لحظتنا الخليجية: أكذوبة العمران والتنمية أمام مقصلة الحُريات

يلفت نظرنا الأكاديمي الإماراتي عبد الخالق عبدالله في كتابه “لحظة الخليج في التاريخ المعاصر”، كيف أصبحت دول الخليج الست مركزًا ماليًا وثقافيًا وسياسيًا في العالم العربي، بعد أن كانت دولٌ مثل مصر وسوريا والعراق وغيرها تتربع على المشهد السياسي والثقافي والإعلامي. وفي معرض إثبات وجهة نظره يقدم عبدالخالق أمثلة كثيرة ودقيقة مستشهدًا بشركات الطيران الخليجية كالخطوط القطرية وطيران الإمارات، مستعرضًا كيف أصبحتا من أكبر وأشهر الخطوط الجوية حول العالم.

إعلاميًا، ثمة قنوات لمُلاكٍ خليجيين كالجزيرة والعربية وغيرها من القنوات الإخبارية والترفيهية التي اكتسحت الإعلام العربي بامتياز. وكذلك هي المؤسسات المالية والمشاريع الاقتصادية التي اتخذت من مدن الخليج مركزًا لها. الأهم من ذلك، هو السيطرة الاقليمية لبعض دول الخليج عبر نفوذها المالي وإمداداتها العسكرية وثقلها الدبلوماسي. ولهذا، يرى عبدالخالق أن النهضة الخليجية أو اللحظة كما يسميها قد بدأت وتزدهر.

لكن، هل هذه اللحظة صادقة؟ وما هو شكلها مستقبلًا؟

التغيير من الداخل

وإذ تحتكم دول الخليج على ثروات مالية طائلة يبدو من السهل أن تجلب كبريات الشركات الصينية والعالمية لتعمير البلاد ولبناء أطول أبراج العالم بأيدٍ أجنبية، من السهل أيضًا؛ تتعيين إحدى بناتك في مركز دبلوماسي عالمي ليراك العالم ويقتنع بأن الدولة تُناصر قضايا حرية المرأة وتعمل على تمكينها. إن فرض أسلوب حياة معينة على الشعوب وإقامة الحفلات الترفيهية وفتح المجال للاستثمارات الأجنبية تبقى أموراً ثانوية مقارنة بأمور تبدو أكثر أهمية، وفي مقدمتها التغيير الحقيقي من الداخل، وهو أهم ما تفتقر له الدول الخليجية حتى يكون تقدمها حقيقيًا، لا شكليًا وحسب.

ما هي فائدة السيطرة الإقليمية ودحر ما تسميه بعض دول الخليج محاولات وأطماع إيران بالتغلغل في المنطقة؛ إذا كانت بعض الشعوب مُكبلة في الداخل تحت هذا العنوان؟ هل يمكن اختزال اللحظة الخليجية الرائدة في أنها “السيطرة الإقليمية” فيما ترزح الشعوب الخليج مغلوبةً على أمرها؟ هل يمكن فرض التطور والتقدم والنهضة بالقوة أم هي نتائج طبيعية لتطور الإنسان في بيئته؟

يبدو لي أن ما يحدث في بعض دول الخليج يشبه الى حد ما من يضع الزينة الجميلة على كعكة نيئة. يبدأ الإصلاح من الداخل، من التسامح مع الشعب وتقبل الاختلاف بين أفراده واحتضان الجميع وممارسة قيم المشاركة وتقبل الاختلاف. أما سياسيات التعيين بالاختيار في مجالس صورية أو تعيين النساء كسفيرات ووزيرات ما هو إلا تزيين خارجي لكعكة نيئة.

الجزيرة والعربية

أنشئت القنوات التلفزيونية الإخبارية في دول الخليج كوسائل لتلميع وتسويق هذه الدول من جهة، واستهداف الأطراف المناوئة لها من جهة أخرى. ونلاحظ بوضوح أن هذه القنوات لا تنتقد الأوضاع الداخلية للحريات في دول المنشأ تحديدًا.

وإذ تمتلئ سجون الدول بالأبرياء ممن كانوا يمارسون حقهم في التعبير عن الرأي دون أن يصاحب هذه الخطابات أي مظهر من مظاهر العنف أو التحريض عليه؛ نجد أن هذه القنوات الإخبارية لا ترى الجذع الذي في عينها بل ترى القذى في عيون إخوتها. لا تمارس هذه المنصات الإعلامية دورها في تعرية وانتقاد الملفات الدخلية، وبالتالي؛ هي بعيدة كل البعد من أن تمثل إعلامًا حرًا في المنطقة بل هي في حقيقتها إعلام مدفوع الأجر، مسيس وموجه بوضوح. وهو ما ينطبق على غالبية الصحف الكبرى الممولة خليجيًا، التي خلقت وتتلخص مهمتها في خدمة مصالح محددة.

الحريات المفقودة

بعد أن عصفت بها هزات سياسية كسرت ظهرها وشلت قوتها، كم هو مؤسف النظر الى أحوال دول عربية كمصر وسوريا والعراق. هذا التداعي أدى إلى إفساح المجال للدول الطامحة والمُتطلعة لأن تشحذ قوتها، ينطبق ذلك على بعض دول الخليج كما ينطبق على إيران وتركيا وبعض الدول الغربية أيضًا.

الفارق الرئيسي بين النهضة التي كانت في تلك الدول في فترة ما بعد الاستقلال وبين النهضة التي يشير إليها الأكاديمي الاماراتي عبدالخالق هي عمق التجربة وصدقيتها. لقد نضجت تجارب مصر وسوريا والعراق على روية، لم يشتروا النهضة بأموالهم ولم يفرضوا أساليب حياة جديدة على شعوبهم.

تطورت الحياة بروية على مدى عقود، وعبرت الشعوب عن اعتقاداتها في الشوارع بالهتافات والمظاهرات والانتخابات وتمثلت مشاركتهم السياسية عبر الأحزاب السياسية. في دول الخليج لا أحزاب ولا مطالبات شعبية بل في أغلب دول الخليج ليس هناك حرية رأي وتعبير ليطرح المواطن أي مواطن توجهًا أو رأيًا مختلفًا عما تريده مؤسسة الحكم.

هل اللحظة ممكنة؟

إن اللحظة كما وصفها عبدالخالق عبدالله تبدو “مشوقة” لكل مواطن خليجي، لكنك لا تستطيع أن تتجاهل ذلك التناقض بين العُمران والديكور الخارجي وتعيين النساء وإقامة الحفلات الراقصة وبين واقع الحريات البائس في الخليج. إن أراد أي حاكم من حكام دول الخليج النهضة الحقيقية الصادقة فعليه أن يفتح باب الحريات أولاً، نساءًا ورجالًأ، عليه أن يسمح بحرية الرأي والتعبير في انتقاد إدارته للبلاد وطرح وجهات نظر مختلفة حولها، عليه أن يقبل بالانفتاح الأهم والحقيقي، الانفتاح في الفكر والأفكار، أن يكون هو أولًا مثالًا يُحتذى به في تقبل النقد والاختلاف. وفي هذا فليتنافس المتنافسون.

منشورات أخرى للكاتب