سعر صرف الدولار وأسعار السلع الأساسية. في هذا السياق، تصبح البلاد عرضة لعزلة خانقة واحتجاجات شعبية، بينما يبقى تهديد المواجهة العسكرية المباشرة قائمًا، مع احتمال تحولات إقليمية سريعة قد تؤدي إلى صراعات إقليمية أكبر.
يمثل هذا السيناريو أخطر الخيارات، ويضع إيران بين مطرقة العقوبات وسندان المواجهة العسكرية، مما يجعلها معرضة لانهيار اقتصادي متسارع مع تزايد المخاطر الأمنية والسياسية داخليًا وخارجيًا. في هذا السياق، يصبح الاستقرار الاجتماعي والسياسي في إيران غير مضمون، ما يهدد قدرة الدولة على إدارة الأزمات أو الحفاظ على نفوذها الإقليمي.
السيناريو الثالث: الوضع الرمادي: يتمثل الوضع الرمادي في استمرار المفاوضات دون اتفاق حقيقي مستمر وعدم تفعيل آلية الزناد مع وجود تهديدات عسكرية مستمرة. هنا يكون الاقتصاد مشلولًا، تتسع رقعة العقوبات بينما تستمر الهجمات العسكرية غير المباشرة وفتح جبهات جديدة في المنطقة.
يمثل هذا السيناريو استنزافًا طويل الأمد يؤدي إلى تآكل داخلي تدريجي، مع تأثير مباشر على ثقة المواطنين في الدولة وقدرتها على إدارة الموارد والمواجهة. رغم عدم وجود مواجهة مباشرة، فإن الاستنزاف المستمر يخلق بيئة هشة تجعل إيران أكثر عرضة للأزمات الاقتصادية والسياسية في المستقبل القريب.
إطلاق الزناد
لا يمكن فصل الوضع الإيراني عن السياق الإقليمي والدولي. تؤثر تحركات إيران النووية على موازين القوى في الشرق الأوسط، خصوصًا في مواجهة التحالفات الإقليمية بقيادة الولايات المتحدة وإسرائيل. كما أن العلاقات الاستراتيجية مع روسيا والصين قد توفر لإيران متنفسًا محدودًا لكنها لا تعوض العزلة الاقتصادية الغربية أو تهديدات العقوبات.
أي تحرك نووي أو خروج عن الاتفاقيات سيجعل إيران هدفًا مباشرًا للضغوط الدولية، وربما الهجمات العسكرية غير المباشرة، وهو ما يزيد من احتمال نشوب صراعات إقليمية واسعة مع انعكاسات اقتصادية واجتماعية خطيرة داخليًا.
إيران اليوم على مفترق طرق حاسم. الطريق الآمن يتطلب الانفتاح الاقتصادي، التماسك الداخلي والتحالفات الاستراتيجية القوية، قبالة ذلك، قد يقود السير نحو السلاح النووي أو العزلة الدولية إلى أزمات مركبة تشمل الاقتصاد، الأمن والسياسة الداخلية. الثلاثون يومًا القادمة ليست مجرد مهلة زمنية بل مرحلة اختبار حقيقية لمتانة الدولة الإيرانية وقدرتها على إدارة الضغوط الداخلية والخارجية.
يتطلب النجاح في اجتياز هذه المرحلة القدرة على التوازن بين الضغوط الداخلية والالتزامات الدولية، وبين الطموحات النووية والاستراتيجيات الاقتصادية. الفشل، من جهة أخرى، سيترك إيران في مواجهة أزمات مركبة، قد تعصف بالاقتصاد، تهدد الاستقرار وتضع البلاد على مسار غير قابل للعودة نحو مزيد من العزلة والصراعات. ولا يبدو أن المرحلة تدفع باتجاه أي انعطاف دبلوماسي غربي مع إيران.