«جاستا»: إعلان حرب

ضرب الكونغرس الأمريكي بالفيتو الثاني عشر للرئيس الأمريكي باراك أوباما عرض الحائط، ولم تفلح كل تحذيرات الخبراء في ثني مجلسي الشيوخ والنواب الأمريكيين عن التشبث بقانون العدالة ضد رعاة الإرهاب «جاستا».

وكان أوباما أكد في معرض تبريره لقراره نقض هذا القانون، أن التصويت لهذا التشريع الذي يتيح لأقارب ضحايا هجمات الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) عام 2001 رفع دعاوى قضائية ضد الحكومة السعودية للمطالبة بتعويضات من ِشأنه أن يمسّ بحصانة الدول السيادية التي تحمي الدول من القضايا المدنية والجنائية، كما أنه يعرّض موظفي الحكومة الأمريكية العاملين بالخارج إلى مخاطر.

أعضاء المجلسين لم يهتموا لخطورة هذا القانون ولا لتأثيره على العلاقات الاستراتيجية والتاريخية التي تجمع المملكة العربية السعودية بأمريكا، علاقات تعود لما يقارب الـ70 عاما من التعاون الإقتصادي والسياسي وحتى الإستخباراتي، بل إن واشنطن تعتبر الحليف التاريخي والتقليدي للمملكة.

الملفت في قرار الكونغرس هو التصويت بأغلبية ساحقة لفائدة هذا التشريع، على الرغم من كل مبرّرات وتحذيرات البيت الأبيض وتهديدات المملكة العربية السعودية.  

ويسمح مشروع القانون لعائلات الضحايا بمقاضاة أي عضو في الحكومة السّعودية يعتقد أنه لعب دورًا في أي مرحلة من مراحل الهجمات. في الواقع أنه على الرغم من الترويج لشعور الصدمة والخيانة لدى السعوديين إلا أنه من الأكيد أن المسؤولين السعوديين قد أخذوا بعين الإعتبار إمكانية التصويت لفائدة هذا القرار فهو قرار يمسّ السياسات الوطنية.

بعض المحللين أرجعوا التصويت لفائدة هذا التشريع إلى الأجواء الإنتخابية التي تعيشها الولايات المتحدة الأمريكية والتي تعمل الأحزاب المتنافسة على الإستفادة فيها من كل الملفات ومنها ملف ضحايا أحداث 11 سبتمبر 2001، خاصة وأن عائلات الضحايا تمارس ضغوطات من أجل تمرير هذا القانون.

وعلى الرغم من أن «جاستا» لا يتوجه إلى السعودية بصفة فردية بل يهدّد العديد من الدول وعلى رأسها أمريكا إلا أن تورّط 15 سعوديا في هذه الأحداث جعلها تظهر بمظهر المستهدفة من هذا القانون. وعدا عن ذلك فإن استباق إعلان هذا القانون بتهديد وزير الخارجية السعودي، عادل الجبير، بنقل الودائع السعودية التي تبلغ 750 مليار دولار من البنوك الأمريكية، لم يتلوه أي رد فعل في اتجاه تقريع الحليف الإستراتيجي على سوء المعاملة.

وهو ما يطرح أكثر من تساؤل عن مدى جدّية هذا القانون؟ وكذلك عن مدى جاهزيّة المملكة العربية السعودية للتعامل مع تداعيات هذا التشريع؟

للإشارة فإن العلاقات بين السعودية وأمريكا تعرف منذ فترة فتورا واضحا وعلى الرغم من الغضب السعودي تجاه أمريكا وشعورها بخيانة وخذلان حليفها التقليدي، خصوصا بعد رفع العقوبات عن إيران، إلا أنه على ما يبدو كان أوباما لوحده دائم الحرص على عدم القطع تماما مع الحليف التقليدي، بل إنه حارب كثيرا من أجل أن يحفظ سبلا لعودة الوئام.

قبل التساؤل عن ما بعد «جاستا»؟ هناك تساؤل ملح عن ما إذا كانت السعودية تتعرّض لمؤامرة تهدف إلى إنهاكها وإضعافها؟

من دون شك أن المملكة تمرّ بفترة عصيبة، فبعد سيطرتها على سوق النّفط العالمية لعقود، تخضع اليوم إلى ضغوطات أنهكتها إقتصاديا في ظلّ تخلي حلفائها عنها، ضغوطات دفعتها إلى إعتماد سياسات تقشفية منها خفض رواتب الوزراء بنسبة 20% وأعضاء مجلس الشورى بـ15% أولاً، ثم اجراء تعديلات جوهرية على رواتب الموظفين في القطاع الحكومي.

موازين القوى تبدّلت ويبدو أن تحالفات جديدة في طريقها إلى التشكّل، تحالفات تفرضها مصالح إقتصادية وسياسية عالمية قلبت كل الموازين وأضعفت وزن السعودية ضمن التّحالفات العالمية، حتى أنه يمكننا الذهاب إلى القول بأن «جاستا» ليس سوى أداة قانونية لإبتزاز المملكة، خصوصا وأن السعودية سبق وأن قدمت لأمريكا فروض الولاء منذ 2001 من خلال جملة من الإصلاحات الدينية والتعليمية، تكفّلت بتطبيقها كإثبات لحسن النية. وعليه فإن العودة إلى إنعاش ملف تفجيرات الحادي عشر من سبتمبر2011 لا يبدو على قدر من البراءة يقتصر على تعويض الضحايا، بل إنه يتجاوز ذلك ليكون ملفا للإبتزاز في إطار لعبة إنتخابية تستباح فيها كل الطرق والوسائل.

ومن هذا المنطلق فإنّ عددا من الخبراء يؤكدون أن أمريكا قد تقوم بتجميد الـ 750 مليار دولار من الودائع والأصول المالية السعودية في أمريكا لتعويض ضحايا الهجمات.

وفي الوقت ذاته، لم تفلح لا تهديدات وزير الخارجية السعودي ولا وعود ولي ولي العهد الأمير محمد بن سلمان بفرص تعاون إقتصادي واستثمارات في إطار الرؤية الإقتصادية 2030، لم تفلح في إسالة لعاب أمريكا وثنيها عن قراراتها الجاحدة.

من المؤكّد أن المملكة العربية السعودية تعيش مرحلة انتقالية صعبة داخليا وإقليميا، ففي الوقت الذي تسعى فيه إلى إقرار جملة من الإصلاحات الإقتصادية التي من شأنها أن تنقلها إلى مصاف الدول الرأسمالية، تترصّدها جملة من التحدّيات الإقليمية تتمحور أساسا في صراعها التاريخي مع إيران، وهو ما يجعل من إقصاء حلفائها لها واصطفافهم في تحالفات إقليمية جديدة، ضربة موجعة للمملكة التي تخوض حروبا على أكثر من جبهة، حروب بدأت بمباركة الحليف التقليدي وانتهت بوقوف السعودية لوحدها على أرض المعركة بعد أن تقوّضت أسس العلاقة الإستراتيجية التي تجمع أمريكا والسعودية، وهي علاقة تقوم على معادلة الحماية الأمريكية مقابل النفط السعودي. الوضع الإقتصادي العالمي اليوم يقرّ بتلاشي أسس هذه العلاقة بعد انتفاء الحاجة الأمريكية للنفط السعودي بفعل النفط الصخري.

من الضروري للمملكة اليوم أن تراجع حساباتها وسياساتها الخارجية، فهي اليوم تواجه تحدّيا صعبا على المستوى الإقتصادي والسياسي والإجتماعي أيضا وربّما من أهم القرارات وأسرعها هو غلق كل الملفات الإقليمية التي تورّطت فيها بمباركة غربية وأمريكية.

وبغض النظر عن كون «جاستا» أداة إبتزاز ضمن خيوط لعبة سياسية وانتخابية، فإن الفوضى التي من شأن أن تتمخّض عن تطبيق هذا القانون ستكلّف أمريكا قبل غيرها من الدّول الكثير، لا فقط ماديا، وإنّما على مستوى هيبتها كدولة عظمى، وهو بالمناسبة ما كان يرمي إليه أوباما من خلال رفعه الفيتو ضدّ هذا القرار.

«جاستا» يضع العالم أمام خيارين إما الفوضى العارمة والتي لن تقصى فيها أمريكا من دفع الفاتورة أو آمال واهية في دفع تعويضات لضحايا 11 سبتمبر وهي للعلم ورقة ضغط تخفيها أمريكا متى ما كانت راضية وترفعها في وجه المملكة متى ما ارتأت ذلك. وعليه سيكون «جاستا» كما راج عنه موجّها لإدانة السعودية دون غيرها بأنها «راعية للإرهاب»، وبالتالي ستكون حربا معلنة بين الحليفين التقليديين سيسعى كل منهما إلى حشد المؤيدين والحلفاء عبر العالم، لينتهي عهد الوئام ويعلن الطلاق بعد حوالي سبعة عقود من الودّ.

مصدر الصورة: aoc.gov

منشورات أخرى للكاتب