خريف الانتخابات التونسية: موسم الحصاد السياسي والدبلوماسي

غموض يكتنف الانتخابات الرئاسية القادمة في تونس، سواء من حيث تاريخها الذي لم تحدده الروزنامة الانتخابية بعد، أو من حيث التناقض بين القانون الانتخابي للعام 2014 ودستور العام 2022 الذي يطرح إشكاليات من حيث شروط الترشح وقائمة المرشحين التي لم تكتمل حتى الساعة، إلا أنه على الأرجح سيكون خريف العام 2024 موعدها.
خريف سياسي عاصف بحسب وصف بعض المراقبين، لأنه يأتي بعد مواسم من الهزات السياسية والتأزم الداخلي الأخطر على الإطلاق الذي يمر على تونس منذ ثورة العام 2011.

نادراً ما تجهل الشعوب في الأنظمة الديمقراطية تواريخ روزنامة انتخاباتها، إذا ما استثنينا الحالات الاضطرارية كموت حاكم مثلما حدث في العام 2019 بوفاة الرئيس التونسي السابق الباجي قائد السبسي.
ويعود سبب عدم تحديد موعد الانتخابات حتى الآن، بالأساس إلى الدستور الجديد (دستور 2022 المثير للجدل) الذي لم يمنح الهيئة العليا للانتخابات في تونس صلاحية تحديد موعد الانتخابات بعكس ما جرت عليه العادة في الانتخابات السابقة بعد الثورة. وهذا ما يجعلنا نرجح أن يكون الرئيس قيس سعيد هو الجهة التي ستدعو الناخبين إلى صناديق الاقتراع في تاريخ يحدده بنفسه بعد أن أعلن في وقت سابق أن الانتخابات ستكون في موعدها.
ونظريًا تنتهي عهدة سعيّد في أكتوبر 2024 بعد مرور 5 سنوات على حكمه.
إزاء هذا الغموض الذي يكتنف أهم استحقاق سياسي في تونس، كيف ينظر الخليج إلى الانتخابات الرئاسية في تونس وعلى أي رهانات يراهن؟
يعتبر المحلل السياسي التونسي صلاح الجورشي أن تقييم أي دولة خليجية أو غيرها للمشهد السياسي والانتخابي بالذات مبني على أساس مصالحها وحجم علاقاتها وإن كان لا يمكن أن نساوي بين سياسات الدول الخليجية الخارجية، فبين قطر والإمارات على سبيل المثال هناك مسافة بعيدة في تقييم المصالح. لكن المهم بالنسبة لدول الخليج كلها هو “استقرار تونس السياسي، فليس من مصلحة أي عاصمة خليجية أن تدخل تونس في صراع سياسي”.
يعتبر الجورشي أن المرحلة التي تمر بها تونس في الوقت الراهن “صعبة للغاية والانتخابات القادمة ستكون استثنائية في ظل أزمة تتسع، ما يجعل الخليج حذرا مع تونس ولن يظهر أي تدخل حتى لا يفقد علاقاته معها”، وفق قوله.
حالة عدم الاستقرار السياسي في تونس ترسخ الشعور في الخارج بأن البلاد في مأزق. تونس التي خرجت من الربيع العربي برصيد هام من الحريات والتقدير الجماهيري لثورتها التي أسفرت عن نموذج ديمقراطي استثنائي في المنطقة العربية، أصبحت اليوم تطرح عدة مخاوف، بعد أن تلاشت صورتها كنموذج ديمقراطي عقب حل قيس سعيد البرلمان في يوليو 2021 وتعليق الدستور.
يقول الجورشي إن الحديث في مستقبل تونس “هو حديث عن المجهول” ويضيف “ما يحدث في تونس هو مؤشر على كيفية تحويل الديمقراطية إلى حلم مرعب” محمّلا النخبة السياسية برمتها مسؤولية ضياع الفرصة التاريخية لبناء مثال سياسي ناجح على عدة مستويات.
وهذا ما يجعل من دول الخليج “ما عادت تجد في تونس المثال الذي يمكن أن يُستفاد منه ومن تجربته ومن كوادره كذلك، فتبادل الخبرات هو أساس التعاون الثنائي المثمر والناجح”.

وجوه من الماضي


رغم ضبابية المشهد الانتخابي، يتساءل المتابع لما يحدث في تونس عن حظوظ المرشحين الذين أعلنوا حتى الآن نيتهم الترشح في إقناع الناخبين في الداخل.
من بين المرشحين حتى الآن، السجين السياسي عصام الشابي أمين عام الحزب الجمهوري والسجينة عبير موسي زعيمة الحزب الدستوري الحر والكاتب الصافي سعيد والوزير الأسبق المنذر الزنايدي الذي عمل في عهد الرئيس الراحل زين العابدين بن علي وحمل حقائب وزارية مختلفة منها السياحة والتجارة كما كان أمين عام الحزب الحاكم “التجمع الدستوري الديمقراطي” رغم أنه كان يعرف نفسه كتكنوقراطي أكثر منه مسؤولا حزبيا. يضاف إليهم الأمين العام لحزب الاتحاد الشعبي الجمهوري لطفي المرايحي والإعلامي نزار الشعري وزعيمة حزب الجمهورية الثالثة ألفة الحامدي.
الزنايدي الذي أعلن نيته الترشح قد يكون “منافساً حقيقياً لقيس سعيد إذا ما استطاع أن يجمع من حوله الكفاءات الضرورية للعبور إلى مرحلة أكثر توازنا” يقول الجورشي.
لكن لا يمكن الجزم بذلك الآن، فما زال أمام الناخبين شهران آخران قد تكتمل فيهما قائمة المرشحين وتتضح الرؤية أكثر.
اللافت أن أبرز المرشحين يقبع خلف القضبان في قضية ما يعرف بـ “التآمر على الدولة” على غرار المعارض عصام الشابي وزعيمة الدستوري الحر عبير موسي وإن كانت شروط الترشح إلى الانتخابات “مجحفة” وفق وصف الجورشي وتضيق على المرشحين ما يجعل “المناخ السياسي يتطور في الاتجاه العكسي”.

هل وحدت المصالحة الخليجية الموقف من تونس؟

يعتبر الكاتب السياسي الجمعي القاسمي أن الأجندات السياسية في الخليج كان لها تأثير على تونس ورغم أنها أجندات مختلفة إلا أن المصالحة الخليجية خففت من حدة الاختلاف السياسي في البيت الخليجي، وهو ما أثر مباشرة على تعاملها مع تونس “باتجاه البحث عن استقرار تونس والمحافظة على الاستثمارات الخليجية”.ويعتبر القاسمي أن التدخل الخليجي في الانتخابات الرئاسية والتشريعية التونسية في العام 2014 وفي العام 2019 كان واضحاً بسبب الأجندات المتناقضة لدول الخليج حينذاك وحجم الرهانات في تونس كذلك.لكن بعيدًا عن شخوص المرشحين الذين نعرفهم حتى الآن “لم يفرز المناخ الانتخابي بعد شخصية سياسية جامعة في الخارج سواء دوليا أو خليجياً. ومن السابق لأوانه الرهان على مرشح دون آخر”.يُستبعد تزوير الانتخابات في تونس لكن الدفع باتجاه التضييق على المرشحين من حيث شروط الترشح المجحفة قد يستبعد المعتقلين والمنافسين الأكثر شراسة وسيؤثر بشكل مباشر على سير الماكينة الانتخابية وما ستفرزه وهذا في حد ذاته تراجع ديمقراطي.

نسق الاستثمارات الخليجية
في ديسمبر 2024، أعلن وزير الصناعة والثروة المعدنية السعودي بندر إبراهيم الخريف عزم بنك التصدير والاستيراد السعودي منح تونس هبة مالية بمليار دولار لتمويل الاستثمار الخاص. إعلانه جاء خلال اللجنة العليا المشتركة التونسية السعودية الذي اختتم بالكشف عن اتفاقيات في مجالات المياه وحماية البيئة والبحث العلمي الزراعي والتعاون الفني والعلمي في مجال الأرصاد الجوية والمناخ والصناعة والسياحة.
بين تونس والسعودية تاريخ قديم من التعاون والاستثمار وتحتل تونس المرتبة 15 كشريك تجاري للسعودية ويقدر حجم المبادلات التجارية السنوية بنحو 310 ملايين دولار.
وتسعى تونس قبل احتضانها منتدى تونس للاستثمار في يونيو 2024 إلى استقطاب المزيد من رجال الأعمال السعوديين مقدمة مزايا الاستثمار بها وأبرزه أنها بوابة نحو الأسواق الأفريقية والأوروبية
وفي السياق ذاته تعددت زيارات رئيس الحكومة التونسية أحمد الحشاني إلى دول الخليج بهدف استعادة تدفق رأس المال الخليجي على تونس الذي تراجع منذ الثورة مواصلا ما شرعت به سابقته نجلاء بودن.
لم ينجح قيس سعيد في الخروج بتونس من أزمتها الاقتصادية الخانقة رغم استفراده بالحكم منذ 3 سنوات، قبلها كان يعيب على النهضة وشركائها في الحكم طغيانهم السياسي وجشعهم وفشلهم في النهوض بالاقتصاد. لكن بعد استبعاد خصومه وتعيين رئيسة حكومة جديدة (نجلاء بودن ثم أحمد الحشاني) فشل سعيد في الدفع بعجلة الاقتصاد سواء وفي استقطاب الاستثمارات وفي توفير مواد غذائية أساسية.
يقول البعض إن سعيد ورث تركة سلبية عن النظام السابق اقتصاديا وسياسيا، وهذا ما يجعله غير قادر على إصلاح كل شيء فيما يعيب عليه آخرون انفراده بالحكم وبعدم الاستعانة بالكفاءات الجيدة للخروج من الأزمة.
قبل الثورة حافظ الخليج على علاقة ثابتة مع النظام الحاكم في تونس رغم تأرجحها من عاصمة خليجية إلى أخرى لكن بقي عالقا في الذاكرة التونسية أن من منح الحماية للرئيس الأسبق زين العابدين بن علي بعد أن رفضته عدة عواصم أوروبية عقب عزله كانت السعودية التي مكث بها إلى حين وفاته في العام 2019.
رمزية هذه العلاقة تؤكد أن ما يربط تونس بالخليج ليست فقط الاستثمارات ولا التعاون الفني العريق بل هو تقليد راسخ في مد جسور التواصل بين الخليج وتونس رغم الهزات السياسية والتنافر الذي قد يحدث بين عاصمة وأخرى لكن الملاحظ أنه فتور عرضي سرعان ما يجد حاضنة جديدة ليتجاوز الخلافات.

منشورات أخرى للكاتب