مسلسل “أم هارون”: بين تهمة التطبيع والدراما الملتزمة

لم يكن المسلسل الخليجي “أم هارون” سابقة درامية على المستوى العربي وإن كان يعتبر تجربة جريئة وجديدة على المستوى الخليجي. للمرة الأولى يتطرق عمل درامي خليجي إلى الأقليات الدينية في الخليج وبخاصة الأقلية اليهودية التي ترتبط في الذهن العربي بعداوة تاريخية مع إسرائيل، على الرغم من أنه لا يمكن البتة، وبأي حال من الأحوال، إنكار وجود اليهود في دول الخليج وإن كانوا لا يمثلون أحد المكونات المجتمعية الرئيسية فيها.

ويرجع الصمت أو التجاهل التاريخي لوجود هذه المكون الديني، أو على الأقل مروره بمنطقة الخليج، إلى عدة أسباب أهمها الصراع المتواصل على الأراضي الفلسطينية. هذا التجاهل الذي اختارته الدراما الخليجية يأتي على خلاف الدراما المصرية التي لطالما تطرقت إلى اليهود في أعمال كثيرة بغضّ النظر عن سعيها في الغالب إلى ترسيخ صورة نمطية لليهودي باعتباره شخصية بخيلة، خبيثة ومخادعة وهي بالمناسبة الصورة ذاتها التي صوّر فيها الأخوان البحرينيان محمد وعلي شمس يهود الخليج.

لم يحد مسلسل “أم هارون” عن السياق الفني والثقافي  العربي في تصويره لليهودي بل إنه بدا واضحًا للعيان أن الكاتبين، وعلى الرغم من جرأتهما في الطرح، بديا وجلين من ردود الفعل التي يمكن أن يُقابل بها العمل لحساسيته لدى المشاهد الخليجي بدرجة أولى، ولدى السلطات بدرجة ثانية، وهو ما حدث بالفعل إذ رفضت دولة الكويت بث المسلسل. 

ولم يمنع الوجل، ولا حتى الحذر في طرح موضوع وجود الطائفة اليهودية في منطقة الخليج، دون توجيه الاتهامات للمسلسل بالتطبيع مع اسرائيل، العدو التاريخي لكل العرب.

هل هو تطبيع ثقافي؟ 

لم توفّر وسائل الإعلام العربية جهدًا في توجيه تهمة التطبيع لمسلسل “أم هارون” والهجوم عليه، واعتبرت أن القائمين على المسلسل يسعون إلى التطبيع الثقافي مع اسرائيل وذلك  على الرغم من الحيطة التي اتخذها المؤلفان في طرحهما لمسألة التعايش بين الديانات السماوية ومحاولتهما، بحسب رأيي، الهروب من الانتقادات والإتهامات بالتطبيع من خلال تصوير اليهود بأنهم الطرف الشرير في هذه القصة قبالة المسلمين الطرف الطيب الذي يتميز برجاحة العقل. حتى الشخصيات “الطيبة” في العمل على غرار أم هارون ومسعودة زوجة الحاخام واللتان كانتا تنتميان الى الطائفة اليهودية أعلنتا إسلامهما. كما لم تنفع الاستعانة بالمخرج المصري محمد العدل – الذي أخرج مسلسل “حارة اليهود” المصري الذي ناقش العلاقات بين المسلمين واليهود وترحيل اليهود سنة 1956م – للنجاة من هذه التّهمة.

فهل يقتضي إبراء الذمة والهروب من تهمة التطبيع، تجاهل بعض الحقب التاريخية ومحاولة إلغائها؟ 

للأمانة وعلى الرغم من قلة الدّراسات التي تناولت تاريخ الطائفة اليهودية في منطقة الخليج العربي فإن هذه الدراسات لم تنف أن اليهود مثّلوا في فترة من الفترات جزءًا من الحياة الاجتماعية والاقتصادية وحتى الثقافية للمنطقة. ويعتبر كتاب “اليهود في الخليج” للكاتب يوسف علي المطيري من أبرز الإصدارات في هذا المجال حيث أكّد وجود الأقلية اليهودية في الكويت والبحرين بشكل رئيس إلى جانب وجودهم في الأحساء والبحرين والساحل العماني والشارقة ودبي وقطر. كما أرجع الباحث تاريخ وجود الأقلية اليهودية في الخليج إلى هجرة بعض أتباع هذه الديانة من بلاد فارس والهند والعراق لظروف عدّة، إلاّ أنّه لا يستبعد وجود أقلّية يهودية استقرّت في بعض مناطق الخليج العربي منذ القدم.

فهل يقتضي التأريخ لوجود هذه الطائفة في المنطقة التطبيع معها بالضرورة؟ من المؤكد أنّه من حق يهود دول الخليج كما غيرهم من الأقليات إنصافهم تاريخيا وعدم التنكر لوجودهم أو حتى مرورهم بالمنطقة. فتاريخ الشعوب مفخرة وعبرة مهما كانت الأحداث التي أثّثته.

من الملفت أن رفض تناول القضايا والموضوعات الحسّاسة في عالمنا العربي يتأجج كلما كان مرتبطًا بالمحمولات السمعية والبصرية وعلى رأسهما التلفزيون والسينما باعتبارهما يتوجهان إلى شرائح مختلفة وكثيرة من المجتمع، ولذلك كلما كان الطرح تلفزيونيا أو سينمائيا كانت ردود الفعل أكبر وأشدّ عنفا.  وهو ما يفسّر موجة الإتهامات التي سبقت ورافقت بثّ مسلسل “أم هارون”. 

وعلى العكس من ذلك، لم تلق الدراسات والملفّات التي تناولت تاريخ الأقلية اليهودية في المنطقة لا ردود فعل عنيفة ولا اتهامات مماثلة بالتطبيع، بل غالبا ما كانت محلّ ترحيب وتبجيل باعتبارها أعمالا تـأريخية تثري المكتبات وتؤكّد الثراء التاريخي للمنطقة.

ويذهب البعض إلى أن الأعمال الدرامية ماهي إلا واقع جديد يرسم كاتب السيناريو مختلف تفاصيله وفق أهداف محددة ومبطّنة، يعمل على إثرها المخرج على توطينها في البيئة  المستهدفة، ولذلك اعتبر الكثيرون أنّ الهدف الرئيسي من مسلسل “أم هارون” هو تعويد المشاهد الخليجي على تقبّل صورة اليهودي ضمن بيئته بكل تفاصيلها وإن كانت البيئة التراثية، فيتبنّى عقله الباطن بل ويتقبّل وجود اليهودي، وإن كان بصورة بشعة تستجيب إلى متطلبات العداء التاريخي لهذه الطائفة. 

هذا التعود أو هذه الصورة الذهنية من شأنها أن تخلق عنده تقبّلا واستعدادا للتعايش، باللعب على وتر ضرورة تقبّل الآخر ونبذ العصبيات ونبذ العنصرية والتطرّف الديني، وهي خطوة مهمة في طريق التطبيع. ويرجع أصحاب هذا الرأي تنفيذ هذا العمل إلى اعتباره محطة من محطات صفقة القرن التي احتضنت البحرين أولى ورشاتها العام الماضي تحت عنوان “السلام من أجل الإزدهار”.

الدراما والوفاء للواقع 

من جانب آخر، دافع الكثيرون ومن بينهم العاملون في هذا المسلسل، عن فكرة أحقّية يهود الخليج في أن يتمّ توثيق وجودهم من خلال الأعمال الدرامية، كما باقي الأقلّيات، وإبراز دورهم ووجودهم في هذه المجتمعات وتحييدهم عن الصراع العربي الإسرائيلي .دفاع هؤلاء يستجيب إلى الآراء التي تعتبر أن الدّور الرئيسي للدراما يكمن في تصويرها للواقع ونقلها الأحداث الآنية منها والتاريخية وفق نظرة فنّية، بعيدًا عن التسييس. ومن هذا المنطلق يكون المشاهد على درجة من الذكاء تخوّله استخراج العبر وتكوين وجهة نظره الخاصة دون إملاءات خارجيّة. وسواء كان العمل الدرامي يتطرق إلى اليهود أو غيرهم من الأقليات الدينية أو رصد لظاهرة ما، فذلك يندرج ضمن خانة نقل الواقع كما هو دون حساسيات.

وللإشارة فإنه يعاب على الدراما الخليجية، عمومًا، سلوكها الجانب الآمن في أغلب الأحيان، ذلك أنها نادرًا ما تتطرّق إلى قضايا جدلية من شأنها أن تثير البلبلة حول العمل ودائمًا ما يراعي القائمون على الدراما الخليجية الخطوط الحمراء أدبيًا وأخلاقيًا وحتى عقائديًا. ولذلك، يعتبر التطرق الى موضوع التعايش بين الأديان في عمل درامي خليجي خطوة جريئة غير مسبوقة قد تشكّل تحفيزا لكتاب السيناريو الخليجيين ليكونوا أكثر جرأة في التطرّق الى المحاذير التي تفرضها المجتمعات دونًا عن القوانين.

منشورات أخرى للكاتب