الخليج والإخوان: طلاق غير بائن

الإخوان مرشح مثالي رغم تحفظات الخليجيين: تنظيم سني ضخم له امتدادات دولية ويحمل أيديولوجيا لا تدعو لحمل السلاح ضد “الطواغيت”

لن تحدث أبداً تغيرات درامية فهذا ليس فيلم سينما يصل فيه البطل إلى الحق حين يرى علامة سماوية

العام 1945 اجتمع 850 شاباً من “جوالة الإخوان” في الإسكندرية ليرحبوا بالملك السعودي المؤسس عبدالعزيز آل سعود الذي استقبلته طيلة الطريق من محطة القطار إلى قصر رأس التين. كان الإخوان يغنون قصيدة مدح كتبها صديقهم الأزهريّ الشاب يوسف القرضاوي “ملائكة تلك أم أنبياء أم ابن السعود إلى مصر جاء”.
دارت الدنيا مراراً كعادتها حتى وصلنا إلى محطة ما بعد 30 يونيو/حزيران 2013حين تحول ورثة آل سعود لألد أعداء ورثة حسن البنا، لكن سرعان ما هدأ غبار تلك الغزوة الخليجية لتتضح صورة تحمل تفاصيلاً لاحتمالاتٍ مفتوحة، تجعل المصالحة الإخوانية الخليجية غير مستحيلة وغير ممكنة.
فلندفن الربيع!
منذ اللحظة الأولى للربيع العربي قادت السعودية جيرانها لمعاندة الرياح الجديدة، استضافت ديكتاتور تونس الهارب، حاولت الضغط على أمريكا لدعم مبارك، ثم بعدها ضغطت بشدة كي لا يُحاكم كما ظهر بوثائق ويكليكس.
في 5 فبراير/شباط 2011 قال مفتي المملكة إن المظاهرات والمسيرات هي فتن مدبرة من “أعداء الإسلام” وحذر الشباب من الاستجابة لوسائل الإعلام الجائر”.
منذ ذلك الحين أصبح الإخوان، الذين كانوا جزءاً من الثورة المصرية، في معسكر مقابل للمعسكر الخليجي. ترافق ذلك مع تحالف قوي بين الإخوان وقطر، المنافس التاريخي الأبرز للسعودية والدولة الخليجية الوحيدة التي دعمت الثورات والأنظمة المولودة منها.
أتى تدخل الجيش المصري في 3 يوليو/تموز 2013 بمثابة عصا سحرية يمكنها قلب الموازين أخيراً، ليتغير المسار السياسي للمنطقة كلها، ولعل هذا ما يفسر اللهفة الخليجية التي ظهرت في دعم نظام السيسي في العام الأول بحوالي 20 مليار دولار، كما تجلت في مشاهد رمزية كتقبيل السيسي رأس ملك السعودية ووصفه له بـ”كبير العرب”، وهذا غير معتاد من ممثل دولة ترى نفسها “الشقيقة الكبرى” .. وهكذا أصبح النفط في عيون الإخوان أحمراً بلون دمائهم.
ليس خليجاً واحداً..
في مقاربة مستقبل العلاقة الخليجية الإخوانية، نحتاج أولاً تحرير مصطلح “الخليج”، وهنا تظهر اختلافات التفاصيل. بعكس الشائع فإن رأس الحربة الأكثر تشدداً ضد الإخوان هي دولة الإمارات، وهو موقف يستند إلى مخاوف داخلية من التنظيم الذي استيقظت الدولة في الثمانينات على وصول نفوذه إلى سيطرة شبه كاملة على وزارة التعليم بما يشمل وضع المناهج، واختيار المبتعثين للدراسة بالخارج، كما يستند إلى موقف أيديولوجي لحُكام الإمارات ضد الإسلام السياسي بشكل عام.
تأتي السعودية تالياً بمخاوف تتعلق بالدرجة الأولى بتصدير الثورات وليس بالإخوان في حد ذاتهم، خاصة أن السعودية دولة كبيرة يسكنها 31 مليون نسمة، ثلثاهم من السعوديين، مع وجود مشاكل يمكن أن تشكل شرارات الغضب، كالفقر والبطالة والبنية التحتية، والتوتر الطائفي.
تأتي البحرين تالياً كتابع للموقف السعودي، وهي التي لم تنس تدخل قوات درع الجزيرة لقمع بذرة الثورة عام 2011، بينما يبدو موقف الكويت مؤيداً من دون حماس مبالغ فيه، ربما بحكم النفوذ الإخواني داخل مجلس النواب الكويتي.
سلطنة عمان هي الأكثر فتوراً في موقفها من الحرب على الإخوان، لكنها بدورها الأقل نفوذاً داخل مجلس التعاون، خاصة في ظل علاقاتها المميزة مع إيران، وعدم مشاركتها في معارك اليمن أو سوريا.
ليست جماعة واحدة …
في يونيو/حزيران 2012 أخبرتنا أرقام جولة الإعادة بالإنتخابات الرئاسية بمؤشر واضح عن وجود الإخوان بالسعودية: فاز مرسي بأكثر من 90% من الأصوات، 74 ألف صوت، مقابل حوالي 7700 فقط لشفيق.
في 7 مارس/آذار 2014 أعلنت السعودية ضم جماعة الإخوان إلى قائمتها للجماعات الإرهابية، وشدد القرار على تجريم “التعاطف مع تلك الجماعات والتيارات بأي وسيلة كانت أو تقديم أي من أشكال الدعم المادي أو المعنوي”.
أخبرني مصدر قريب من إخوان السعودية، أن مسئولاً بالداخلية السعودية استدعى أحد كبار الإخوان المصريين بالمملكة وأكد له أنهم لن يتعرضوا لأذى ماداموا لا يُظهرون أنشطتهم على الملأ، وأن القرار موجه ضد الإخوان داخل مصر وليس إخوان السعودية، القصة ليست موثقة، لكن المؤكد أنه، باستثناء حالات نادرة، لم تحدث أية اعتقالات أو ترحيلات لآلاف من أعضاء الإخوان داخل السعودية، واستمر وجودهم وتحويلاتهم لأموالهم، كما تعامل الخليج مع ممثلي الإخوان إقليمياً بشكل طبيعي.
على الجانب الآخر حافظ الإخوان على شعرة معاوية مع العرش السعودي، لا تهديدات بإسقاط الملك أو حتى بيانات رسمية حادة، وحين أذاعت قنوات إخوانية تسريبات السيسي التي يسخر فيها من دول الخليج، وأطلق شبابهم “هاشتاج” #السيسي_يحتقر_الخليج، بدا ذلك أقرب إلى منافسة على الفوز بالحب الخليجي.
رياح الجغرافيا تعاكس “الجنرال”
بقدر ما كانت سوريا طوق النجاة للنظام المصري الذي يكرر ممثلوه مراراً نغمة التخويف من مصير الدول المجاورة، بقدر ما كانت هي نفسها من أسباب تراجع الحماس الخليجي نحوه.
في عقيدة الأمن القومي الخليجي العدو الأول هو إيران، وبالتالي أجمعت دول الخليج قولاً واحداً على دعم المعارضة السورية ضد بشار، في المقابل أعلنت مصر في عهد السيسي بوضوح موقفها الداعم لنظام بشار، مما أسفر عن توتر مكتوم، ظهر في القمة العربية الأخيرة حين فاجأ الرئيس السيسي الحضور بقراءته رسالة من الرئيس الروسي بوتين فرد عليه وزير الخارجية السعودي سعود الفيصل فوراً بأسلوب حاد.
في سبتمبر الماضي أعلنت روسيا تدخلها العسكري المباشر لدعم النظام السوري، وبشكل جماعي أدانت دول الخليج بشدة ذلك التدخل، بينما على العكس أيدته الخارجية المصرية رسمياً.
اليمن بدوره ركن هام في عقيدة الأمن القومي الخليجي، لذلك أطلق الخليج تحالفه العسكري ضد الحوثيين، ورغم إظهار مصر تأييدها لتلك الخطوة، لكن لم يتم ترجمة ذلك إلى تدخل عسكري واضح وصريح على الأرض.
على الجانب الآخر يظهر موقف الإخوان أقرب للخليج في تلك الملفات، فنظام الإخوان بمصر حسم انحيازه المعلن لصالح الثورة السورية والإخوان السوريون أعداء بشار الأسد بالتعريف، والإخوان في اليمن ممثلين بحزب الإصلاح شاركوا في قوات “المقاومة الشعبية”، كما يتخذ الإخوان العراقيون الآن تموضعاً مطابقاً للموقف الخليجي، ضد داعش التي تعتبرهم عملاء مرتدين، وضد الحكومة المدعومة إيرانياً.
إذن تغير الوضع الإقليمي، ومعه تغيرت أولويات الخليج، لم يعد الخطر الأكبر هو تمدد الثورات، بل الأشد خطراً هو إيران وداعش، “الباقية وتتمدد”، وبناء عليه فإن الخطة السعودية الدائمة هي تشكيل تحالف سني يقف بوجه التحالف الشيعي، وفي هذا السياق يبدو الإخوان مرشحاً مثالياً رغم كل التحفظات، تنظيم سني ضخم له امتدادات دولية، ويحمل أيديولوجيا لا تدعو لحمل السلاح ضد “الطواغيت” كما تؤمن القاعدة وداعش.
المصالحة.. قصة الجري في المكان
هل يمكن إعادة وصل ما انقطع؟ لا مستحيلات في السياسة، لكن الأمر يتوقف على مدى ثوابت وتنازلات كل طرف.
أولاً: يجب الإنطلاق من مبدأ أنه لن تحدث أبداً تغيرات درامية، هذا ليس فيلم سينما يصل فيه البطل إلى الحق حين يرى علامة سماوية، كتعويل بعض الإخوان على تغير جذري بالسياسة السعودية بعد وفاة الملك عبدالله. الممكن هو تغيرات نسبية، كابتعاد الخليج خطوة عن النظام المصري، فالمنح الخليجية تراجعت بشدة في عامه الثاني بينما تقدم الإخوان خطوة نحوه إقليمياً، كما تأكدت عودة قطر الكاملة إلى حضن إخوتها، بحكم التنسيق الكامل في سوريا واليمن.
ثانياً: يجب أن توضع في الاعتبار موازين القوى، فمن غير المنطقي مثلاً أن يتمسك إخوان مصر بمطلب عودة مرسي بعد أن تجاوز الزمن هذه اللحظة تماماً وفي ظل كون الجماعة في الطرف الأضعف من التفاوض بحكم أنها قوة مهزومة.
ثالثاً: لا وجود لصيغة حل جزئي، يجب وضع إطار لتسوية إقليمية شاملة.
صيغة المصالحة المصرية التي تبدو مناسبة خليجياً هي الأقرب لعصر مبارك، حيث يسيطر الجيش ومؤسسات الدولة القديمة على الحكم في مصر، خاصة ملفات الأمن القومي، بينما يُمنح للإخوان حرية الوجود والعمل مع تمثيل محدود في دوائر الحكم كنسبة محكومة من البرلمان.
في يونيو الماضي زار راشد الغنوشي، زعيم حزب النهضة التونسي، المملكة العربية السعودية محاولاً إقناعها بالتوسط لمصالحة في مصر. قال الغنوشي في حوار لصحيفة الخبر الجزائرية إنه “سيظل هناك جيش وسيظل هناك إخوان وستظل هناك كنيسة وقوى ليبرالية ولا مناص أن يعترف الجميع بالجميع”.
الرد غير المباشر من النظام المصري على جهود الغنوشي كان التأكيد عبر إعلاميين وسياسيين على الرفض التام لأي صيغة لا تتضمن حل جماعة الإخوان والاعتراف بالنظام والعمل في إطاره.
لو كان خيار الإخوان هو العودة إلى البيت الخليجي فسيتطلب منهم ذلك تنازلات مزدوجة، تنازلات للنظام المصري تتمثل في إعلان حل الجماعة الحالية، إنشاء جماعة دعوية وخيرية بحتة بقيادات جديدة ثم بعد فترة تأسيس حزب أو عدة أحزاب على يد أعضاء بالجماعة مستقلين تماماً عن هيكلها.
على الجانب الآخر تنازلات لدول الخليج تشمل تعهدات شديدة الحزم عن أنشطتهم المسموحة داخل دوله وإثبات فاعلية أكبر في استراتيجية عالمية ضد داعش وإيران.
في المقابل، على بعض دول الخليج التنازل عن حلم إزالة الإسلام السياسي كاملاً من المشهد، واستخدام وسائلها للضغط الاقتصادي لقبول النظام المصري بالصيغة سالفة الذكر وقبوله أيضاً بتقديم تسوية ما لملف المتورطين في الدماء من رجاله وحل ملف المعتقلين كأولوية قصوى ثم توفير تمويل ضخم يكفي لتعويضات “جبر الأضرار”.
لكن في ظل تصلب مواقف كل الأطراف وعدم استعدادها لتقديم أي تنازلات ووجود عنصر الدماء في المشهد واعتبار أن استمرار وجود أسماء شخصيات معينة من “الثوابت” عند معسكرات، بينما هذه الأسماء نفسها مطلب إزالتها من المشهد هو أول “الثوابت” لمعسكرات أخرى، سيبقى الجمود مهيمناً إلى أن يحدث ما يكسر ثابتاً ما عند أحد الأطراف.

منشورات أخرى للكاتب