الإخوان المسلمين: ورقة الإمارات الرابحة

يُشّكل عداءُ تحالف (الإمارات- السعودية- البحرين- مصر) لجماعة الإخوان المسلمين أحد أبرز ملامح حُقبة ما بعد الربيع العربي 2010. وشهدت دولة الإمارات العربية المتحدة أحد حلقات الصراع الداخلية مع جماعة الإخوان لتصفية أي نفوذ مُحتمل لهم في الداخل الإماراتي، في ظل تقلص دور الجماعة وتآكل شعبيتها في عديد البلدان العربية.

الصدام بين حُكام الإمارات والجماعة ليس وليد هذه اللحظة أو الصدفة، هو في صورة من صوره، صراعٌ طبيعيٌ بين جماعتي “سُلطة” تتنازعان السيطرة والهيمنة في أكثر من بلدٍ عربي. وعلى أي حال، لا يبدو الصدام الإماراتي الإخواني (الآن) إلا باعتباره حلقةً جديدةً من تاريخ طويل يجمَعُهُمَا. تاريخ هذه العلاقة بين أبوظبي والإخوان لم يكن تصادمياً دائماً، أما ما يحدد وضعية(التقارب) أو (الصدام) فهي عوامل عدة: الظرف السياسي، الوضع الإقليمي والإيديولوجيا السائدة.

تولّي الدول في نسخها “الكلاسيكية”، ومنها الإمارات، اهتمامًابالغًا بتواجد تهديد وخطر “خارجي” دائم وماثل أمام مواطنيها. تقترب سياسات هذه الدول من مفاهيم كارل شميت (11 يوليو 1888 – 7 أبريل 1985) الفيلسوف الذي يعتبر تعريف “العدو” بأنهوظيفة السياسة بالدرجة الأولى. فعليًا؛ تموضعت جماعة الإخوان المسلمين باعتبارها التشكيل الأفضل ليكون “العدو” الداخلي والخارجي للإمارات، تنظيم صلب وشمولي وثابت ومتماسك. الأهم من ذلك، تُشبه بنية هذا التنظيم المركزية طبيعة نظام الحكم في الإمارات، ولهذا، يمكن توقع خطواته. وبقدر ما يتم تقديم هذا التنظيم – في نسختيه المحلية والدولية – باعتباره خطرًا يُهدد النظام كان ذلك بالنتيجة أحد أهم عوامل إستقرار وتماسك وإختبار قوة الدولة في الإمارات.

حلفاء مرحليين

شهدت حقبة الستينات والسبعينات تقاربًا بين الجماعة وحُكام الإمارات لمواجهة المد القومي العربي، ومحاربة الأفكار الشيوعية. تمتعت الجماعة بدعم قوي حيث ساهم الشيخ راشد آل مكتوم – حاكم دبي آنذاك  – في إنشاء مقر جماعة الإخوان المسلمين تحت مسمى “جمعية الإصلاح والتوجيه الاجتماعي” في دبي ورأس الخيمة والفجيرة، كما سمح الشيخ زايد آل نهيان حاكم أبو ظبي في إنشاء فرع للجماعة داخل الإمارة، وفي إمارة عجمان أسست الجماعة مؤسسة تابعة لها بإسم جديد وهو “جمعية الإرشاد”.

وبرزت أفكار الجماعة سريعًا وخصوصًا في رأس الخيمة حيث أنضم لها كوادر مُعتبرة ووازنة من “القواسم” الأسرة الحاكمة للإمارة، وتعزز دور قيادي جمعية الإصلاح مثل الشيخ سلطان بن كايد القاسمي (ابن عم حاكم إمارة رأس الخيمة)، والشيخ سعيد عبد الله سلمان، ومحمد عبد الرحمن آل بكر الذين شاركوا في تشكيل أول حكومة للإمارات العربية المتحدة 1971، كما وسيطروا على وزارات العدل والتعليم والأوقاف ولجنة وضع المناهج التعليمية والإتحادات الطلابية في الجامعات.

وأطلقت الجماعة مجلة الإصلاح أواخر السبعينات حتى تُكمل مشروعها الثقافي المتمحور حول مهاجمة الشيوعيين والقوميين ونشر مفاهيم الطاعة ورفض الثورة وتقديم العمل الإصلاحي والتسليم لبيعة الحاكم. بالإضافة إلى نشر عدة أفكار دينية تقليدية مثل وجوب عمل الخير وحماية الشباب من الفتن والبدع “الموسيقى والنساء وشرب الخمور… إلخ”، وضرورة العمل الدعوي لمنهج الإسلام القويم -الذي يتوافق مع منهج الجماعة بالطبع-.

ومع إنقضاء حقبة السبعينات وإنحسار المد القومي، حدوث تغييرات كبيرة في الاقليم، أبرزها: اتفاقية السلام المصرية/ الإسرائيلية، تحول دفة التحالفات الاقليمية لواشنطن بدلًا من موسكو، الثورة الإيرانية 1979 والتي جعلت من الإسلام السياسي خطراً محدقًا بالدول الخليجية. ورغم ذلك كله، تم الإبقاء على دور الاخوان المسلمين فاعلًا كممثل سياسي سُني يُمكن إستغلاله لمحاربة النفوذ الشيعي في منطقة الخليج.

وفي بداية التسعينات مع تفكك الإتحاد السوفيتي وإحتواء خطر الثورة الإسلامية في إيران بعد حرب طاحنة مع العراق، بدأت الجماعة بالدخول في حالة من الموت البطيء، وبدأ حُكام الإمارات في إعادة النظر في مدى الحاجة لوجود منظمات دعوية ذات طابع سياسي في “موقع الصديق”، وما إذا كان من الأفضل البدء في خلق “عدو” يمكن إعتباره يشكل تهديدًا لنفوذ الدولة، حيث الأساس أن طبيعة الحكم في بلدان الخليج عامة ودولة الإمارات -موضع البحث- تتعارض بشكل كُلي مع طبيعة المشروع الإخواني للحُكم.

العداء المُفيد

وكما شكلت جماعة الاخوان المسملين حليفاً مميزًا للإمارات في زمن ماضٍ، بدت تتشكل كعدو نموذجي الآن. مؤسسات الجماعة وأفرادها في الإمارات كتابٌ مفتوح، شخصيات معروفة، تكتيكات نمطية، تحت سيطرة الأجهزة الأمنية وعلى علاقات وثيقة بحُكام الإمارات، فلا يشكل إحتواء الجماعة وقولبتها كعدو عملية صعبة أو مناورة خطرة على الدولة الإتحادية.

بعد هجمات 11 أيلول/سبتمبر 2001، قامت الحكومة الإتحادية بالتخلص من كوادر جماعة الإصلاح عبر سجن البعض ونقل عدد كبير منهم إلى خارج الوزارات الهامة. شددت الدولة من آليات مراقبة الخطاب الديني، وعملت على توحيد خطب الجمعة لسحب العصا الفكرية من يد الجماعة مع السماح لأفرع الجماعة في الاستمرار كجمعيات اجتماعية لتحفيظ القرآن وتقديم بعض المحاضرات والمناقشات الدينية.

في ذلك التوقيت أيضاً، بدأت السلطات الإماراتية حملةً ممُنهجة في حشد الرأي العام الإماراتي ضد التصورات العامة للجماعة التي أصبحت تتعارض مع هيكلية الدولة والمؤسسات المنبثقة منها، فجماعة الإخوان المسلمين تعد نفسها عابرة للحدود، ويلتزم أعضائها ببيعة خارج حدود الدولة قد تكون لمرشدٍ في مصر أو اليمن أو تركيا أو تونس. ويعد هذا تهديدًا مباشرًا للبيعة الداخلية غير المشروطة التي يقدمها رعايا النظام لحكامهم.

ينص دستور الإمارات الذي تم إقراره 1996 على “مركزية” لا تفصل بين السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية، أي خلق سيطرة كاملة للمجلس الإتحادي على مفاصل الدولة. وهو ما يعني أن سياسة الاخوان المسلمين في التغلل في الهيئات والوزارات والسيطرة على المجال الثقافي والفكري يجعلها في تحدٍ مباشرٍ مع الدولة. خصوصًا أن جماعة الاخوان تقدم نفسها كمشروع بديل أكثر ديمقراطية وإلتزامًا بمبادئ السوق النيوليبرالية بل ومنفتحًا تجاه علاقات واسعة مع الغرب بشكل أفضل من الشمولية الإماراتية والإقتصاد الريعي والترفيهي المُتبع في إمارتي أبوظبي ودُبي.

قتل الربيع

مثلت حالة السيولة السياسية التي حدثت في دول شهدت إنتفاضات شعبية أسقطت أنظمة تقليدية في كل من تونس ومصر وليبيا واليمن بيئة مناسبة لصعود نجم حركة الاخوان المسلمين ووصولهم للحكم أو المشاركة فيه داخل عدة بلدان عربية. وقتئذ، بدأت الصورة الحقيقة للجماعة في الظهور  وكذلك خطابها السياسي المتطرف الذي نشأ مع التحول الراديكالي في الجماعة مع منهج سيد قطب، ثم نشوء مناهج آخرى للجماعة نتيجة إختلاطها بالإفكار الوهابية السعودية كالسرورية مثلًا (نسبة لمؤسس التيار الأخواني محمد سرور زين العابدين).

ظلت الجماعة مُلتزمة بقيام الخلافة الاسلامية والولاء المطلق لمصالح الجماعة الدولية ومُعارضة النشاطات ذات التوجه العِلماني. وهذا خطاب وتوجه لم يعد يحظى بالقبول في الإمارات التي تحاول أن تقدم نفسها كواحة مُتغربة ومُنفتحة على مصراعيها. 

دخلت جماعة الإخوان في مصر في حالة من العداء الإعلامي مع حُكام الإمارات العربية، كما أقدم الرئيس المصري الأخواني المعزول محمد مرسي على إستضافة الرئيس الإيراني أحمدي نجاد وزار إيران للمشاركة في قمة “منظمة دول عدم الإنحياز. وبهذا، تكون الجماعة السُنية في مصر قد خذلت الأنظمة الخليجية خصوصًا في ظل تصاعد التظاهرات الشعبية في البحرين ذات الأغلبية الشيعية.

تعاملت الحكومة الإماراتية مع فرضية أن جمعية الإصلاح رفضت بعد العام 2000م التخلي عن نواتها التأسيسية، وحل نفسها في المفاوضات التي جرت بين الجماعة وولي عهد أبوظبي الشيخ محمد بن زايد آل نهيان باعتبار أن الجماعة باتت قادرة على التحول للعمل السياسي في أي لحظة تريد، وهو نقيض ما حدث مع جماعة الإخوان المسلمين في قطر والتي أعلنت حل نفسها بهدوء، وإتباع النظام القطري في كل خطواته.

وفي مطلع مارس 2011، قُدمت عريضة إصلاحية للحياة السياسية لرئيس الدولة خليفة بن زايد، وبلغ عدد الموقعين عليها 133 مواطنًاإماراتيًا من الرجال والنساء بصفتهم كأساتذة جامعات وأعضاء سابقين في البرلمان ومسؤولين حكوميين سابقين ونشطاء حقوقيين وأعضاء في جمعيات المجتمع المدني وكُتاب، وكان الرد على العريضة هو إعتقال أغلب الموقعين وعلى رأسهم رئيس جمعية الإصلاح الشيخ سلطان بن كايد القاسمي وعدد من المُنتمين للجمعية، وكانت التهمة الأساس هي الترويج لإيديولوجيا “إرهابية”للإطاحة بالحكومة وتراوحت العقوبات المفروضة بالسجن لمدد متفاوتة تصل أقصاها ل 15 سنة، وإجراءات عقابية آخرى مثل إسقاط الجنسية والترحيل مِن البلاد. وفيما قدمت الدولة تسجيلات مصورة ومسموعة لبعض الاجتماعات التحضيرية لأعضاء الجماعة للتظاهر والبدء في نشاطات معارضة أكدت منظمات دولية حقوقية أن المحاكمات القضائية لم تكن عادلة.

وبالرغم من إنحصار الدور السياسي لجماعة الإخوان المسلمين في الإمارات إلا أن السلطة الإتحادية صارت أكثر تشددًا من ذي قبل مع أعضاء الجماعة، ورأت أن الفرصة أصبحت مواتية للتخلص من جمعية الإصلاح والإرشاد دفعة واحدة وعدم الإبقاء عليهم حتى بواجهتهم الدعوية. والقضاء على أي محاولة للإخوان المسلمين لتوسيع دائرة نفوذهم الدولي. وهو ما شكل نوعًا من أنواع الوقاية الإستباقية من حمى الربيع العربي، والقضاء على أي دعوات إصلاحية داخل النظام الإتحادي.

خاتمة

غالبًا ما كانت سياسة جماعة الأخوان المسلمين “مهلهلةً” بما يمكن، للعدو والصديق، الإستفادة منها على حد سواء. 

الجماعة منذ تأسيسها على يد حسن البنا في ثلاثينات القرن الماضي كان لها نهجها السياسي المؤيد أو المُعارض للأنظمة حسب الظرف التاريخي. من القتال من أجل القضية الفلسطينيةأيام النكبة إلى تحالفات “رجعية” ضد الأنظمة التقدمية وحركات التحرر الوطني، حتى المشاركة في حكومة بريمر الأمريكية بعد حربالعراق 2003، ومِن المعارضة للأنظمة الحاكمة إلى التحالف معهاومِن ثم الظهور في ثورات الشعوب العربية والوصول لسدة الحكم في محاولة لصنع محور إسلاموي يعادل محور الأنظمة الملكيةالتقليدية في الخليج والنظام الشيعي في إيران.

بعدما أُعتبرت الجماعة عدوًا بصفة شبه نهاية منتصف عام 2013 مَثّل هذا الأمر قنطرةً لعبور أغلب القوانين المُنتهكة للحريات والمقيدة للحياة العامة في دول المنطقة. قامت الإمارات، محور هذه القراءة،بسن قانون الإرهاب في أغسطس 2014 الذي يسمح للدولةاستخدام عقوبة الإعدام وكافة العقوبات المشددة كالسجن وسحب الجنسية والطرد من البلاد، وفي نوفمبر 2014، أعلنت الإمارات عن قائمة من 82 منظمة إرهابية على رأسها داعش والقاعدة وجماعة الأخوان المسلمين بمصر وجمعية الإصلاح. وصدر في أيلول\سبتمبر 2016 مرسوم قانون رقم 7 لعام 2016 يقضي بتعديل قانون العقوبات الإماراتي لكي يقيد حرية التجمع السلمي وتكوين الجمعيات، ويقضي بعقوبة الإعدام في حق المتهمين بإنشاء أو الانضمام إلى “منظمات” تهدف إلى “الإطاحة بالحكومة” أو “تهدد أمن الدولة”، كما يعاقب القانون الجديد بالسجن بين 15 إلى 25 سنة كل من “أهان رئيس الدولة الإتحادية”، ويعاقب بالسجن من 10 إلى 25 سنة كل من “سخر أو أهان أو أضر بسمعة أو هيبة أو مكانة الدولة أو علمها أو شعارها الوطني أو رموزها الوطنية أو أي من مؤسساتها”. ويقيّد هذا النوع من الأحكام حرية النقد السلمي وينتهك حق الأفراد في التعبير عن آرائهم.

القوانين أعلاه أصبحت مشروعة في ظل مشروع محاربة نفوذ جماعة الإخوان المسلمين، فالجماعة، بفضل سياساتها المتطرفة تارة وغير المفهومة تارة أخرى، شرعت للإمارات دعم ديكتاتورياتعسكرية في المنطقة، وأصابت العلاقات الإماراتية – التونسية بالفتور، في الوقت نفسه، لم تمانع جماعة الاخوان المسلمين مِن المشاركة – عبر حزب الإصلاح اليمني – جنبًا إلى جنب معالإمارات في حرب قوات التحالف العربي ضد اليمن.

في المحصلة، يبدو عداء الإمارات لجماعة الاخوان مفيدًا لأبوظبي أكثر من التحالف معها. فعلياً، أصبح وجود الاخوان داخل أي حركة اصلاح سياسي مبررًا كافياً للإمارات لمحاولة القضاء عليها، لا داخل الإمارات وحسب، بل وخارجها أيضًا.

منشورات أخرى للكاتب