دول الخليج: نحو نقاشات حرة حول الدولة والإسلام والمستقبل

خلال ثمان سنوات مضت تنبهت الحكومات الخليجية والعربية في يومياتها لما اعتبرته خطراً داهماً يُهددُ بقاءها. شهدت المنطقة أزمات عدة، انهار ما انهار من دول، وبقى من استطاع الصمود لتبدأ حرب هذه الحكومات مع شريحة كبيرة من مواطنيها الذين يؤمنون بأفكار وإن كانت تبدو مألوفة جداً، مكررة، وتعودت آذاننا على سماعها، إلا أنها كما تفهمها حكومات الخليج وتتعامل معها؛ هي معركة وجود، وتمثل تهديداً لبقائها وديمومتها.

فوضى الأفكار المألوفة

بالإمكان تلخيص هذه الأفكار كما يفهمها غالبية الشارع الإسلاموي بالآتي: الأيام دول بين الناس، بالأمس خسرنا الخلافة الإسلامية لكننا قادمون لا محالة، فذلك وعد من الله بأن يرث الصالحون الأرض، ستنهض هذه الأمة مجدداً كأمة إسلامية كاملة لا دويلات كما قسمها المستعمر الأجنبي، وستُرفع راية الإسلام ويقام شرع الله. أما ثورات الربيع العربي فستقوم مرة أخرى لأنها اليوم كامنة/ راكدة حتى تترتب الأوضاع. أما الديموقراطية والدساتير الوضعية فهي وسيلة حتى نحقق شرع الله، ثم نلغيها؛ فهي من عمل الطاغوت!

حين نقرأ للمنظرين من الإخوان المسلمين ومؤيديهم، نجد أن هناك اعتقاداً لا يتزحزح بصدق قضيتهم وبأن نصر الله لن يخذلهم. فهم حاملو الشعلة والله متمم نوره ولو كره الكافرون. وكأي تيار اسلامي؛ يعزز الإخوان المسلمون اعتقاداتهم بسلسلة من الآيات والأحاديث والقصص التاريخية التي تؤكد الإنتصار. إلا أن قوة الاعتقاد لا تأتي من حجم الأمثلة المدعمة له، فحجر الزاوية في المعتقدات الدينية هو مفهوم (التصديق) وليس (الاقتناع العقلي). لذلك، تجد القوة عند أصحاب هذه المعتقدات تأتي من العمق والشحن العاطفي الذي تغذيه معتقداتهم. هذه الأفكار تعطي لحياتهم معنى وهدف، فهم ولدوا لرفع راية الإسلام، كما أنها توفر عليهم الجهد في البحث عما يتطلعون لعمله، وتعطيهم هدفاً وغايةً ورسالةً للفرد والأمة. لذلك، حين تواجه هذه الأفكار فأنت لا تجابه أفكاراً عقلانية خالصة بل معتقدات مشحونة بالعاطفة الدينية، التجرؤ بهز هذه المسلمات والمعتقدات هو تهديد لاستقرار الفرد والجماعة بل وتشكيك بجدوى الحياة بأكملها، ولعل هذا ما يفسر حالة الغضب المكبوت في أنفس الشباب الخليجي قبالة عجز دولنا عن توفير بديل فكري ونفسي لهذه المعتقدات والمسلمات، وما تجنيه اليوم عواصمنا هو نتيجة هذا العجز.

من الرعاية إلى القتل تعزيراً

كان لطلب النيابة العامة في المملكة العربية السعودية بإعدام القتل تعزيراً رجل الدين سلمان العودة صدى كبيراً بين الناس، فملخص ما يدعو له العودة في كل كتاباته وبرامجه ومحاضراته لا يختلف كثيراً عن الأفكار المألوفة التي لخصناها أعلاه، الأفكار التي تملأ صحفنا ومناهجنا وكتبنا وبرامجنا الإذاعية والتلفزيونية. العودة وغيره من المؤثرين كان لهم نشاط مرضي عنه ومدعوم لسنوات طويلة، لكن مستجدات الساحة اليوم ومخاوف الحكومات المتصاعدة من أن هناك خطراً محدقاً بها أطاح بالعديد من المعادلات. لكن، هل يكمن الخطر في الأشخاص؟ أم هي الأفكار؟

لا ينبغي أن يواجه الفكر بأحكام القتل أو القمع، تعيش الأفكار حتى بعد رحيل الأشخاص الذين قدموها. الواجب هو أن يقارع الفكر بالفكر، وإذا أرادت دول الخليج أن تخفف من حدة المعتقدات التي يحملها “الإرهابيون” كما يطلقون عليهم من تسميات هذه الأيام فعليها أن تفتح المجال لحرية الرأي والتعبير للجميع دون استثناءات، ودون قائمة الممنوعات من عاداتنا وديننا وتقاليدنا. هنا فقط سنرى طريق النور للأمام للجميع، أما سياسات القمع والقتل وحظر الأفكار فلن تنفع أحد، ولن تفعل شيء.

المستقبل: السوق المفتوحة للأفكار

فيما تحتضن قطر كبار منظري ومفكري جماعات الإخوان المسلمين والإسلام السياسي يتم التضييق عليهم في دول خليجية أخرى. وهو على ما أعلن رسمياً دون مواربة أحد الأسباب المعلنة للأزمة الخليجية الراهنة. كنت قد بينت رأيي في مقالي السابق في “البيت الخليجي” وأكدت أن احتضان قطر لهذه الجماعات هو احتضان “مؤقت”، فقطر هي أيضاً بدولة تحكمها (أسرة) كما هو الحال في دول الخليج الأخرى. ولذلك، طال الوقت أم قصر، الأزمة الخليجية ستنتهي يوما ما مخلفة لنا إرثاً من الأفكار الممزوجة بالغضب والإحباط الذي ستخلفه هذه الأزمة وهذه الحرب على الفكر الديني الذي طالما رعته الحكومات لتنقلب عليه بعد ذلك، دون سابق إنذار، أو طرح بديل حقيقي، فاعل، ومستدام.

أرى أن الحل يكمن في اعتماد سياسات وقوانين تضمن احترام حق الإنسان في التعبير والسماح بتداول الأفكار ومناقشتها، والجدول حول تساؤلات هامة، ومنها: هل بإمكان دول الخليج أن تكون دول “مسلمة” مع التحفظ على هذه الكلمة دون أن تسعى لتطبيق شرع الله كما تتمنى جماعات الإسلام السياسي؟ وهل بإمكان الجماعات الإسلامية أن تطور من أفكارها بحيث تستطيع ضم الأطياف المختلفة من المواطنين والتوجهات دون أن تشعر بالتهميش؟ والسؤال الأهم: هل على المسلم أن يرغب ويسعى لقيام دولة الخلافة مرة أخرى؟ كلها أسئلة للنقاش يجب أن تكون محل نقاش مجتمعاتنا بحرية وانفتاح، أما الحكومات فعليها أن تجد بديلاً (وطنياً وإنسانياً) يملأ عقول الشباب ويعطي لحياتهم معنى وهدف. ما خلا ذلك: ستبقى أطروحات (الخلافة) وما شابهها ماثلة أمامهم.

منشورات أخرى للكاتب