الكويت بين التعليق والإصلاح: اختبار جدّية الدولة في التحول السياسي

شهدت الكويت في مايو 2024 منعطفًا حاسمًا حين أصدر أمير البلاد الشيخ مشعل الأحمد الصباح أمرًا أميريًا بتعليق بعض مواد الدستور وحلّ مجلس الأمة المنتخب حديثًا لفترة لا تتجاوز أربع سنوات، يتولى خلالها الأمير والحكومة كامل السلطة التشريعية والتنفيذية

برر الشيخ قراره بأنه ضروري لـ “إنقاذ الدولة” وحماية المصلحة الوطنية العليا في ظل حالة “جمود سياسي” وصراع متكرر بين البرلمان والحكومة عطّل مسيرة التنمية. لكن مع مرور أكثر من عام على هذا التعليق، لا تزال الصورة ضبابية حول ما إذا كانت الدولة ستعتمد إدخال إصلاحات جوهرية على بعض أحكام الدستور.

تستعرض هذه المقالة تطورات الوضع الدستوري بعد قرار التعليق ونناقش السيناريوهات المحتملة بين استمرار التعطيل أو السير في مسار إصلاحي، مع تسليط الضوء على مجالات التعديل الدستوري المتوقعة.

منذ إقرار دستور 1962 وإجراء أول انتخاب لأعضاء مجلس الأمة عام 1963، تمتّع المجلس بحق التشريع ومساءلة الوزراء والمشاركة في تثبيت ولاية العهد، وهو ما جعل الكويت “استثناءً ديمقراطيًا” في محيط تسوده الملكيات المطلقة. هذه التجربة البرلمانية لم تكن سلسة ومستقرة دائمًا، عانت البلاد لعقود من دورات متكررة من الأزمات: حلّ للمجلس ثم انتخابات جديدة فخلافات مستمرة بين نواب معارضين وحكومات معينة.  شهدت الكويت منذ عام 2006 نحو عشرة انتخابات برلمانية ولم يكمل سوى مجلس واحد مدته الدستورية. وهو ما انتهى إلى شبه توافق بين الأسرة الحاكمة وغالبية الكويتيين على وجود خلل هيكلي في النظام.

في خضم هذا السياق المتأزم، جاء قرار أمير البلاد بتعليق الحياة البرلمانية كخطوة جذرية لكنها ليست سابقة تاريخية إذ سبق لحكام الكويت أن لجأوا لإجراء مماثل مرتين قبل ذلك، في عام 1976 ثم عام 1986. الجديد هذه المرة هو أن التعليق جاء بسبب أزمة سياسية داخلية خانقة بلغت ذروتها مطلع 2024.

أمير الكويت أوضح في خطاب التعطيل أنه مؤقت وأنه لا ينوي إلغاء الديمقراطية الكويتية جذريًا. مؤكدًا أن هذه الفترة ستُستثمر في “مراجعة العملية الديمقراطية” وتصحيح مسارها لتحقيق حكم أكثر استقرارًا وتنمية أكثر فعالية. وقتئذ، تم الإعلان عن خطة لتشكيل لجنة خبراء تكلَّف باقتراح تعديلات دستورية في غضون ستة أشهر، تُعرض لاحقًا خلال مدة أقصاها أربع سنوات على الاستفتاء الشعبي أو على مجلس أمة منتخب جديد لإقرارها.

هذه الوعود هدّأت مخاوف بعض المواطنين في البداية إذ اعتُبرت ضمانة أن التعليق لن يطول بلا أفق. كذلك سارع الأمير إلى ترتيب البيت الداخلي بتعيين حكومة تكنوقراط جديدة في مايو 2024 واختيار الشيخ صباح الخالد الصباح (رئيس الوزراء الأسبق) وليًا للعهد في يونيو من العام نفسه. رغم ذلك، تبقى هذه الخطوات في نظر منتقدي السلطة مجرد إجراءات ترتيبية لا تعالج الأسئلة الجوهرية على الطاولة: ماذا بعد تعليق الدستور؟ وهل سنشهد فعلاً إصلاحات سياسية جادة أم أن الأمر مقدمة لتحول الكويت إلى حكم مشابه لجيرانها في دول الخليج؟

على المستوى الداخلي، ورغم الهدوء النسبي، يبقى الشعور العام مزيجًا من الترقب والحذر. ورغم عدم خروج مظاهرات احتجاجية واسعة، تشير استطلاعات الرأي إلى مجلس الأمة لا يزال لدى غالبية الكويتيين ضرورة لتحقيق التوازن ومراقبة أداء الحكومة. كما يرى الكويتيون أن الديمقراطية، رغم مشاكلها، تظل أفضل نظام سياسي يمكن الاعتماد عليه.

إقليميًا، لقي القرار ترحيبًا ودعمًا من دول الخليج التي سارعت في إجراء اتصالاتٍ وزيارات بين قادة البلاد وأمير الكويت. من نافلة القول التأكيد على أن دول الخليج كانت تنظر بتحفظ إلى النموذج الديمقراطي الكويتي. وتفيد تقارير بأن قرار الكويت قد ساهم في إبطاء المسار الديمقراطي الوليد في قطر أيضًا، ما يشير إلى وجود توجه خليجي عام نحو تقليص مساحات المشاركة السياسية لصالح سردية دعم الاستقرار والحفاظ على الأمن والتنمية الاقتصادية.

دوليًا، كانت ردود الفعل فاترة، حيث اكتفت الولايات المتحدة والدول الغربية بمواقف دبلوماسية معتدلة، وهو ما يعكس أولوياتها الحالية في التعامل مع ملفات إقليمية أخرى كالحرب في غزة والتوتر مع إيران، مما جعل التطورات في الكويت تمر دون ضغوط أو انتقادات دولية كبيرة. بالتوازي، لا يبدو أن الديمقراطيات الغربية العريقة، وفي مقدمتها الولايات المتحدة، باتت مهتمة بملفات دعم الديمقراطية، سواء في منطقة الخليج أو أي منطقة أخرى.

على أي حال، تبرز اليوم ثلاثة سيناريوهات محتملة كمآلات للمشهد السياسي في الكويت. الأول وهو السيناريو السلبي، وهو تمديد حالة التعطيل وتحويلها إلى واقع دائم بتعطيل مجلس الأمة “البرلمان” وإنهاء دوره السياسي بشكل كامل، على غرار ما هو معمول به في بقية دول الخليج. وهو سيناريو تدعمه حالة الصمت من جانب السلطة التنفيذية والضبابية حول مصير لجنة الخبراء المكلفة بتقديم التعديلات الدستورية والتي لم تقدم مقترحاتها رغم مرور عام ونيف.

السيناريو الثاني هو مسار الإصلاح الحقيقي، حيث تعود الحياة البرلمانية بعد تعديلات دستورية عميقة تشمل إعادة توزيع الصلاحيات بشكل متوازن بين السلطتين التشريعية والتنفيذية وتعديل آليات الرقابة البرلمانية لضمان الاستقرار الحكومي، يضاف لذلك إلغاء مشاركة مجلس الأمة في تنصيب ولاية العهد وجعل التعيين من الصلاحيات المباشرة والخاصة بأمير البلاد حصرًا، كذلك إصلاح قانون الانتخابات الذي قد يشرع اقتصار التصويت على الكويتيين الحاملين للجنسية بالتأسيس. وهو ما ينسجم مع الإجراءات الأخيرة المتعلقة بمراجعة الجنسية الكويتية وإسقاط ونزع الجنسية عن عشرات الآلاف من الكويتيين بدعوى مخالفة أحكام القانون.  

السيناريو الثالث، وهو الأقل طموحًا، يتمثل في العودة إلى الوضع السابق كما كان قبل التعطيل دون الذهاب إلى أي تعديلات جوهرية على الدستور نتيجة لضغوط داخلية وخارجية، وهو ما يحيل إلى استمرار الصراع السياسي والأزمة الداخلية دون حل جذري، وهو تمامًا ما حدث في التعليقين الأول والثاني للدستور.

ختامًا، تقف الكويت اليوم على مفترق طرق سياسي حاسم حيث تحدد القرارات القادمة طبيعة نظامها السياسي لعقود. وبينما تتجه الأنظار، داخليًا وخارجيًا، للتعرف على الخطوات التالية، يبقى السؤال قائمًا حول مدى جدية الدولة في تحقيق وعودها بالإصلاح ومعالجة الأزمة السياسية الداخلية أو الاتجاه نحو نموذج سلطوي أكثر استقرارًا لكنه أقل ديمقراطية. بالتوازي، تزداد التساؤلات عن طبيعة المعوقات التي لا تزال قائمة أمام الحكومة فيما يتعلق بملف التنمية الاقتصادية الذي لا يزال يراوح مكانه، كما كان، ما يسلط الضوء على استمرار التحديات البنيوية التي لم تعالجها السلطة حتى الآن.

منشورات أخرى للكاتب
البيت الخليجي للدراسات والنشر
Privacy Overview

This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.