“ساق البامبو” جرأة في حدود المسموح به

بعيداً عن مقارنة المعالجة الدرامية لرواية “ساق البامبو” بالنص الأدبي، وهي مقارنة، اعتبرها غير جائزة وتهضم العمل بصيغتيه حقه، فإن “ساق البامبو”، كان علامة مضيئة في الأدب الكويتي والخليجي كما كان علامة فارقة في الدراما الخليجية.
“ساق البامبو” الذي قاد سفينة الإخراج التلفزيوني فيه المخرج البحريني محمد القفاص، أثار الجدل حتى قبيل تصويره، بعد أن امتنعت الرقابة الكويتية عن السماح بتصويره على أراضيها. وللأمانة لا يزال التساؤل عن سبب المنع يراودني، بل إنه أضحى أكثر إلحاحاً بعد مشاهدتي المسلسل.
أكثر من قضية طرحها هذا العمل الدرامي، وهي في أغلبها قضايا حساسة بالنظر إلى الخصوصية الثقاقية والاجتماعية للمجتمعات الخليجية عامة وهي خاصية لا تقتصر على الكويت لوحدها. العلاقات الغرامية مع الخادمات، الكويتيون بملامح شرق آسيوية، الكويتيون البدون، جميعها قضايا رابطها الأساسي الهوية الضائعة داخل الذات والمجتمع على حدّ السواء، فعيسى الطاروف أو خوسيه كان يدافع عن هوية وانتماء لم يكن هو ذاته مقتنعاً بها، فكان دفاعه متردداً، خائفاً من ردّ فعل الجميع.
هذا الانقسام والصراع الداخلي لم يختص به عيسى الطاروف، بل شمل أغلب شخصيات المسلسل. الجدّة غنيمة عانت هذا الانقسام فبينما كانت تتحسس وجود ولدها في شخصية ابنه، كان النظر إلى جهه وملامحه ينفّرها منه ويذكّره بكل العُقد والمحاذيرالمجتمعية. الأخت خولة والعمتان هند وعواطف كن يدرن في نفس هذه الدوامة، حتى أنهن رضين بعودة عيسى الطاروف إلى الفلبين رغم قناعتهن بتعرضه للظلم من الجميع بل إن العمة عواطف انتصرت للخوف من الفضيحة على صلة الرحم وهي المرأة المتدينة.
يحسب لـ” ساق البامبو” خوضه صراحة ودونما مواربة لموضوع العنصرية التي تتعامل بها المجتمعات الخليجية مع الشعوب الأخرى وبالخصوص المجتمعات التي عرفت تاريخياً بتزويدها بلدان الخليج بالعمالة المنزلية، هذه النظرة الدونية للآخرين منعت عائلة الطاروف من الاعتراف بحفيدها وسمحت للجدّة بتقديمه للجيران على أنه خادم فلبيني، “بس ما أحد يدري” أنه يوجد في عائلتها حفيد ابن خادمة فلبينية وإن كان هذا الحفيد هو آخر ذكور العائلة.
النظرة الدونية ذاتها جعلت جيران عائلة الطاروف يلغون عرض الزواج الذي تقدّم به ابنهم للزواج ب”نور” وهي ابنة عم عيسى الطاروف، الكويتي بملامح فلبينية مع أنه ليس للفتاة يد في كل هذا الموضوع.
قضية الـ”بدون” أي الكويتيون الذين لا يحملون الجنسية الكويتية ولا أي جنسية أخرى، التي تعرّض لها المسلسل من خلال شخصية “غسان” الصديق المخلص، من القضايا العالقة في المجتمع الكويتي، فئة كبيرة تعاني التّفرقة والعنصرية حتى على مستوى القوانين، هي أيضاً من العلامات التي تحسب للكاتب والمخرج وإن كان سبق وأن تمّ التطرّق إليها في أعمال كويتية أخرى، ولكن الطرح لم يكن بهذا الوضوح.
على أنّ الجرأة التي وصف بها مسلسل “ساق البامبو”، وإن كان لابدّ من الإقرار بأنها جرأة تستفز المجتمعات الخليجية المتمسّكة بطابعها المتحفّظ الرافض لكلّ نقد من شأنه أن يمسّ بعاداته وتقاليده وحتى صورته التي يرسمها أمام الآخرين، إلا أنه لا يمكن التسليم بأنّ القائمين على هذا العمل الدرامي قد تجاوزوا الخطوط الحمراء بدليل قبول دولة الإمارات العربية المتحدة بتصوير العمل على أراضيها على الرغم من أنه سبق للكويت أن منعت تصويره في دلالة واضحة على اتساع مساحة الممنوعات في حرية التعبير في بلد يشهد له بالريادة في الإنتاج الدرامي والأعمال الفنية على المستوى الخليجي.
إن القول بأن “ساق البامبو” يفضح المسكوت عنه في المجتمعات الخليجية لا يبدو على درجة من الدّقة، ذلك أن ما قيل من خلال هذه العمل الدرامي، وإن كان جريئاً فإنه لا يرقى إلى مستوى كسر التابوهات التي لازالت المجتمعات الخليجية في حدّ ذاتها تغض الطرف عنها ولا تقبل بالإقرار بها.
ولا يعني هذا التقليل من قيمة المواضيع المطروحة في هذا العمل وإنما هو تذكير بأنّ ما تخفيه ملفات الحالات المدنية لا يكاد يقارن بمالم يسجّل في هذه الدفاتر أو بما تخفيه العائلات بين جدران بيوتها.
ومع ذلك لابد من الإقرار بأن الدراما التلفزيونية الاجتماعية “ساق البامبو” لم تكن علامة فارقة فقط على مستوى طرح القضايا وحسب وإنما كانت علامة فارقة على مستوى الأداء التمثيلي ومدى قرب الممثلين من الواقع، إذ غابت المبالغات في الاهتمام بالشكل على حساب الأداء الدرامي وبخاصة لدى الممثلات الشابات على غرار الممثلة الشابة فرح الصراف التي تميّزت بأدائها التمثيلي العالي بعيداً عن البهرجة التي لا تخدم السياق الدرامي.
الأكيد أن مسلسل “ساق البامبو” أسّس لنمط جديد من الدراما الخليجية أو لنقُل أنه خطا خطوة كبيرة على مستوى طرح القضايا الاجتماعية ومعالجتها درامياً، ذلك أنه ابتعد عن النّمطية والأفكار المستهلكة، أسس لدراما تلامس الواقع بتفاصيله الصغيرة ولكن مع ذلك لا تزال الدراما الخليجية عاجزة عن المنافسة عربياً على الرّغم من الكم الهائل من الإنتاج الدرامي الذي تقدّمه القنوات التلفزيونية في شهر رمضان، الدراما الخليجية لاتزال تستهوي المواطن الخليجي وبنسبة ضئيلة المقيمين العرب في هذه الدول وحسب. فعسى أن يمدّ منتجو “ساق البامبو” جذورهم في ما أسسوا له في الدراما الخليجية التي عانت لسنوات من النمطية واجترار المواضيع ذاتها، ليقدموا خلال السنوات القادمة منتوجات درامية تنافس على المستوى العربي.

منشورات أخرى للكاتب