تيران.. حصان طروادة إسرائيلي

تيران وصنافير، جزيرتان تقعان في عنق خليج العقبة الذي يربطها بالبحر الأحمر. قبل عام واحد لم يكن أغلب المصريين ولا حتى العرب يعلم شيئا عنهما، لكنهما أصبحتا منذ عام قلب الحدث السياسي بعد أن أعلنت القاهرة في الثامن من شهر أبريل 2016 عن اتفاقية ترسيم الحدود البحرية مع المملكة العربية السعودية وهي ذاتها الاتفاقية التي كشفت اعتراف أعلى سلطة في مصر بملكية الجزيريتين للسعودية.
الشعب المغيب بوغت بهذه الإتفاقية مما أدى إلى تحركات معارضة، رفع على إثرها عدد من المحامين المصريين دعوى قضائية حكم فيها مجلس الدولة بإلغاء هذه الاتفاقية في 16 يناير 2017 إلا أن الحكومة المصريةة عارضت الحكم ورفعت دعوى أمام محكمة الأمور المستعجلة (وهي محكمة غير مختصة بنقض أحكام مجلس الدولة)، والغريب أن هذه المحكمة غير المختصة لم ترفض الدعوى بل إنها حكمت فى أبريل الماضي بوقف حكم مجلس الدولة.
حكومة شريف إسماعيل كانت قد أرسلت الاتفاقية للعرض على البرلمان في شهر ديسمبر 2016 لكن وبعد مرور 6 أشهر قرر البرلمان بشكل مفاجئ مناقشة الاتفاقية في 11 يونيو الجاري وأصدر قراره بسرعة مريبة،، ذلك أنه تمت مناقشة الاتفاقية في لجنتي “التشريع والدستور” و”الدفاع والأمن القومي” وتم التصويت عليها في جلسة عامة خلال أقل من 72 ساعة.
أنتج هذا التصويت المريب على الاتفاقية انقساماً كبيراً في مصر وأعاد مجدداً طرح مجموعة من الأسئلة عن أهمية الجزيرتين الصغيرتين وعلاقتهما بخطة إعادة تشكيل منطقة الشرق الأوسط ومدى ارتباطهما بما صرحح به الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي عن “صفقة القرن”، ثم التطورات التي تلت مؤتمر الرياض الأخير.
بعد أن أجلت ثورة يوليو الاحتلال البريطاني عن كامل التراب المصري وفقدانه السيطرة على الإدارة المصرية، تقدمت إسرائيل في 15 فبراير 1954 بشكوى إلى مجلس الأمن تتهم فيها مصر بإعاقة ملاحة السفنن الإسرائيلية في قناة السويس وخليج العقبة. وقد أكد أبا إيبان مندوب إسرائيل في الأمم المتحدة في ذلك الوقت أن مصر تتحدث عن ملكيتها لجزيرتي تيران وصنافير السعوديتين.
حينذاك رد مندوب مصر في الأمم المتحدة محمود عزمي موضحاً أن ما يحاول مندوب إسرائيل أن يصوره على أنه إجراء حديث يعود لعام 1906 (قبل قيام المملكة العربية السعودية حين انتهى الأمر بإقرار الدولة العثمانيةة حيازة مصر للجزيرتين طبقاً لخطابات موجهة من السلطان العثماني للحكومة الخديوية).
بقيت الجزيرتان تحت سيادة وإدارة مصريتين طوال الوقت وأثناء الحربين العالمية الأولى والثانية. وأضاف عزمي في كلمته المحفوظة بالسجلات الرسمية لمجلس الأمن أن اتفاقية أبرمت بين مصر والسعودية خلصت إلىى الاتفاق على ملكية مصر للجزيرتين، ورفض مجلس الأمن بمشاركة دول الفيتو الخمس شكوى إسرائيل مؤكداً سيادة مصر على مضيق تيران، وسيطرتها وسيادتها على مدخل خليج العقبة. وبذلك تكون إسرائيل أول من ادعى ملكية السعودية لتيران وصنافير بهدف الحيلولة دون تحكم مصر فى مضيق تيران ليصبح مياه إقليمية.
إستراتيجياً، يتكون مدخل خليج العقبة من ثلاثة ممرات، الأول هو ممر “إنتر برايز” بين ساحل سيناء وجزيرة تيران، وهو الوحيد الصالح للملاحة (عمقه ٢٩٠ متراً). والثاني بين الجزيرتين (عمقه ١٦ متراً)، والثالث بينن الجزيرتين والساحل السعودي وهو عميق نسبياً لكنه ضيق ومليء بالعقبات الملاحية.
وبالتالي فإن ممر “إنتر برايز” هو الأساس الذي تقوم عليه أهمية الجزيرتين (غير المأهولتين) وهو ما يجعل من المتحكم في مضيق تيران يتحكم واقعياً في حركة الدخول والخروج إلى الخليج الذي يمثل المنفذ الوحيدد إلى منطقة أم الرشراش المصرية التي احتلتها القوات الإسرائيلية في مارس 1949 لتصبح ميناء إيلات الإسرائيلي والمنفذ الوحيد لها على البحر الأحمر. ولذلك كان إغلاق الملاحة في تيران سبباً مباشراً في اندلاع حرب 1967.
في نهاية عام 1950 أصدرت مصلحة الموانئ والمنائر المصرية المنشور رقم 39 الذي ينص على توجيه طلقات تحذيرية لأي سفينة حربية إسرائيلية أو تابعة لإسرائيل تحاول أن تمر في المياه الإقليمية بما في ذلكك مضيق تيران. كما نص المنشور على ممارسة السلطات المصرية لحقها في التّأكد من هوية ووجهة وطبيعة البضائع المحملة على السفن الأجنبية “المحايدة” العابرة للمضيق، بحيث لا يعوق استخدام هذا الحق حرية المرور (البريء) كما تقضي القواعد المعمول بها في الأوضاع المماثلة.
وفي نوفمبر 1953 أوقفت السلطات المصرية السفينة الأمريكية “بيون في” ولم تسمح لها بالمرور إلا بعد التأكد من أنها تحمل شحنات من القمح إلى ميناء العقبة الأردني، في حين لم تسمح للسفينة الإيطالية “مارياا أنطونيا” بالعبور بعدما اتضح أنها تحمل مواد ذات طبيعة استراتيجية في طريقها إلى ميناء إيلات الإسرائيلي، وفى ذلك الوقت تذمرت الحكومة البريطانية من هذه الإجراءات. وانتهى الأمر باعتراف البريطانيين بشرعية الإجراءات المصرية في ما يتعلق بممارسة سيادتها على مضيق تيران.
بعد اتفاقية الهدنة التي أنهت عدوان 1956 حرصت مصر على تأكيد سيادتها على مضيق تيران باعتباره ينضوي تحت لواء الإقليم المصري، وهو ما تضمنته بنود معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية 1979 التي تنصص مادتها الخامسة على «حرية الملاحة والعبور الجوي» القانوني، وهو ما حرصت الدبلوماسية المصرية على تأكيده عند التصديق على اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار في يوليو 1983، والذي يعطي للدول الشاطئية سلطة على بحرها الإقليمي تتمثل في أمور عدة بينها: حق اتخاذ الإجراءات الضرورية لمنع المرور غير البريء، وحق الإيقاف المؤقت للمرور «البريء» من مساحات معينة من البحر الإقليمي، “إذا كان هذا الإيقاف لازماً لحماية أمن الدولة الساحلية”، وحق طلب مغادرة السفن الحربية للبحر الإقليمي في حالة عدم امتثالها لنظم الدولة الساحلية، وهي الحقوق التي مارستها مصر مراراً وتكراراً بحكم سيادتها على جزيرتي تيران وصنافير دفاعاً عن مصالحها الاقتصادية والأمنية.
إن السيطرة على الممرات البحرية من أهم العوامل التي تعزز الأمن القومي لأي دولة. وبالتالي فإن تمرير اتفاقية ترسيم الحدود المصرية مع السعودية سيحرم مصر من التحكم في الملاحة البحرية وحق السيادة علىى الممر وبما يشمل فترات التوتر والحروب لأن نقل ملكية الجزيرتين إلى السعودية سيجعل الممر “دولياً” لا تملك أي من الدولتين أي سلطة عليه. وهو ما لا يصب في صالح الأمن القومي المصري والعربي على حد سواء. قبالة ذلك، يصب هذا الاتفاق في صالح إسرائيل إذ يتيح لها حرية التحرك في البحر الأحمر دون رقابة على سفنها وما تحمله.
الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي كان قد تحدث عن توسيع اتفاقية كامب ديفيد لتضم بلدانا عربية أخرى، يأتي ذلك بالتوازي مع الحديث عن تحالف إسلامي سني إسرائيلي في مواجهة إيران بعد عملية “عاصفةة الحزم” التي شنتها السعودية وحلفاء دعم الشرعية على اليمن.
والحديث عن توسيع كامب ديفيد يمهد لضم السعودية لاتفاقية السلام مع إسرائيل وبذلك تنتهى رسمياً حالة العداء مع إسرائيل لنبدأ مرحلة السلام الدافيء الذي بدأت بشائره في مؤتمر الرياض الأخير، الذي أعلنن بشكل صاخب إن إيران هي “العدو الأول” للمنطقة وتبني تشكيل حلف شرق أوسطي بقيادة أمريكية ويشمل ذلك وصف حركات المقاومة ضد إسرائيل (حماس وحزب الله) بالمنظمات الإرهابية.
غياب نبرة العداء لإسرائيل يكشف عن كونها أصبحت شريكاً أساسياً في الحلف الذي قد يكتمل تشكيله في عام 2018.
هذا المخطط الذي يهدف إلى تشكيل شرق أوسط جديد ليس بجديد، فقد سبق وأن بشرتنا به كوندليزا رايس، وبدأ تنفيذ خطواته على أرض الواقع بعد إشعال ثورات الربيع العربي واستثمارها كقوة دفع لإعادة تشكيلل المنطقة واستعادة سياسة التحالفات، التى حاولت أمريكا تكوينها في المنطقة منذ حلف بغداد في الخمسينات، وفي كل الأحوال، فإن العرب جميعاً سيخسرون مع خسارة مصر لسيادتها على تيران، وما الرابح من هذه الاتفاقية إلا إسرائيل ومن يقف وراءها.

منشورات أخرى للكاتب