العراق: من جمهورية “البعث” إلى جمهورية “الفشل”

بعد مرور 16 عاما على سقوط جمهورية “البعث” المُظلمة، أعلن العراقيون مطلع أكتوبر/ تشرين الأول المنقضي رفضهم استمرار جمهورية “الفشل”، مطالبين بنظام انتخابي جديد ومعلنين أن السلطة الحالية عاجزة على بناء دولة  تستجيب إلى أدنى متطلبات الحياة الكريمة.

فشلت الحكومة العراقية في حسم أي من الملفات الساخنة التي وضعت على طاولتها إبّان توليها لهذه المهام، وعلى العكس من ذلك، غرقت في الفساد والمحاصصة وانعدام السيادة الوطنية ما جعل العراقيين ينتفضون عليها.

وفي الواقع فإن مصطلح “الدولة الفاشلة” ليس فقط مصطلحا شعبيا تتداوله الشعوب في توصيفها لفشل حكومات بلدانها في حسم الملفات الساخنة والحيوية، ولا هو توصيف تلجأ إليه النخب المعارضة في هجومها على حكومات بلدانها وحسب، تجاوز ذلك ليكون مصطلحًا علميًا تصنّف من خلاله الدول. وفي هذا الخصوص تصدر مجلة فورين بوليسي سنويًا – بدعم من صندوق السلام الامريكي منذ العام 2005م – تقريرًا سنويًا عن “الدول الفاشلة”، وبالنظر إلى حدّة المصطلح وفضاضته، تمّ تحويله إلى مؤشر “الدول الهشّة” لكن مع المحافظة على اعتماد المؤشرات ذاتها، إقتصاديًا وإجتماعيًا وسياسيًا وحتى أمنيًا.    

ويعرّف مؤشر”الدول الهشة”، بأنها الدّول التي تواجه صعوبات في إتمام وظائف إدارة الحكم، وتعاني من أزمات داخلية وخارجية على الصعيد السياسي والاقتصادي والاجتماعي، ناهيك عن تفشي الفساد السياسي والمالي في نظمها، كما أنها تشترك على اختلاف خصوصياتها الداخلية في خاصية تفشي الفقر والبطالة وانعدام الأمن، أي انها تصنّف بحسب درجة إخفاقها. ووفقا لنتائج هذا المؤشر لسنة 2019 فإن العراق يقف في المرتبة الخامسة عربيًا والثالثة عشر عالميًا ضمن قائمة البلدان “الهشة” أو “الفاشلة”. 

لماذا العراق دولة فاشلة؟

يعتبر فقدان الدولة لسيادتها وعجزها عن حماية مواطنيها المحدّد الأبرز لتوصيف دولة ما بأنها “دولة فاشلة”، وذلك بحسب ما يذهب إليه علماء الإجتماع السياسي. والعراقيون اليوم، لا يحتكمون في أغلب مجريات حياتهم إلى القانون أو إلى مؤسسات الدولة، وإنما إلى الأحزاب والميليشيات والطوائف في نسخة مشوّهة عن النموذج اللبناني الذي يعتمد المحاصصة الطائفية. 

وفي الوقت الذي تفتقر فيه الدولة إلى حكومة فعلية، يتعزّز اليوم دور رجال الدين الذين يسيرون أتباعهم ويحددون خياراتهم، وبما يصل حد التصارع الداخلي أحياناً. فالمؤسسة الدينية الشيعية العراقية مُنقسمة أيديولوجيًّا أيضًا بين أنصار آية الله “أبي القاسم الخوئي”، ممثل التشيع المحافظ سياسيًا وبين اتباع آية الله “الخميني” المتأثرين بالثورة الإيرانية كما أنها منقسمة إجرائيًا بين أتباع المرجع الديني “آية الله السيستاني” ومؤيدي مقتدى الصدر زعيم الحشد الشعبي.

هذا الولاءات العابرة للوطن والحالة الوطنية كفيلة لوحدها بتصنيف العراق “دولة فاشلة”. يضاف إلى ذلك، فإن النموذج العراقي المحكوم بالإنقسامات داخل الطائفة الشيعية المسيطرة على الحكم فضلاً عن الخلافات بين مختلف مكونات الشعب العراقي من شيعة وسنة وأكراد، يقدّم توليفة مثالية لفشل الدولة وفقدانها أدوات الحكم والإدارة. كما يعتبر الإنقسام المجتمعي وحدّة الصراعات الدينية والعرقية من أهم المؤشرات الدالة على هشاشة الدولة.

وليس تعدّد الأعراق والطوائف وانقسام المجتمع العراقي ما أفقد الدولة سيادتها وحسب، بل أيضًا السماح بأن تكون الأرض العراقية مرتعا للتجاذبات الإقليمية والدولية وانقسام الولاءات داخل المجتمع العراقي إلى إيران والولايات المتحدة الأمريكية وبلدان الخليج، إلى الحدّ الذي أصبحت فيه هذه القوى تتحكم في دواليب الدولة وسياساتها.

 ولذلك كانت المطالبة بنظام انتخابي جديد يقطع مع النظام الحالي الذي لم يخلّف غير الفساد والمحاصصة وتكريس التبعية للقوى الإقليمية، كل حسب مصالحه، أبرز مطالب المتظاهرين العراقيين. 

يذهب البروفيسور نسيم خوري في دراسة عن نشأة مفهوم الدولة الفاشلة وتطوره، إلى أن المؤشر الإقتصادي يعتبر من أهم المؤشرات المعتمدة في تصنيف دولة (ما) ضمن خانة الدول الفاشلة. يؤكد خوري أن المؤشرات الإقتصادية تشمل التنمية الإقتصادية غير المتكافئة ما بين المجموعات التي تنتمي إلى البلد الواحد والتدهور الإقتصادي الحاد بما هي اختلالات بنيوية، ركود في الدورة الإقتصادية، وانهيار قيمة النقد الوطني.

وفي هذا السياق تشير تقارير اقتصادية إلى أن العجز في موازنة سنة 2019م في العراق وصل إلى 23 مليار دولار ويتحدّث خبراء اقتصاديون عن عجز في موازنة سنة 2020 قد يبلغ 30 مليار دولار. وهي نتيجة طبيعية نتيجة غياب السياسات الإقتصادية الفاعلة وتفشي الفساد والسرقات في الدولة وتفاقم المديونية.

ويعتبر تضخم القطاع العام في العراق أحد أبرز تجليات الفساد المستشري في البلد، ففي موازنة سنة 2019م، على سبيل المثال، تم تخصيص 40% منها للإنفاق العام. أي أن ما يقارب نصف الميزانية يذهب إلى خلاص أجور الموظفين في القطاع العمومي والذين يناهز عددهم الثلاثة ملايين موظف وهي نتيجة فرضها وأسس لها نظام المحاصصة الذي بات يستخدم ملف التوظيف في القطاع الحكومي كنوع من المكافأة والترضية لأتباع كل طرف من أطراف الفاعلين السياسيين، بل وضمان تمتّعهم بمستوى عالٍ من الرفاهية، وهو ما جعل منظمة الشفافية الدولية تصنّف العراق في المرتبة الثالثة عشر ضمن أكثر الدول فسادًا.

وتعتبر المحسوبية والمحاباة أسّ المشاكل الإقتصادية في العراق ومسبّبا رئيسيًا في تدهوره  ودليلاً على غياب السياسات الإقتصادية الواضحة المعالم، بالإضافة إلى تأكيدها فشل الحكومة في تسيير الدولة والرضوخ لإملاءات داخلية وخارجية عجز حتى رئيس الوزراء التكنوقراط “عادل عبد المهدي”عن معالجتها.

من نافلة القول التأكيد على أن مسببات الفساد في العراق عميقة ومتجذّرة. تعدّد الطوائف والأعراق بالإضافة إلى تاريخ البلد المليء بالصراعات الداخلية والخارجية أهمها. تاريخياً ووصولاً حتى اليوم، تحارب كل فئة من أجل النّهل من ثروات البلد خدمة لمصالحها الخاصة، وعلى مرّ التاريخ أيضًا، كانت العراق أرضًا خصبة للصراعات بين مختلف هذه المكونات المجتمعية وحلبة لصراعات ومنافسات إقليمية ودولية.

وبالنظر إلى هذا الواقع المركّب، راهن مراقبون عدة على فشل الإحتجاجات الشعبية واعتبروها عاجزة عن الإطاحة بالحكومة، وهو ما فنّده واقع الحال بعد استقالة رئيس الوزراء عادل عبد المهدي، ما يفتح المجال أمام سيناريوهات عديدة، لكن الأهم من ذلك، أن هذه التحركات الإحتجاجية تبني لمستقبل عراقي يقطع مع مسببات الفشل التي رافقت تاريخه.

لابدّ أن مسببات الفشل التي جعلت العراق يصنّف ضمن البلدان الخمس الأوائل الفاشلة على المستوى العربي واضحة، وهي بالمناسبة من المطالب الأساسية للمتظاهرين. كما أن الحلول واضحة وبيّنة لكن الإشكالية الحقيقية تتلخّص في من سيُغلب مصلحة الوطن على مصالحه الخاصة، ومن لن يفعل ذلك. خصوصاً وأن هؤلاء من يتحكمون في استخدام العنف بالدرجة الأولى؛ لا الدولة ذاتها.

منشورات أخرى للكاتب