المجالس التمثيلية في دول الخليج

يأخذ الحديث عن المجالس التمثيلية (التشريعية والمحلية والبلدية) أهمية خاصة بسبب التغيرات الجيوسياسية والاقتصادية العالمية وأثرها على المشهد السياسي في الخليج، وأعني بذلك على سبيل المثال لا الحصر: عودة الاهتمام البريطاني وتأثيره إلى المنطقة، ومحاولات روسيا لفرض وجودها في المسرح العالمي للأحداث وإشراك أو اشتراك دول المنطقة في هذه المحاولات، وحركات الكر والفر التي تمارسها كل من الصين والهند وتركيا.

كما يستمد الحديث عن هذه المجالس أهميته من التوصيات الآخذة في التزايد من المنظمات والوكالات الدولية بشأن الإصلاحات الاقتصادية التي يفترض بدول الخليج الأخذ بها أو التفكير في تنفيذها جديا، مما قد يفرز تغيرات على طبيعة العقد الاجتماعي السياسي بين الحكام والمحكومين في منطقة الخليج، ومدى مشاركة السكان من مواطنين وغيرهم في صناعة السياسات العامة، وتأطير المساءلة والمحاسبة.

كذلك، فمما يجعل الأمر جديرًا بالنظر هو الصلابة الظاهرة للأنظمة السياسية في المنطقة وقدرتها على تحمل الأنواء التي عصفت بها خلال العقود المنصرمة، وفي الأغلب يعود ذلك إلى الوفرة المالية واحتياطياتها النقدية التي هي آخذة في الانحسار الآن بدرجات متفاوتة في ما بين دول المنطقة، كما يعود إلى التكريس الأيدولوجي لمنظور الولاء كمرادف لمفهوم المواطنة عبر الوسائل الإعلامية وطبيعة التركيبة الاجتماعية من حيث علاقة المركز بالأطراف، والفرد بالجماعة. سمح ذلك كله بنشوء نوع من الاعتمادية أو التكاملية ما بين النظم الحاكمة والهياكل القبلية أو المجتمعية السائدة التي تم توظيفها لتدجين المجتمعات وتكريس ممارسات التخوين وتكميم الرأي الآخر، كما يظهر ذلك جليا من “مؤشر المشاركة السياسية في دول  مجلس التعاون الخليجي ” الصادر عن البيت الخليجي للدراسات والنشر، ومما يؤكد عليه المتابعون والمهتمون من باحثين أكاديميين ومنظمات دولية. 

إلا أنه مع التحول التدريجي بعيدا عن دولة الرفاه، واعتماد آليات مركزية لتقديم الخدمات التي جعلت الأفراد أقل اعتمادا أو التصاقا بالهياكل المجتمعية الكبرى (القبائل والأسر والمجموعات الثقافية) التي تنتمي إليها، وبروز توجهات نحو فرض مساهمات مالية، وإن كانت رمزية، على المنتفعين من الخدمات الأساسية، يفرض واقعا جديدا على الحكومات الخليجية، مما يفرض عليها أن تفكر في توسيع قاعدة المشاركة العامة بدل تقليصها، والدفع بتقوية الدور التمثيلي والرقابي للمجالس المنتخبة في دول المنطقة.

وفي هذا الخضم، يحمل العنوان مفارقة من حيث دلالة مصطلح المجالس التمثيلية، فمن جهة ما الذي يميز مفهوم أو مصطلح المجالس التمثيلية (التي تضم ،إلى جانب البرلمانات، مجالس الحكم المحلي أو المجالس البلدية) عن مصطلح المجالس التشريعية؟ ومن جهة أخرى إلى أي مدى يمكن القول بأن هذه المجالس تمثيلية؟ 

فمن حيث ما يميز المجالس التمثيلية عن المجالس التشريعية، فجدير بالذكر أن الاتحاد البرلماني الدولي نحا خلال العقدين الماضيين إلى تشجيع استخدام مصطلح المجالس التمثيلية لعوامل عدة، من أبرزها عاملان. العامل الأول هو أن العنصرين الرئيسين في العملية الديموقراطية واللذين تجسدهما المجالس التشريعية هما تمثيل الشعب والتداول (أو التشاور) فيما بينهم بشأن إدارة شؤونهم العامة، إلا أن عنصر التمثيل أضحى متناقصا مع تزايد العزوف عن المشاركة في الانتخابات أو تقييد الحريات العامة، علاوة على تزايد نفوذ السلطة التنفيذية على السلطة التشريعية، من حيث الممارسة الواقعية، وتأثيرها على مجريات الحياة اليومية.  وبالتالي فإن إطلاق هذا الاصطلاح على المجالس سيجعلها توليه بعدا أكبر في أداء مهامها وأدوارها التمثيلية ويقيس مدى وعي أعضائها بهذا البعد الحيوي من العملية البرلمانية.

أما العامل الثاني فهو التطور المستمر في أدوار البرلمانات، التي ظلت لفترة تراوح من حيث التركيز والاهتمام ما بين التمثيل والتشريع والرقابة، حيث ظهر ازدياد الدور الرقابي بشكل واضح مؤخرا على نحو يفوق العمل التشريعي لهذه المجالس، الذي أصبح محدودا أو إجرائيا، بسبب استحواذ السلطة التنفيذية على حوالي ثلاثة أرباع مشروعات القوانين (كمتوسط عالمي) التي تقدم إلى البرلمانات بالإضافة إلى الموازنة السنوية، والتي في مجملها أدوات تنفيذية في الحقيقة. ومن هنا كان تركيز الاتحاد البرلماني الدولي على تكريس البعد التمثيلي من العمل البرلماني لما يضفيه من “شرعية” على هذه المجالس ويتيح لها ممارسة الدور الرقابي بقوة، وبالتالي تحقيق أهداف قيام هذه المجالس، ناهيك عن الدور الأهم ألا وهو نقل تطلعات الشعب وتحويلها إلى سياسات وطنية. سنعود لاحقا إلى مناقشة هذه الشرعية. 

من حيث الواقع المعاش، فتتفاوت المجالس التمثيلية في دول الخليج من حيث قدرتها على ممارسة العمل البرلماني، خاصة الدور الرقابي. ويظهر المؤشر أن دولة الكويت في المرتبة الأولى من بين هذه الدولة (535 نقطة من 1000 نقطة) تلتها مملكة البحرين (451 نقطة)، وأتت بعدها سلطنة عُمان (440 نقطة)، ثم دولة قطر (405 نقاط)، ثم دولة الإمارات العربية المتحدة (316 نقطة)، وأخيرا المملكة العربية السعودية (192 نقطة.)

وفيما عدا دولة الكويت فإن جميع دول الخليج حققت مؤشرات دون نصف قيمة المؤشر، ويعزى الانخفاض الملحوظ في قيمة المؤشر المحققة لهذه الدول إلى المستوى المنخفض للمشاركة السياسية ومحدودية قدرة الشعب على المشاركة والمساهمة في صنع القرار وصناعة السياسات العامة في دولهم، وغير ها من مقاييس الحياة الدستورية، والانتخابات العامة، والتنظيمات السياسية، وحاكمية المؤسسات المنتخبة من حيث الصلاحيات، الفصل بين السلطات وصلاحيات حل هذه المؤسسات، ويرتبط ذلك في كثير منه بالنظم الانتخابية وترسيم الدوائر الانتخابية من جهة، وارتكاز معظم المرشحين والناخبين في اختيار ممثليهم على أبعاد قبلية أو ثقافية. 

ويقودني هذا إلى الحديث عن الشق الثاني من المفارقة في مصطلح المجالس التمثيلية التي أشرت إليها أعلاه، من حيث ان الانتخابات لم تعد تعبر عن رغبة الشعب ولكن فئة محدودة جدا التي ترى في المشاركة في الانتخابات حظوة أو فرصة لتعزيز وجود القبيلة، أو وسيلة لكسب مبلغ من المال، ويقابل هذه المشاركة المحدودة أمران: الأول: عزوف من قبل بعض الفئات المتعلمة أو الناشطة سياسيا كتعبير عن الامتعاض أو الاعتراض عن الاختلالات التي تشوب العملية الانتخابية، الانتخابات الجزئية أو الترتيبات المسبقة التي تقوم بها بعض التكوينات الاجتماعية (ضمن القبيلة الواحدة،  أو حسب اتفاق ضمن ائتلاف قبلي، أو في إطار مجموعات عرقية أو طائفية) لضمان حضورها وبقوة في هذه المجالس. 

ومما يزيد الطين بلة أو محدودية تمثيل هذه المجالس ما يظهره المؤشر من اعتماد بعض الحكومات الخليجية لسياسات تمييزية فيما يتعلق وضمان حق المشاركة السياسية في انتخابات المجالس التشريعية ومجالس الشورى والمجالس البلدية لمواطنيها. وترتكز هذه السياسات على ضوابط وموانع تحددها قوانين الجنسية ومباشرة الحقوق السياسية وتنظيم الانتخابات في هذه البلدان.

عودا إلى “الشرعية”، فعلى الحكومات الخليجية أن توسع القاعدة الشعبية للمشاركة السياسية وإدارة الشؤون العامة، ويمكنها في هذا الصدد أن تعيد النظر في فهمها لمصطلح “الشرعية” التي أشرت إليها آنفا، فبدل أن يستخدم وفق الأدبيات العلمية المتعارف عليها لوضع سياسات تمييزية صد بعض فئات المواطنين أو المقيمين، أو لتصنيف المؤسسات والأنظمة، يمكنها أن تطلقه على مكونات العمل البرلماني وتستخدمه لتصنيف السياسات والمشاريع حسب اتساقها مع تطلعات الشعب ورغباته، وكذلك إعادة تأطير المساءلة والمحاسبة تباعا، بما يخدم متطلبات المرحلة القادمة.

وإذا بدا أمر توسعة الدور التمثيلي والرقابي للمجالس التمثيلية الوطنية صعبا أو مقلقا سياسيا من منظور الحفاظ على مركزية السلطة وهيبة الدولة، فإن اللامركزية تقدم بدائل مناسبة، سواء عبر مجالس محلية أم مجالس بلدية.

كلا النظامين يقدمان بدرجات متفاوتة خيارات عملية (غير سياسية ولا مؤدلجة) لتمكين السكان أو الأهالي من المشاركة المباشرة في تخطيط الخدمات التي تمس حيواتهم مباشرة وتنظيمها وتجويدها، وتفسير وتطبيق السياسات الوطنية الاقتصادية والاجتماعية بما يتوافق مع ظروف محتمعاتهم المحلية، وفي نفس الوقت الحفاظ على السلطة المركزية للدولة. 

جدير بالذكر أن اللامركزية ونظمها تعتبر أحد تجسدات الديموقراطية التشاركية (participative democracy) بخلاف البرلمانات الوطنية التي تعتبر أحد تجسدات الديموقراطية التمثيلية (representative democracy)، ولذا فإن اعتماد اللامركزية وتقوية المجالس التمثيلية سيعزز من المشاركة الديموقراطية في الدول الخليجية على نحو يحترم خصوصيتها ويعضد صلابة نظمها في مواجهة الأنواء المقبلة.

منشورات أخرى للكاتب