نُذر التحول: قراءة استراتيجية في موقع إيران بعد الحرب

نجَت طهران في ليلة الثالث عشر من يونيو/حزيران من مشروع استهداف واسع كان يهدف، بحسب بعض التقديرات، إلى إسقاط نظامها السياسي وإعادة مشهد 9 أبريل/نيسان 2003 حين سقطت بغداد بيد خصومها، وانقلبت المعادلات الإقليمية رأسًا على عقب.
نجَت طهران، لكن المشهد لم ينتهِ. فلا تزال احتمالات التصعيد قائمة، وليس ثمّة مؤشرات تدل على أن إسرائيل قد طوت صفحة الحرب الأخيرة، رغم الوجع الذي سبّبته الصواريخ الإيرانية.
تصف إيران الرسمية هذه المرحلة بوضوح بأنها “لا حرب ولا صلح”. وعلى أي حال، فإن هذا الحال المرتبك يطرح مزيدًا من الأسئلة لا الإجابات: كيف وصلت إيران إلى هذه الحرب؟ هل كان وقوعها حتميًا أم أنها كانت نتاج أخطاء تراكمت لسنوات؟ وماذا عن الحرب المقبلة؟

في سياق استراتيجية “الردع غير المباشر”، بنت إيران شبكة من القوى الحليفة في الإقليم شكّلت ما يُعرف بـ”دوائر النار” المحيطة بإسرائيل. أبرز هذه الدوائر كان حزب الله في لبنان، الذي تحوّل، في نظر كثيرين، من حركة مقاومة محلية إلى لاعب إقليمي خاض حربًا طويلة في سوريا أفقدته كثيرًا من حضوره الشعبي العربي، وعرّضته لاختراقات استخباراتية متزايدة.
دخول الحزب في الصراع السوري أعاد صياغة صورته، وقلّص من قدرته على العمل كمصدر ضغط فعّال في لحظات التوتر الكبرى.
في غزة، كان رهان قائد “حماس” في القطاع، يحيى السنوار، أن الأسرى الإسرائيليين سيجبرون الحكومة الإسرائيلية على التفاوض، وأن المجتمع الدولي لن يصمت طويلًا أمام شبح الإبادة التي ستتعرض لها غزة. تقدير بدا إنسانيًا، لكنه عسكريًا لم يلتفت إلى مدى القسوة التي قد يلجأ إليها الخصم الإسرائيلي، ولا حجم الصمت الذي قد يُفرض دوليًا.
ومع دخول الصراع منحًى أوسع، تراجعت فاعلية أوراق إيران، وباتت “دوائر النار” أقل إشعاعًا مما كانت عليه.

العودة إلى 2003: خطأ استراتيجي مبكر

لعل من المفيد إعادة قراءة ما جرى عام 2003 حين سقط نظام الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين. فرغم العداء المرير وسنوات الوجع بين بغداد وطهران، كان نظام صدام يشكّل من الناحية الواقعية جدار صد أمام النفوذ الإسرائيلي في المنطقة الشرقية من الوطن العربي.
ومع سقوطه، أصبحت أجواء العراق مكشوفة للقوة الجوية الأمريكية – وبالتالي الإسرائيلية – فيما ظل النفوذ الإيراني محصورًا على الأرض دون تغطية جوية. وهي معادلة شبيهة بما حدث لاحقًا في سوريا ولبنان، حيث امتلكت إيران حلفاء على الأرض، لكنها لم تستطع تأمين غطاء جوي أو تقني متفوق، ما أضعف فاعلية نفوذها.
هناك من يقول إنّه كان من الممكن لإيران آنذاك أن تختار مسارًا آخر، عبر الحفاظ على التوازن الإقليمي بتطوير قدراتها الصاروخية، مع الإبقاء على نظام إقليمي معادٍ لكنه قابل للردع، بدلاً من الانخراط في تغيير النظام – ولو ضمنيًا – بما فتح الباب أمام فراغ استراتيجي.
هو رأي لا يلتفت إلى ما حققته إيران من مكاسب في العراق، سياسيًا وعلى الأرض. ومع ذلك، يقول من يتبنى هذا الرأي إنّ مكاسب إيران كانت ولا تزال مكاسب مدفوعة الثمن، سياسيًا وعسكريًا، وأن كل هذه المكاسب لم تستطع أن تكون حاسمة أو مؤثرة في لحظة 13 يونيو الماضية.

مفاوضات فيينا: اليد الإيرانية هي العليا

في مفاوضات فيينا حول الاتفاق النووي، بدا أن إيران في موضع تفاوضي قوي، خاصة حين رفعت تخصيب اليورانيوم من 20% إلى 60% قبل الجولة الخامسة، لتفرض على الأمريكيين واقعًا تفاوضيًا جديدًا.
ما سمح بهذا الموقف حينها هو شبكة النفوذ الإقليمي المتماسكة التي كانت توفّر لإيران أوراق ضغط وازنة. أما اليوم، وبعد تراجع هذه الدوائر، فستكون العودة إلى طاولة التفاوض مرهونة بتنازلات أكبر ومتعددة الأبعاد.
العودة للاتفاق مع واشنطن – إن حصلت – ستعني بالنسبة لإيران، على الأرجح، التنازل التدريجي عن ملفات رئيسية: تخصيب اليورانيوم في البرنامج النووي، وربما التنازل عن جزء معتبر من نفوذها الإقليمي.
تبقى القدرات الصاروخية خطًا لن يسمح الإيرانيون لأنفسهم – قبل الآخرين – بتجاوزه.
ربما تراهن طهران على صفقة تسمح لها بالاحتفاظ الجزئي بحقها في التخصيب، مقابل تقليص النفوذ الإقليمي وفتح الاقتصاد أمام الاستثمارات الأمريكية. غير أن هذا السيناريو يظل مشكوكًا فيه، ليس فقط بسبب الموقف الأمريكي، بل بسبب الرفض الإسرائيلي القاطع لأي ترتيب يُبقي على ما يمكن تسميته بـ”الغموض الاستراتيجي” في القدرات الإيرانية.

الشرق الأوسط الجديد: أي موقع لإيران؟

في ظل هذه التغيرات، تبدو إيران أمام مفترق حاسم: هل تلجأ إلى تطوير قنبلة نووية كما فعلت الهند وباكستان عبر تجارب سرية لا تظهر إلى العيان إلا بعد أن ترصدها الأقمار الصناعية؟ أم تعتمد التلويح بالاتفاق مع واشنطن كورقة ضغط تكتيكية؟
كلا المسارين محفوفان بالمخاطر، ويعتمد نجاحهما على مدى قدرة طهران على إعادة بناء تحالفات استراتيجية متزنة.
بعد الحرب، يبدو أن السياسة الخارجية الإيرانية ستكون مضطرة لإجراء مراجعة عميقة.
فالعلاقة مع روسيا، رغم “جميل” آلاف المسيّرات الإيرانية التي ساهمت بها طهران في دعم موسكو في حربها على أوكرانيا، لم تثمر عن دعم مباشر خلال لحظات الأزمة، رغم التضحيات الإيرانية على الساحة الدولية، خصوصًا في ملف الطائرات المسيّرة وتحملها عقوبات هي في غنى عنها.
أما بالنسبة إلى الجارة الكبيرة، السعودية، فحيادها اللافت يفتح الباب أمام مقاربة أكثر مرونة في تثبيت العلاقة معها وتطويرها.
وبالنسبة إلى الصين، تظل بكين حليفًا اقتصاديًا رئيسيًا، وقد يكون من الحكمة تعزيز هذا المسار، إذ ليس من المتوقع أن تكون الصين حليفًا عسكريًا لإيران، اليوم أو غدًا.
اللافت في الحرب الأخيرة كان الموقف الباكستاني الداعم، ما يُتيح فرصة لإعادة فتح ملف العلاقة معها بجدية.
أما تركيا، فيمكن أن يُعاد بناء التنسيق معها على قاعدة المصالح المشتركة، خصوصًا أن أي فراغ إيراني في الإقليم قد يُستخدم لضرب التوازن في مناطق أخرى تمس أمن أنقرة مباشرة.
بمعنى آخر، يجب أن تسمع تركيا الرسالة بوضوح: “إذا انتهينا، فأنتِ الهدف القادم لتل أبيب”.
يمكن القول إن إحدى الإشكاليات الجوهرية في السياسة الإيرانية هي اعتمادها على دعم جماعات سياسية وعسكرية أكثر من استثمارها في بناء علاقات رسمية متوازنة مع الدول.
هذا النهج، على المدى الطويل، ساهم في دفع عدد من الدول العربية نحو القطيعة مع إيران، والتقارب مع إسرائيل ضمن تحالفات مبنية على هواجس أمنية مشتركة.
قد يكون من المجدي لإيران أن تعيد التفكير في هذا النمط، وأن تنتقل من مرحلة “الردع عبر الوكلاء” إلى بناء تحالفات قائمة على المصالح المتبادلة والاحترام المتبادل للسيادة.

الداخل الإيراني: من التوتر إلى التماسك

على الصعيد الداخلي، كشفت الحرب عن ظاهرة لافتة: في ذروة التهديد، توحّدت قطاعات من الإيرانيين حول الدولة، بصرف النظر عن الموقف السياسي منها. كما لو أن لحظة الحرب أعادت تعريف “الوطن” كمساحة أوسع من السلطة، وخلقت نوعًا من التلاحم الاجتماعي.
هذا المناخ قد يُتيح للسلطات فرصة لمراجعة بعض السياسات الداخلية، بما في ذلك تضييق الحريات والسقف المسموح للنقد.
لكن يبقى التحدي الأكبر في الاقتصاد، الذي لا تزال أزمته عميقة بفعل العقوبات وضيق الانفتاح الخارجي، ويشكّل الثغرة الأخطر في الاستقرار الداخلي.
نجت إيران من الفوضى في لحظة مصيرية، لكن المشهد لم يُغلق. القوة وحدها لم تعد كافية لصناعة النفوذ، ولا المقاومة وحدها تضمن الردع. المطلوب اليوم هو إعادة هندسة شاملة للموقع الإيراني، تبدأ من الداخل، تمتد إلى الجوار وتنتهي على مائدة التفاوض مع القوى الكبرى.

التحدي ليس في البقاء فحسب، بل في البقاء بذكاء، وبأقل قدر من الخسائر، وكل ما هو ممكن من المكاسب والامتيازات.

منشورات أخرى للكاتب
البيت الخليجي للدراسات والنشر
Privacy Overview

This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.