نحو قراءة أكثر هدوءاً وفهماً لظاهرة رهف القنون

ليست رهف القنون حالة فريدة ولا هي برائدة في ما أقدمت عليه. لا يمكن توصيف قصة رهف بأكثر من كونها حلقة جديدة في سلسلة حلقات هروب الفتيات السعوديات. فقبل رهف نجحت سعوديات كثيرات في الهروب من المملكة، بعضهن استفدن من الضغط الإعلامي الذي توفره وسائل التواصل الإجتماعي وسرعتها في إخطار المنظمات وتجييشها لفائدتهن، ولم يحالف الحظ البعض الآخر إذ تمكنت عائلاتهن من إرجاعهن إلى البلاد، ليختفي بذلك كل أثر لهن.

ولا يتعلّق الهروب بالسعوديات اللاتي تستغلّن وجودهن مع العائلة خارج السعودية للفرار في محاولة لطلب اللجوء في البلدان الأروبية وأستراليا وأمريكا، بل يشمل أيضا المبتعثات اللاتي يفضلن المكوث في بلدان الإبتعاث عن الرجوع إلى الوطن، بالإضافة إلى النساء اللاتي تفضلن الإقامة في إحدى الدول الخليجية، أو اللاتي يهربن إلى مدينة جدة، المدينة الساحلية الأكثر “ليبرالية” في المملكة.

قصة رهف القنون لم تفعل سوى أنها أعادت إلى الأذهان قضية الهروب المتكرر للسعوديات ليجعل من هذا التساؤل مشروعًا، لماذا السعوديات دونًا عن باقي الخليجيات؟ ألا توجد حالات هروب في باقي دول الخليج أو حتى الدول العربية؟ الإجابة وببساطة أن الحالات التي رصدت لخليجيات هاربات متواضعة ولا ترقى إلى مستوى إعتبارها ظاهرة أو قضية. في المقابل، تكرار حالات الهروب في صفوف السعوديات جعلها ترقى إلى مستوى الظاهرة التي تستوجب الدراسة والبحث لتشخيص العلة وايجاد الدواء.

في إحصائية تعود إلى العام 2015 كشفت وزارة العمل والتنمية الإجتماعية السعودية عن تسجيل 1750 حالة هروب لفتيات، منهن 65% مراهقات و35% معنفات. وللإشارة فإنه وبالنظر إلى خصوصية المجتمع السعودي المتشدّد فإن هذه النسب تبقى تقديرية، لكنها في الآن ذاته ليست نسبًا بسيطةً بل إنها تحيل على ظاهرة تستوجب الجدية في الطرح، خصوصًا وأنه تتفرّع عنها قضيتان خطيرتان، أولهما هروب المراهقات وما يستوجبه من تسليط الضوء على الأسباب التي تدفعهن إلى الهروب، وثانيهما قضية العنف الأسري.

شخصت منظمة “هيومن رايتس ووتش” 10 أسباب لهروب السعوديات، يندرج العنف الأسري ضمنها، فقد ذكرت المنظمة أن نحو 8 آلاف حالة من الإيذاء الجسدي والنفسي تم رصدها في الملكة خلال العام 2015. ومن أهم الأسباب التي تدفع بالسعوديات إلى الهروب، بحسب ما أوردته المنظمة، حرية  السفر أو الحصول على جواز سفر، الحرية في اختيار شريك حياته، التمييز في العمل، عدم المساواة في الطلاق وحضانة الأطفال والميراث والرعاية الصحية، ذلك أن المستشفيات تفرض الحصول على إذن من ولي الأمر للحصول على الخدمات الصحية على الرغم من أن قانون الأخلاقيات الطبية لعام 2014 يعتبر موافقة المرأة كافية، لكن في المقابل لا تفرض الحكومة عقوبات على المؤسسات المخالفة.

وبالمناسبة كل هذه الأسباب متفق عليها داخل المجتمع السعودي وليست سرّا أو من التابوهات، وبالتالي فإن هذا التشخيص لم يحمل جديدًا. في كل المناسبات التي كانت المملكة تروج فيها للإصلاحات ولرؤية 2030 كانت تقر بمختلف هذه المشاكل مؤكدة أنها تندرج ضمن دائرة العادات والتقاليد الإجتماعية، وأن التغيير يحتاج إلى الوقت.

على أنه وبالنظر إلى قائمة الأسباب التي تقف وراء هروب السعوديات التي أوردتها منظمة “هيومن رايتس وتش” نلاحظ أن أغلبها ليس إلا نتيجة لنظام الولاية الذي يعكر صفو حياة المرأة السعودية، ويعوق تقدّمها بل ويعتبر المعوق الأساسي أمام نيلها حقوقها، فقد كان هذا النظام ولا يزال موضوعًا ساخنًا مادامت المرأة السعودية تعامل كقاصر من وجهة نظر القانون.

التعديلات التي تم اقرارها مؤخراً على نظام الولاية في السعودية والسماح بتقديم بعض الخدمات لها دون الرجوع إلى ولي الأمر لم يكن لها الأثر الإيجابي على وضع المرأة على أرض الواقع، فعلى الرغم من أن تحقيق الطموحات في العمل وفي الدراسة ليس محضورا تماما إلا أن العراقيل المفروضة لا تزال كبيرة ومرهقة، خصوصا وأنّها تقع تحت طائلة التأويلات الشخصية لأصحاب العمل والمصالح الحكومية الذين يفرضون قيودًا أقسى مما هي عليه فعليًا.

تكمن الإشكالية الرئيسية في نظام الولاية الذي لا تزال المملكة متشبثة بتطبيقه وما نظام “أبشر” إلا دليل واضح على هذا التشبث، إذ يسمح هذا التطبيق للرجال برصد تحركات النساء الواقعات تحت وصايتهم ويمكنهم حتى من إلغاء سفرهن، بالإضافة إلى غياب المواد القانونية المكتوبة والمراسيم الرسمية التي تنظم حقوق الأفراد وواجباتهم. فلو كان في المملكة قانون للأحوال الشخصية مثلا للجأت الضحايا إلى القانون ليحميهن عوضا عن الإستعانة بالقوانين والمنظمات الدولية.

وعلى الرغم من انضمام المملكة إلى اتفاقية الأمم المتحدة للقضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة “سيداو”منذ العام 2000 إلا أن خطوات الإلتزام ببنود الإتفاقية ماتزال دون المأمول. ولم يشفع السماح للمرأة بالقيادة للمملكة ولم يمنع عنها انتقادات المنظمات الحقوقية التي تنشط مع كل حالة هروب تظهر للعلن، وتعتبر هذه المنظمات أن نظام الولاية يقف حاجزا أمام الإلتزام ببنود اتفاقية “سيداو” وتحقيق أهداف رؤية 2030 التي أعلنتها السعودية سنة 2016 والتي وعدت فيها بتمكين المرأة من تحقيق مشاركة فعّالة في المجتمع والإقتصاد السعودي.

في سياق متصل؛ لا يمكن إهمال مجموعة من العناصر الأخرى التي تعتبر سببًا رئيسًا في هروب السعوديات بالإضافة إلى نظام الولاية الذي تنبثق عنه جملة من الممارسات التي تهضم حقوق المرأة. ومن أبرز هذه العناصر عنصر غياب الإحاطة النفسية والإجتماعية بالفتيات، فبالنظر إلى متوسط أعمار الهاربات نلاحظ أنهن في الغالب من المراهقات أو على الأقل ما دون سن العشرين، وهي فئة عمرية مهووسة بالتمرد والخروج عن السلطة ودخول الأزمات مع العائلة، وهو ما يستوجب التثقيف الأسري في خطوة رئيسية تهدف إلى توعية الأسر بأساليب التعامل مع الأبناء ومواكبة التغيرات العالمية والتكنولوجية، خاصة التي تتهدد كل الفئات العمرية في كل الدول وليس في المملكة وحسب،  مع ملاحظة أنها  تكون أشد تأثيرًا في المجتمع السعودي لخصوصيته الثقافية والمجتمعية. فإن لم تكن رهف القنون ومثيلاتها ضحايا لنظام الولاية فهن بالتأكيد ضحايا الإهمال العائلي وغياب الوعي التربوي.

منشورات أخرى للكاتب