قراءة في حادثة الوادي الكبير: جرح النرجسية العُمانية

“فاضطربت عمان ووقع بين أهلها الخلف والعصبية وتفرقت آراؤهم وتشتت قلوبهم”

سرحان الأزكوي (كشف الغمة)

ما جرى في الوادي الكبير بولاية مطرح مساء الإثنين 15 يوليو الفائت والموافق للتاسع من محرم عام 1446ه، من هجوم مسلح على حسينية شيعية أسفرت عن مقتل ستة أشخاص وجرح العشرات، كان حدثا استثنائيا بكل ما تحمله الكلمة من معنى، فعمان التي تغنى بتسامح أهلها المستشرقون وشهد بترابط مجتمعها المعاصرون، خرجت من بين أبنائه مجموعة قامت بعملية إجرامية ضد إخوانهم العمانيين وضيوفهم المقيمين، إنه حدث كبير كاسم الوادي “الكبير” الذي اختاره هؤلاء ليكون مسرحا لجرميتهم الشنعاء في قلب العاصمة العمانية مسقط.

من هم هؤلاء المنفذون، ما هي أيديولوجيتهم ومن يقف خلفهم؟ المعلومات الشحيحة التي تتسرب داخل المجتمع تشير إلى كونهم ثلاثة إخوة من أسرة عمانية تنتمي إلى الطبقة الوسطى، وهم متعلمون تعليمًا جيدًا نال أحدهم شهادة الدكتوراة، ويعملون في وظائف في مؤسسات حكومية بارزة. هذه المعطيات المبدئية تحيّد دور العامل الاقتصادي، كما تحيّد دور السذاجة والجهل وحداثة السن وقلة التعليم الذي تتصف به أغلب الشخصيات الإرهابية. بيد أن أهم ما يميزهم هو التحول المذهبي من المذهب الإباضي السائد في مجتمعهم إلى السلفية لا في صورتها العلمية السلمية، بل في نسختها الجهادية المتطرفة.

إن ظاهرة العبور بين المذاهب ليست حديثة، بل هي قديمة قدم المذاهب ذاتها، ولأن المذهب الفكري يمثل ثقافة المجتمع ويعبّر عن طبيعة الاجتماع، فإن ظاهرة العبور تمثل في غالب الأحيان، إما احتجاجًا فرديًا على المجتمع أو انفضاضًا جماعيًا عن الولاءات التقليدية الحاكمة فيه بسبب تغلب نفوذ أتباع مذهب جديد كما حدث في فارس أيام الدولة الصفوية. صحيح أن أغلب حالات الاحتجاج على ثقافة المجتمع لا تتجاوز الهيئة والسلوك الفردي، وهو ما نراه لدى الأطفال والمراهقين، ولكن بعضها يأخذ أشكالا متطرفة عنيفة، إما على الذات كما تمثله ظاهرة تعاطي المخدرات أو على الآخرين كما هو حاصل في حالات الانضمام إلى التنظيمات الإرهابية.

من السهل تبرير الحادثة بانحراف أصحابها عن النسق الاجتماعي وأمراضهم النفسية وأوهامهم الدينية، لكن هذا المبرر يكون سائغًا في حال كون المتسبب شخصًا واحدًا، أما وكون الجناة ثلاثة أشخاص وربما أكثر، فهنا ينبغي على المجتمع مراجعة ذاته، وتبين سبب تمرد مجموعة من أبنائه وحملهم السلاح، وعليه أن يفحص سجلاته، ويتأكد ما إذا كانت هذه الحادثة هي الأولى أم سبقها غيرها، فقد نشرت صحيفة البلد في يوليو 2014 على لسان الصحفي الاستقصائي تركي البلوشي ما نصه: “هناك تقارير قدّرت عدد العمانيين الذي انضموا لجماعات مسلحة في سورية بمائتي شخص”، كما نشرت الإعلامية سمية اليعقوبية في مارس 2015 تقريرًا في صحيفة “المواطن” عن رسائل اقتحامية تصل إلى الشباب العماني عبر تطبيق الواتساب تدعوهم إلى الانضمام إلى تنظيم الدولة الإسلامية. فما الذي حصل لأولئك الدواعش، هل غيروا أفكارهم أم أنهم لا يزالون يتحينون فرصة الظهور كما فعلت مجموعة الوادي الكبير، وهل هم مراقبون من قبل الأجهزة الأمنية، أم أن ملفاتهم قد أغلقت.

نحن أمام حدث أمني كارثي ينبغي أن يوقظ غفلتنا، ويفيقنا من سكرة الأوهام بأننا مركز الكون وأننا الاستثناء الإنساني، وأن العمانيين كائنات تختلف عما حولها، كما يردد بعض الكتاب والإعلاميين العمانيين، حتى صار بعضهم يدعون جهارًا إلى عدم الانتماء إلى مجلس التعاون، باعتبارنا دولة لها تاريخ مختلف، وثقافة مختلفة، وأننا متسامحون في محيط متوتر مذهبيًا، فجاءت هذه الحادثة الأليمة لتوقظهم من سكرتهم، ولتجرح نرجسيتهم ولتكشف لهم أننا بشر كغيرنا، نؤثر في الآخرين ونتأثر بهم، وأن كل أوهام الفرادة والاستثناء أضغاث أحلام، وأن تاريخنا لم يخلو من فتن وصراعات كما يؤكد سرحان الأزكوي (ق 11ه) في كتابه “كشف الغمة”.

الصراعات التي دارت في المجتمع العماني لم تكن يومًا على مبدأ مذهبي أو طائفي، بل هي في غالبيتها حروب قبلية ومناطقية، ويحسب للسلطان الراحل قابوس بن سعيد، طيب الله ثراه، أن أعاد بناء الروح العمانية على قاعدة الوحدة الوطنية بعيدًا عن القبلية والمناطقية فضلًا عن الطائفية التي لم تعرفها عمان في تاريخها الممتد منذ عام 132ه/749م حين بايع العمانيون الجلندى بن مسعود وانفصلوا عن الدولتين الأموية والعباسية، والخشية أن تدشن حادثة الوادي الكبير التي استهدفت تجمعا شيعيًا سببًا جديدًا للصراعات الداخلية.

إن انخراط أعداد من شباب مجتمعنا في التنظيمات الإرهابية والاتجاهات الإلحادية يكشف عن فراغ ثقافي وهشاشة معرفية مجتمعية، استطاعت التنظيمات الدينية الإرهابية والاتجاهات الإلحادية الفوضوية أن تتلمسه وأن تتسرب من خلاله. حين زار عدنان إبراهيم مسقط في فبراير 2017 غصت شوارع جامعة السلطان قابوس بالسيارات، وامتلأ مسرحها المفتوح بالحضور الهائل الذي لم نر له مثيلًا في محاضرات الدعاة أو الشخصيات العمانية، الأمر ذاته تكرر في معرض مسقط الدولي للكتاب عام 2022 مع اليوتيوبر الكويتي محمد المطيري المعروف بـ”كويلي” الذي ازدحمت ردهات المعرض بمعجباته من المراهقات والمراهقين، الأمر الذي اضطر اللجنة المنظمة إلى إخراجه من أرض المعرض.

إن أهم سبب لعزوف الشباب العماني عن الطرح الثقافي العماني، هو عدم الاهتمام بالمثقف العماني الجديد، والاكتفاء بالنسخة الثقافية التقليدية التي يقودها بعض رموز الخطاب الديني، ومثقفو جيل الستينات والسبعينات من كتاب وشعراء وفنانين حقهم التكريم، مع إتاحة الفرصة لمن جاء بعدهم لاعتلاء المنابر والمسارح وقاعات المؤتمرات والندوات، ولو تأملنا فيما يحدث في الدول الخليجية الأقرب جغرافيا إلى عمان مثل السعودية والإمارات وقطر لرأينا كيف يتم صناعة مثقفي وفناني تلك الدول وتسويقهم، بحيث أصبح بعضهم نجوما لديهم مريدين في دول العالم وفي الخليج وعمان!.

هذا إلى جانب إشكالية الإقصاء التي يمارسها بعض المتنفذين مع من يخالفونهم، فلماذا لا يتم دعوة المفكرين أمثال بسمة مبارك ورفيعة الطالعي وسعيد سلطان الهاشمي وسعود الزدجالي وغيرهم إلى الفعاليات الفكرية التي تقيمها المؤسسات الحكومية المشتغلة بالثقافة في عمان، ولماذا لا نرى خميس العدوي وخالد الوهيبي في المنابر الدينية، ولماذا لا نرى محمد العريمي أو محمد اليحيائي أو أحمد الشيزاوي أو تركي البلوشي كمحللين سياسيين في الإعلام الرسمي العماني رغم بروزهم دوليًا، هذه الأسماء هي مجرد نماذج في قائمة ليست بالقصيرة من المهمشين ثقافيًا وإعلاميًا.

بالإضافة إلى الهشاشة الثقافية يعاني المجتمع عامة والمثقفون خاصة من تدني سقف حريات التعبير، فالكل يشعر بأنه لا يحق له الحديث عن قضايا كثيرة داخلية وخارجية، وكثير من الكتاب عانى من الملاحقات الأمنية والقضائية بسبب كتاباتهم وتعبيرهم عن آرائهم، وكثير من الكتب العمانية تم مصادرتها من المكتبات ومنعت من المشاركة في معرض الكتاب، فضلاً عن تعرض بعض الصحفيين إلى المنع من الظهور والتهديد بالطرد من أعمالهم، أضف إلى ذلك إغلاق صحيفتي البلد الإلكترونية وجريدة الزمن الورقية التي ما يزال رئيس تحريرها ملاحقا قضائيا بسبب الديون المتراكمة عليه جراء إغلاق صحيفته.

تقف عُمان أمام تحدٍ كبير، فتنظيم داعش ليس مجرد أفكار أيديولوجية يمكن تفنديها والرد على أصحابها، بل هو أقرب إلى شبكة المافيا الإجرامية، التي لا يمكن لمن تورط بالدخول فيها أن ينسحب بسلام، فالداعشي مرة هو داعشي إلى الأبد، وأخطر ما في داعش أن قيادة التنظيم هي صنيعة الاستخبارات الإقليمية في الشرق الأوسط وبتوجيه ورعاية من استخبارات دولية، وبالتالي فإن هذا الهجوم لا يمكن فصله عن الإرادة السياسية التي تريد تلك الأجهزة الاستخبارية فرضها على الحكومة العمانية، وفي موقف الحكومة العمانية الرافض للتطبيع مع إسرائيل، والذي يدعم محاكمة إسرائيل على جرائمها في المحكمة الجنائية الدولية.

تحتاج عمان اليوم إلى استراتيجية ثقافية وأمنية جديدة، تبدأ باستبدال الشخصيات القائمة على المؤسسات الثقافية والإعلامية والأمنية التي أخفقت في أداء دورها، وتمكين الجيل الجديد ذي التعليم العالي والخبرة في المجال الأمني الجديد الذي يشكل الفضاء الإلكتروني أهم قواعده، إضافة إلى رفع سقف الحريات، واحترام المثقف العماني وتقديمه باعتباره اللسان الناطق بضمير الأمة العمانية، والتخلص من الخطابات النرجسية التي لم تستطع حماية قلب عمان وعاصمتها من هجمات الإرهاب الطائفي، بالإضافة إلى مراجعة برامج التسامح التي صرفت عليها الملايين لتجميل صورة عمان في الخارج، وتوجيه تلك البرامج إلى الداخل المحتاج أن يتسامح مع نفسه. ينبغي دعوة العقلاء في المجتمع إلى جلسات حوار مستديرة، تناقش فيها قضايا الوطن بصراحة وشفافية والاستماع إلى الصوت الآخر إن وجد رغم الاختلاف معه، لأن الهدف هو أمن عمان ووحدتها وتحصين المجتمع العماني من جميع الأفكار الشاذة والخطابات المنحرفة.