العنف ضد المرأة: عبارة واحدة بدلالات متعددة
أكثر شيء يستوقف المرء في المشاركين والمشاركات في البرامج التدريبية التي تقدم عن المرأة وحقوقها ومنظور النوع الاجتماعي كيف أن الغالبية العظمى منهم يتعاملون مع المرأة من منظور تبعيتها للرجل، فهي إما زوجة أو أخت أو ابنة أو أم أو زميلة أو موظفة أو معلمة أو مرشحة منافسة، وغيرها من الأدوار، ويغفلون ماهيتها الحقيقية. هم غير مدركين أنها قبل ذلك كله فهي إنسان مثل الرجل، خلقت من ذات الروح والماهية، وإنما تختلف عنه في الوظيفة البيولوجية، وما نحاول في هذه البرامج التدريبية، آنفة الذكر، هو أن نذكر الجميع بهذه الحقيقة البسيطة والعميقة في آن واحد، ونتعاون في كيف لا تصبح الوظيفة البيولوجية عبئا على المرأة أو معيقا لها من المساهمة في بناء مجتمعها والقيام بأدوارها الاجتماعية والاقتصادية.
إن الحديث عن العنف لصيق بالحديث عن نظرة الناس (من رجال ونساء) إلى المرأة. فكلما كانت النظرة منطلقة من التبعية ونافية لإنسانية المرأة، أضحى تقبل العنف الموجه ضد المرأة، بغض النظر عن تعريفه وأنواعه التي هي محل جدل ثقافي وتفاوت مناطقي شاسع، أمرًا شائعًا ومستساغًا. ومما يزيد الطين بلة أن البنية التحتية المخصصة لرصد ممارسات العنف ضد المرأة أو العنف المبني على النوع في كثير من دول الخليج غير كافية البتة، وفي تكاد تكون منعدمة في بعضها، بما في ذلك آليات الاستجابة والحماية والدعم النفسي والمعنوي. ويكاد يكون السبب الرئيس لعدم كفاية البنية التحتية هو إنكار وجود هذه الظواهر الاجتماعية أو تصنيفها من منظور كمي صرف بدل التعامل معها من منظور حقوقي أو أنثروبولوجي.
وفي ذات السياق، تورد بعض الدراسات والمسوحات أن هناك تقبلا بقدر عال في المجتمع في الخليج (نساء ورجالا) لممارسات العنف ضد المرأة، وذلك لسببين. الأول أن الكثيرين يرى أن المرأة تقع تحت قوامة الرجل وبالتالي له الحق في تقويمها، وفي بعض الحالات كانت النساء تتقبل أن يعنفها الرجل إذا لم تقم على خدمته كما يجب. أما السبب الثاني فهو دلالي، فمعنى كلمة (العنف) المتعارف عليه اجتماعيًا هو العنف الجسدي الذي عادة يوصف بأنه مبالغ فيه دون تحديد معايير قياسية لضبط ذلك، ولا يأخذ المجتمع الخليجي عموما بالعنف النفسي أو اللفظي على سبيل المثال. ومما يزيد الأمر غرابة ما يورده البعض على سبيل تبرير العنف ضد المرأة من أن هذا مرتبط بالطبيعة البيولوجية للرجل.
وبدون التقليل من أهمية التوعية وتنشئة الجيل تنشئة صحيحة ليدرك هذه المعاني والدلالات، وليرفع هذه الأوزار عن المرأة والإرث الذي لا أساس له من الدين أو المنطق أو الأخلاق، فإنما هي ثقافة نشأت ثم تجذرت بسبب ثقافة أخرى (بحسب التعريف الاجتماعي للثقافة)، تبدو الحاجة ملحة إلى أمرين ضروريين في مجتمعاتنا الخليجية. الأول: إصلاح الأطر القانونية والقضائية، والثاني: تطوير بنية تحتية للأمان الاجتماعي والحماية من العنف الأسري.
في ما يتعلق بالأمر الأول (إصلاح الأطر القانونية والقضائية) ينبغي تضمين نصوص قانونية صريحة تجرم العنف الأسري عموما وضد المرأة خصوصا، على أن يرافق ذلك محاكم أسرية خاصة تنظر في هذه القضايا، وأن يكون هناك قضاة وقاضيات قد تلقوا تدريبًا إضافيًا فيما يتعلق بالأبعاد النفسية للعنف.
ولعل من أبرز التعديلات التي يمكن أن تطرأ ضمن هذا الإصلاح تغيير القاعدة المتعلقة بإثبات الضرر كما عملت لبنان وبعض الدول الغربية، حيث انتفى عبء الإثبات على الطرف المتضرر (أي المرأة) واكتفي بتقديم الشكوى لتحريك الدعوى، وعلى الطرف المتهم بإيقاع الضرر أن يثبت العكس، أي أن ينفي عن نفسه ارتكاب الجرم.
إن الآلية المتبعة في كثير من النظم القانونية والقضائية في العالم مثيلة بالقاعدة الشرعية (البينة على من ادعى واليمين على من أنكر)، أي أن عبء الإثبات يقع على الضحية، بمعنى آخر إثبات أن المعتدي (زوجا كان أو أخا أو غيرهما) هو الذي ضرب الضحية بشكل قطعي وأن ذلك الاعتداء الجسدي أوقع أضرارا جسديا واضحة، ما يعرفان بمعياري القطعية والسببية. الإشكالية الحقيقية أن المحكمة لا تأخذ بالشك في هذا الأمر، على الأقل في الحالات التي اطلعت عليها في محاكم الدول الخليجية، أي أن هذين المعيارين (القطعية والسببية) يجب أن يكونا واضحين، وعادة ما تلجأ المحاكم (حتى مع وجود شهود) إلى الطبيب الشرعي أو طبيب مختص لتوضيح ذلك، فإذا لم يستطع الطبيب أن يقطع بهما؛ أي أن يقطع بأن الضرر الواقع على الضحية كان فعلا بسبب فعل المعتدي المتهم، بطلت الدعوى، وقد يقوم المعتدي برفع دعوى مقابلة لطلب التعويض عن الضرر النفسي أو التشهير.
إن تبعات بطلان الدعوى لا تتوقف عند ما ذكر أعلاه، بل تنال المرأة المعنَّفة مجددًا، إذ بصدور بطلان الدعوى وعدم وجود شبكات أمان اجتماعي وحماية كافية من العنف، تعود المرأة من جديد إلى منزلها لتتلقى جرعات مضاعفة من الاعتداء والعنف، ولكن هذه المرة بدون تعاطف؛ كونها في منظور المجتمع قد لوثت اسم العائلة. إن الاستمرار في هذه الآلية، والضغط المجتمعي الذي يقع على المرأة لتحمل هذه الاعتداءات إما لأجل اسم العائلة أو لأجل الأطفال أو خوفا من الفضيحة أو تفاديا لجرعات مضاعفة من الإساءة والضرب، جعل الكثير من النساء يتوجهن إلى السكوت، ومن بعدها الاكتئاب أو أمراض نفسية أخرى قد تؤثر على أجيال صاعدة.
وحيث أن مثل هذه الحالات من الإساءة أو الاعتداء عادة ما تحدث في المنزل أو أماكن مغلقة دون توقع وبدون شهود، علاوة عن أن معيار القطعية قد يكون من الصعب إثباته، تسقط الكثير من هذه الدعاوى أو تتحول في حالة طلب التطليق إلى تفريق، وتخسر الزوجة حقوقها أيضا. ولمحاولة تصحيح سير العدالة، تلجأ بعض المحاكم إلى وسائل أخرى لتبين صدق الدعوى، لكن هذه الوسائل تعتمد على وجود بنية تحتية للأمان الاجتماعي والحماية من العنف الأسري الذي قد يشمل النساء والرجال والأطفال، وهي غير متاحة بشكل كافٍ في كثير من الدول، بما في ذلك دول الخليج.
كل هذا دفع المراقبين والمحللين إلى التفكير بطريقة مبتكرة وهي تحويل عبء الإثبات من إثبات تقريري يقدم من قبل المتضرر إلى إثبات بالنفي يقدم من قبل المتهم بإيقاع الضرر، لاسيما إذا ما أخذنا بعين الاعتبار الخصوصية التي أشرنا إليها آنفا في مثل هذه القضايا.
في ما يتعلق بالأمر الثاني (تطوير بنية تحتية للأمان الاجتماعي والحماية من العنف الأسري) فهذه البنى لا تزال محدودة في دول الخليج مع تفاوت من دولة إلى أخرى، وذلك إما بسبب نكران وجود مثل هذه الممارسات، أو الاعتماد على نظم الأمان والحماية التقليدية التي تقدمها عادة الأسر الممتدة، إلا أن هذه الأسر الممتدة تشكل بحد ذاتها في هذه الحالة عنصر ضغط يفاقم حالة العنف الأسري، مما يستدعي تدخل الدولة في شكل بنى مؤسسية للأمان الاجتماعي وحماية من العنف الأسري، تشمل على سبيل المثال لا الحصر ملاجئ آمنة مع مختصين في التأهيل النفسي والتحليل الاجتماعي، ومراقبين ومحققين يتابعون تحركات وتصرفات المتهمين، بناء على أسس علمية، وآليات وطنية لإدماج المعنِّفين والمعنَّفين مرة أخرى في المجتمع وبشكل سلس، لاستدامة التماسك المجتمعي وتكوين بيئة آمنة للتنمية الإنسانية.