مصر والسعودية..خيارات صعبة ومواءمات ضرورية

أتابع الأخبار كل صباح وأجد أننا أصبحنا منطقة موبوءة. كل يوم نقرأ عن ضحايا جدد لفيروس الإرهاب والحرب التي تدور رحاها في أكثر من بلد عربى. الأشقاء يقتتلون، المنطقة تجلس على برميل بارود، لا يحتاج الأمر سوى عود ثقاب لا قيمة له لتشتعل المنطقة برمتها ويخسر الجميع. وهو ما يجعلني أتساءل: كيف وصلنا لحافة الهاوية؟

العالم المتقدم يتسابق على الاكتشافات العلمية والنمو الاقتصادي، ونحن نتسابق على صفقات الأسلحة التي نوجهها لصدور بعضنا البعض. تعيش المنطقة العربية فترة حرجة ضبابية. ولكثرة غبار الحروب والإرهاب لم نعد نرى بوضوح سبيل الخروج الآمن من هذه  المتاهة.

الماضي يرسم الحاضر والمستقبل. هل يمكن أن نحلل الظروف الحالية التي نعيشها دون العودة إلى الوراء؟ مؤشر الهبوط  بدأ مع حرب الخليج الأولى بين العراق وإيران العام 1980 والتى استمرت لثمان سنوات مخلفة وراءها خسائر بشرية ومادية فادحة، فهي أطول حرب في القرن العشرين، تلتها حرب الخليج الثانية لتحرير الكويت من قبضة صدام عام 1991. احتلال صدام للكويت كان بداية المؤامرة الحقيقية على العالم العربى، الخوف والقلق قادا سياسة دول الخليج بعد ذلك، فالعدو لم يعد غريبا بل يمكن أن يكون بلداً عربياً شقيقا ومجاور. ولذا، وقف العرب صامتين أمام الغزو الأمريكي للعراق الذي حولها لأشلاء وطن،  كان تمهيداً لتنفيذ مخطط الشرق الأوسط الجديد الذي تحدثت عنه وزيرة خارجية بوش الأبن كونداليزا رايس، مخطط يبدأ بالفوضى الخلاقة كما سمتها. تم تنفيذها فى موسم الربيع العربى، وينتهى بإعادة ترسيم حدود دول عربية بما يتوافق مع المصالح الأمريكية وأطراف دولية وإقليمية أخرى.

الفوضى لا تعم منطقتنا وحدها، وإن كانت أشد لدينا، لكنها تعم العالم كله، فنحن على أعتاب مرحلة بلورة نظام عالمي جديد، يرث العولمة وحكم القطب الواحد، هناك لاعبون جدد في طريقهم إلى الصعود على المسرح الدولي ولعب دور مهم في مستقبل كوكبنا. القادم لم تتحدد ملامحه بعد، وبالتأكيد لسنا مستعدين له، المنطقة منهكة من الصراعات الداخلية والخارجية، إنها الفرصة الأخيرة ليستمع القادة العرب لصوت العقل، وإلا سينتهي بهم  الحال إلى خسارة أوطانهم واماكنهم على خريطة العالم.

بعد الحرب العالمية الثانية التي خلفت دماراً  هائلاً فى القارة العجوز، اجتمع زعماء أوروبا على هدف واحد: ألا يعيدوا تكرار أخطائهم في الحربين السابقتين، وأن يعملوا بعزم وإرادة حقيقية لخلق نظام دولي مبني على تعاون مشترك لصالح الجميع، ربطوا بلادهم من خلال مؤسسات دولية، واتفاقيات اقتصادية، وتحالفات عسكرية مراهنين على أنهم سيكونون أقوى معا. ورأينا كيف تحول الأعداء التاريخيون إلى حلفاء: فرنسا وألمانيا وفرنسا وبريطانيا، وأصبح ميدان التنافس المسموح به فى الصناعة والتجارة وجودة الحياة.

الاقتصاد القوي لا يقل أهمية عن الجيش القوي، وهو ما عبر عنه الزعيم الصينى السابق دينج تشاو بينج الذي نقل بلاده نقلة صناعية واقتصادية مذهلة حين قال: “دورك فى المجال الدولى يتوقف على قوتك، وقوتك تتوقف على استقرار وازدهار اقتصادك المحلي”.

لو تأملنا اقتصاديات الدول العربية سنجدها قائمة فى الأساس على الاقتصاد الريعي: عوائد طاقة وثروات طبيعية، سياحة، تحويلات خارجية للعاملين بالخارج …الخ ، إلى جانب مساعدات ومنح من دول أخرى، فهل يمكن أن نتصور أننا يمكن أن يكون لنا دور حقيقي أو قوة حقيقية على الساحة الدولية؟ أم أنه يتم استخدامنا لصالح قوى أخرى تعمل لاستنزاف ما تبقى لدينا من ثروات.

ثورات الربيع العربي أدت لفوضى فى البلدان التى تعرضت لها وخسائر اقتصادية كبيرة، كان هناك رهان على تحالف عربي قوي وحكيم، يمكن أن يكون حائط صد أمام المزيد من التدهور بعد سقوط بعض الأنظمة الحاكمة وتفكيك الجيوش الوطنية، ولاح في الأفق  تحالف مصرى سعودى إماراتى، وبدأ الأمر كأنه السبيل لخروج مصر من المصير الغامض الذي ينتظر المنطقة.

فى عهد الملك عبدالله رحمه الله، كانت القاهرة والرياض على توافق تام، رغم اختلاف رؤية البلدين حول الملف السوري، لكن بعد وفاة الملك عبد الله ووصول الملك سلمان للحكم وتولى الأمير محمد بن سلمان  منصب وزير الدفاع حدث تغيير كبير فى سياسة المملكة الخارجية، من الحذر والحرب غير المباشرة إلى الردع والاشتباك المباشر  “عاصفة الحزم” فى اليمن كانت أول مظاهر هذا التغيير، رغم إخفاق هذه السياسة، إلا أنه بات واضحا أن المملكة تبحث عن توسيع دائرة الحلفاء الإقليميين على حساب القاهرة وهو ما سبب توتر في العلاقة بين البلدين بالإضافة إلى الملف السوري.

جاءت زيارة الملك سلمان إلى القاهرة في أبريل من العام الماضي كمحاولة لتجاوز سوء التفاهم بين البلدين، لكن المفاجأة الحقيقية التى عرفت بعد ذلك أن زيارة الملك كانت مرهونة بالتوقيع على اتفاقية ترسيم الحدود البحرية بين البلدين، والتى بمقتضاها تصبح جزيرتا تيران وصنافير ضمن حدود المملكة مقابل  حزمة مساعدات اقتصادية تقدمها الرياض إلى القاهرة، بالإضافة إلى مشاريع مشتركة ومنها جسر الملك سلمان للربط البري بين البلدين. هذه الاتفاقية أثارت غضباً شعبياً كبيراً فى مصر، ورفع المحامى المصرى والناشط السياسي “خالد علي” قضية مستعجلة أمام القضاء الإداري المصري يطعن في الاتفاقية ويطلب ببطلانها وأحقية مصر فى الجزيرتين مقدما مستندات ووثائق تثبت ذلك.

فى شهر أكتوبر من العام الفائت حدث خلاف جديد بين مصر والسعودية على إثر تصويت مصر فى مجلس الأمن  لصالح قرار روسي حول سوريا. غضبت السعودية ووصف عبد الله المُعلمي المندوب السعودي لدى الأمم المتحدة تصويت مندوب مصر لصالح مشروع القرار الروسي، بالمؤلم قائلا: “كان مؤلما أن يكون الموقف السنغالي والماليزي أقرب إلى الموقف التوافقي العربي من موقف المندوب العربي المصري”. الخلافات المصرية السعودية ازدادت تعقيدا وتشابكا، بعد دخول إعلام البلدين ليزيد الطين بلة بسبب السجال بينهما واتهام كل طرف للآخر باتهامات باطلة ومؤذية للمشاعر.

قضية تيران وصنافير ظلت لشهور معروضة أمام المحاكم المصرية، وانتهى الأمر بحكم نهائي من المحكمة الإدارية العليا فى مصر يوم 16 يناير الجاري يقضي ببطلان الاتفاقية وبمصرية الجزيرتين. وهو ما جعل الحكومة المصرية المساندة للاتفاقية في موقف عصيب. حتى الآن لم ترد الحكومة السعودية رسميا على الحكم القضائي، انتظاراً للموقف الرسمي المصري، وهناك حديث عن ذهاب الدولتين إلى التحكيم الدولي.

الشارع المصري ضد الاتفاقية، والحكومة المصرية تؤيدها، يذكرنا ذلك بموقف رئيس الوزراء البريطانى ديفيد كاميرون من استفتاء البريكست الذي انتهى بخروج بلاده من الاتحاد الأوروبى، لقد صوت الشعب الانجليزى على غير رغبة رئيس الوزراء الذي استقال عقب الاستفتاء.

أمور كثيرة تغيرت بعد ثورات الربيع العربى، الشارع أصبح يمثل أداة ضغط على الحكومات، الشعوب أصبحت أكثر تمسكاََ بحقها في المشاركة في الحكم، وعلى الحكام العرب أن يدركوا ذلك. تيران وصنافير امتحان لحكام مصر والسعودية، ومدى نجاحهما في التهدئة، بدلا من دفع الأمور إلى التصعيد.

الخلافات بين البلدان العربية فيما سبق كانت خلافات رسمية بين الحكام لا تصل للشارع، ولكن فى حالة الجزيرتين الأمر مختلف، فالأمر يخص أرض الوطن، وهو ما يمكن أن يترك شرخاً في نفوس الشعبين المصري والسعودي، ما لم يتم التعامل مع هذا الملف بروح الفريق الذي يسعى للمصلحة الجماعية وليس الفردية. الروح التي استطاعت أوروبا بها أن تتجاوز الآلام وخسائر الحرب العالمية الثانية، ويمكن أن تتحول الاتفاقية إلى شراكة وتعاون استراتيجي بين البلدين على الجزيرتين.

هذا هو الحل الأقرب للحكمة والصواب، لكن هناك سيناريوهات أخرى، أن يتم تمرير الاتفاقية من جانب الحكومة المصرية بالمخالفة لحكم القضاء، أو تستخدم السعودية أوراق ضغط على مصر، مثل ترحيل العمالة المصرية، والتأثير على المصالح الحيوية لمصر في إفريقيا والدور المصري في ليبيا المرتبط بأمنها القومي لتمرير الاتفاقية. في كلتا الحالتين سيؤدي ذلك لزعزعة الاستقرار السياسى فى مصر التي تمر بفترة اقتصادية صعبة بعد تحرير سعر صرف عملتها المحلية (الجنيه) ونقص الاحتياطي من العملات الأجنبية، والذي أدى إلى معاناة غالبية الشعب المصرى بعد الارتفاع غير المسبوق في أسعار السلع الأساسية، مع تدني الأجور وارتفاع معدلات البطالة. إن أي شقاق جديد فى الشارع المصرى لن يكون فى صالح الرئيس عبد الفتاح السيسي.

السعودية كانت في مقدمة الدول العربية والخليجية التى ساندت ثورة 30 يونيو ونظام 3 يوليو، الذى عزل مرسى وجماعته. واستخدمت أوراق ضغط كثيرة لتجعل الرأي العام العالمي يتقبل الثورة الشعبية وأنها ليست انقلاب عسكري، كما ساند الملك عبد الله رحمه الله السيسي في السنة الأولى من حكمه لأن السعودية أدركت أن استقرار مصر مهم لاستقرارها واستقرار الخليج ولا يزال. وأن عدم استقرار بلد عربى كبير ومهم مثل مصر سيكون له تداعيات كبيرة على المنطقة كلها وموجات إرهاب جديدة، وتعقيدات الجميع في غنى عنها.

الرهان على صبر الشعوب العربية وسكوتها لم يعد رهاناً حكيماً، ويجب أن يؤخذ رأي الشعوب عند رسم السياسة الداخلية والخارجية للبلدان العربية. أعتقد أن هناك فرصة لتحسين العلاقات المصرية السعودية رغم أزمة تيران وصنافير وما سبقها، فالخسارة ستعم على الجميع في حال ساءت العلاقات، وانتصار السعودية فى قضية تيران وصنافير سيكون بطعم الهزيمة عالي التكلفة على المدى الطويل، مهما كانت فوائده العاجلة.

منشورات أخرى للكاتب