لماذا لا تلتزم سلطنة عُمان بنشيد الجوقة؟

تُطبِّق عمان الحياد الإيجابي [positive neutrality] بشكل واضح وهي لا تنحاز إلى طرف على حساب الآخر

رهانات سلطنة عُمان هي إبعاد شبح التأزيم والذي ينعكس سلباً على اقتصاديات المنطقة وقد ثبت صحة ذلك الرهان

لم تضع الأزمات أوزارها في العالم العربي بعد، بل يمكن القول أن تلك الأوزار ظلت مرفوعة منذ سنوات الاستقلال ولغاية اليوم. وربما زاد لَمَعان سيوف أحمالها أكثر منذ ديسمبر من العام 2010م في تونس وإلى الآن، والذي اصطُلِحَ عليه بـ الربيع العربي، الذي اجتاح أكثر من دولة عربية.
وخلال كل مرحلة من مراحل صراعات العالم العربي وعموم الإقليم الشرق أوسطي كانت دول العرب تتموضع في غير مكان. فمنذ حلف بغداد، ومروراً بحرب اليمن والحرب الأهلية اللبنانية ثم الحرب العراقية الإيرانية ثم أزمات الخليج الثانية والثالثة وانتهاء بالربيع العربي بدا واضحاً حجم الاصطفافات العربية، وتكاليفها من حيث المال والدَّم، فضلاً عن كلفة اختلال الأمن القومي.
وإذا ما أراد أيّ مُنصف تتبع السياسة العُمانية على طول ذلك الخط، سيرى أنها مختلفة عن السائد ولكن ليس في اتجاه النشاز بقدر ما هي سياسة تقوم على التوفيق بين الخصوم، والابتعاد عن أي خصومة، حتى مع مصر، حين قاطعها العرب بعد توقيعها كامب ديفيد عام 1977م، حيث كان الخيار العماني هو المحافظة على مصر كونها مركز الثقل العربي، وهو ما صحّ لاحقاً.
لقد رأينا تحركاً عمانياً لإنهاء الحرب العراقية الإيرانية، ثم تقريب وجهات النظر بين السعودية وإيران بعد انتهاء الحرب، وبعدها إنهاء النزاع المسلح بين اليمَنيْن (الشمال والجنوب) سنة 1994م، وانتهاء بتسوية الملف النووي الإيرانية والتي تكللت باتفاق الدول الست الكبرى مع طهران في العاصمة النمساوية فيينا، وهو الملف الذي جعل العالم يقف على رجل واحدة طيلة عقد.
أمام كل ذلك لا يمكن أن تُوصَف السياسة العمانية الخارجية على أنها سياسة عزلة، بل هي فاعلة ولكن باتجاهات أخرى تتعلق بالنأي عن الصراع والجنوح إلى السلم. وهو ربما خارج المألوف للعديد من الدول الإقليمية، التي تنتهج سياسات توصف بأنها سياسات خصومة وقطيعة.
لذلك، فإن عمان اليوم تُطبِّق نظرية الحياد أو الحياد الإيجابي positive neutrality بشكل واضح. فهي لا تنحاز إلى طرف على حساب الآخر، مع حفاظها على مبدأ الحق الطبيعي في مطالب تلك الأطراف “العادلة”. وقد حوَّل ذلك سلطنة عمان إلى طرف مقبول لدى العديد من الدول المتخاصمة، بما فيها الدول الغربية التي لجأت إليها في تسوية مشاكلها مع الإيرانيين.
موقع السلطنة في مجلس التعاون لم يدفعها لأن تكون نسخة مشابهة للقائم من السياسات، ولذلك؛ لم تدخل مع إيران في ملف خصومة حيث كان الموقف العماني مختلفاً عن بقية الدول الخليجية حيث أبقت على علاقاتها السياسية والتجارية والثقافية مع طهران. وقد لخّص وزير الخارجية العماني يوسف بن علوي بن عبد الله تلك العلاقة في إحدى تصريحاته الصحفية بقوله: “علاقاتنا مع إيران كجار علاقات جيدة، فيها صدقية ومودة ولا توجد خلافات بيننا”.
وأضاف “أعتقد أنه من واجب الجميع في كل مكان أن تكون علاقات الدول في ما بينها إيجابية وجيدة، وتتسم بالمصالح المشتركة ولا تكون طرفاً ضد طرف أو طرف يستفيد وطرف لا يستفيد، هذه سياسية غير موجودة عندنا، نحترم الجميع والجميع يحترمنا، ولا نرى ما يُفيد في أن تكون هناك استقطابات أو تجمعات إقليمية على حساب طرف أو طرف آخر، وهذه سمة العلاقات العمانية مع جميع الدول ومنها إيران كدولة جارة لنا ولها دور أساسي”.
كما أن مقعدها في جامعة الدول العربية لم يجعلها مُلزَمة بذات السياسات العربية في أكثر من ملف، سواء في ليبيا أو مصر أو سوريا، بل استقلّ العمانيون بسياساتهم تجاه كل تلك الملفات. لكن ذلك لم يمنع السلطنة من الحضور بفعالية في الجامعة التي انتهجت موقفاً سلبياً إبان حرب ظفار 1965 – 1975. وقتئذ، رفضت الجامعة قبول عضوية سلطنة عمان بضغوط سورية ومصرية، فيما قدمت كل من المملكة المتحدة وإيران والسعودية مساعدات مالية وعسكرية لكبح التمرد.
في الملف الليبي كانت مسقط تراقب حرب الأطلسي على ليبيا بحذر شديد، ولم تدخل في تفاصيلها، لكنها أيضاً لم تتردّد في استقبالها لعدد من أفراد عائلة القذافي في العام 2013م ومنحهم حق اللجوء لديها، بشرط عدم قيامهم بأي نشاط سياسي، حيث تفهّم الليبيون ذلك بعد زيارة رئيس المؤتمر الوطني العام محمد المقريف آنذاك للسلطنة. وهي اليوم تقوم بجهود مشتركة مع الجزائر لدعم التسوية السياسية في ليبيا، خصوصاً وأن الجزائر جار مهم لليبيا.
وفي مصر، فإن العمانيين كانت تربطهم علاقات وثيقة بالنظام السياسي المصري قبل ثورة 25 يناير، لكنهم احترموا خيارات الشعب المصري، سواء في الفترة الانتقالية أو حتى خلال حكم محمد مرسي. وعندما تغيَّر الأخير كانت مسقط مؤيدة للتغيير الجديد وإنْ بحذر، ومتّنت علاقاتها مع الرئيس عبد الفتاح السيسي، وحاولت الاستفادة من موقع مصر في مساعيها التوفيقية.
ويمكن فهم الموقف العماني من مصر، من خلال تصريحات لوزير الخارجية المصري سامح شكري الذي قال بأنه يتفاهم مع العمانيين حول “الأوضاع في سورية والعراق واليمن وليبيا وتحدي الإرهاب” فضلاً عن “استمرار التشاور الوثيق على مستوى التنسيق بين الدول العربية لإيجاد الحلول المناسبة لتلك القضايا بما يحفظ الأمن القومي العربي ويتيح استمرار استقرار ووحدة أراضي وسيادة الدول العربية في مواجهة الأطماع والتحديات الخارجية أو عبر الإقليمية”.
أما في سوريا فإن عمان لم تُغلق سفارتها في دمشق طيلة السنوات الأربع الماضية، بل أبقت عليها، وكانت مجالاً حيوياً للرسائل التي كانت تتبادلها دمشق مع بعض الأطراف العربية والإقليمية مثل تركيا. وكان لافتاً زيارة وزير الخارجية والمغتربين السوري وليد المعلم إلى مسقط، حيث كانت الأولى لوزير سوري إلى دولة خليجية منذ اندلاع الأزمة في سوريا مطلع مارس 2011م.
وفي إبريل 2014م أدلى وزير الخارجية العماني بحديث لصحيفة الوسط البحرينية قال فيها صراحة حول سوريا بالقول: “المسألة ليست مالاً وسلاحاً، فالناس أجمعوا أن لا حل إلاَّ حل سياسي في سورية. المال يأتي بالسلاح، والسلاح يقتل الناس، لكن ذلك المال لا يخلق بشراً ويقول لهم أنتم سوريون”. وهو موقف يعكس معارضة مسقط لخيار عسكرة الأزمة في سوريا.
إن رهانات سلطنة عمان في ذلك هي إبعاد شبح التأزيم في المنطقة، والذي ينعكس سلباً على الاقتصاديات الخليجية والعربية. وقد ثبت صحة ذلك الرهان. فالخسائر التي تكبدتها الدول العربية نتيجة الصراعات بلغت مئات المليارات من الدولارات في بحر خمس سنوات، نتيجة خلافات تدفع ثمنها الشعوب لا أكثر، فضلاً عن انهيار للمؤسسات ولمشروع الدولة ووحدتها ومستقبلها.
يُضاف إلى ذلك، فإن سلطنة عمان لها موقف حساس جداً من الصراع الإثني والطائفي القائم في المنطقة، وهي تعتقد أن الخلاف السياسي يزيد من ذلك الصراع، خصوصاً وأن أطرافه متعددون في مذاهبهم وقومياتهم. لذلك، فهي تحرص أن تخفف من وتيرة ذلك الصراع. خصوصاً وأن السلطنة ليست أكثر من أقلية إباضية بين قوتين كبيرتين متصارعتين، شيعية وسنية.