التحديث في السعودية: مشروع لم يبتدئ بعد

مشروع الدولة بكل حمولته الوضعية في السعودية لا بد أن ينقضه مشروع الدين بكل حمولته اللاهوتية والعكس صحيح أيضاً

المواطن “السعودي” لا يحضر إلا باعتباره عضواً في جماعة القبيلة كنظام اجتماعي أو مؤمناً في جماعة الطائفة

تطبيق الديمقراطية دون توافر جوهرها وثقافتها سيسفر عن ديمقراطية هجينة مما يعني استخدام آليات الديمقراطية في قتل مشروع الديمقراطية

ليس ابتداعاً أن نقرأ، أو نسمع، بين الحين والآخر، تصريحاً أو تلميحاً، أن المجتمع السعودي، لم ينضج بما فيه الكفاية، لتطبيق الديمقراطية. أو أن الواقع الاجتماعي لم يتهيأ بعد لاستجلاب أفكار من سياقات ثقافية مغايرة تماماً. تأتي مثل هذه العبارات وغيرها دائماً في خطابات أحد المسؤولين الحكوميين في المملكة العربية السعودية، أو أحد كتاب الصحافة المقربين من السلطة وأجهزتها الحكومية، أو خطابها الإعلامي عبر القنوات التلفزيونية، أو عبر مناهج التعليم المدرسي كما ورد في كتاب الطالب لمادة الدراسات الاجتماعية والوطنية للصف الثالث المتوسط، أو عبر الندوات التي تديرها المؤسسات الرسمية.
تحمل مثل هذه التصريحات مضموناً واحداً، أن هذه الديمقراطية لن تجد مكاناً لتبيئتها، أو أن المجتمع السعودي ذو خصوصية، ينبغي مراعاتها، وعدم تجاوزها بطريقة غير مدروسة، وغير منظمة، تحرق مراحل سيرورة التدرج الطبيعي في تحول المجتمعات، والحاضن الاجتماعي لمشروع التحديث لم يتوفر بعد، أو كما يسميه محمد أركون بالأطر الاجتماعية، حيث أن النخبة المثقفة في المجتمع السعودي أيضاً ما زالت تراوح مكانها الذي تعد فقيرة إذا ما قورنت بأسئلة عصر النهضة بعد دخول نابليون لمصر عام 1798م.
المقارنة بين النخبة المثقفة في السعودية، وبين مثيلتها في عصر النهضة، يجعلنا ندرك أن الثانية قد اجترحت أسئلة مركزية آنذاك على جميع المستويات، وصاغت الإشكالات وقدّمت المراجعات للتراث الديني والسياسي والتاريخي، كمفهوم نظام الحكم وأن الإسلام لم يجترح نظاماً ثابتاً عبر مؤسسة الخلافة مثلاً، لدى علي عبد الرازق، في الإسلام وأصول الحكم، أو استجلاب الأفكار العلمية كما فعل سلامة موسى وشبلي الشميل مع نظرية التطور، وفكرة الانتخاب الطبيعي عند تشارلز داروين، بكل ما تحمله من تهديد للمسلمات اللاهوتية التي تأسست على مجموعة من التأويلات للنصوص المؤسسة، أو ما فعله قاسم أمين من حيث الدعوة للتحديث الاجتماعي في كتاب المرأة الجديدة، أو تبيئة مفهوم العلمانية في السياق الإسلامي كما فعل فرح أنطون في سياق المجادلة مع الشيخ محمد عبده، أو المراجعة التاريخية الارتيابية في ثوابت التاريخ العربي الدنيوي، والتاريخ الإسلامي الديني كما فعل طه حسين.
من جهة أخرى، من الطبيعي أن نجد تصريحاً مختلفاً تماماً، بأن الوقت قد آن لتطبيق الديمقراطية، بما يستتبعها من قانون ودستور، وانتخابات، وبرلمان، وحريات سياسية، ومدنية، وثقافية، وفصل بين السلطة التشريعية والتنفيذية والقضائية. مثل هذه الأفكار المناوئة تأتي غالباً في تصريحات من يتخذ خطاباً مناوئاً للسلطة، عبر الأدوات الشحيحة المتاحة له من وسائل التواصل الاجتماعي، والمواقع الإلكترونية، فالبلاد مقبلة حسب الخطاب المناوئ على تحديات خطيرة ينبغي التعاطي معها بجدية، وإلا فالبلاد حسب هذا الرأي ستؤول حتماً للانهيار. ولن تجد البلاد منفذاً أفضل من نظام الديمقراطية، والحريات المدنية والمشاركة في السلطة، للخروج بالبلاد من عمق الأزمة التي يستشعرها الخطاب المناوئ.
هنا يحضر خطابان متباينان تماماً في الرؤية حول طبيعة الحل الجذري للأزمة التي تعصف بالبلاد، خطاب السلطة عبر كل وسائلها الإعلاميّة، والخطاب الغائب غياباً تامّاً عن مؤسسات الدولة وجهازها الإعلامي، الخطاب الذي أسميه مناوئاً للخطاب الأول، حيث لا يمكن أن يوضع تحت عنوان معارضة، فمفهوم المعارضة السياسية أساساً مفهوم لا يعمل إلا عبر مجموعات سياسية ضمن إطار الدولة، ودستورها، وقوانينها، ويشترك مع السلطة في إدارة شؤون المؤسسات، بخلاف المعارضة الراديكالية التي تتخذ التغيير الجذري الكاسح وسيلة لأهدافها، وإن كان باستخدام العنف المسلح.
بين هذين الخطابين لن أقف منحازاً لاتجاه دون الآخر، بل سأحاول أن أركّز على ما إذا كان الرأي الذي يصرح به المسؤول، أو من يتحدث بمنطقه في الإعلام المكتوب، ووسائل الميديا الحديثة، رأياً يحمل مقداراً من الصحة، أم أنه لا يعدو كونه تسويفاً، وذريعة، ومخاتلة، لعدم الرغبة في الإصلاح التي يتغياها من يتبنى الخطاب المناوئ، ويعتبر منطق السلطة من خلال حديثها عن عدم قابلية المجتمع، أنها ليست جادة في معالجة الملفات العالقة، على جميع المستويات الاقتصادية، والسياسية، والاجتماعية، والتنموية، ومعالجة الخلل في بنية السلطة ومؤسساتها.
السلطة التي لا تعبّر تعبيراً حقيقياً عن إرادة المجتمع، ولا تمثل تنوعاته، وطموحاته التي تجاوزت جمود السلطة، كما تعبّر بعض الرموز المناوئة للسلطة، ومن جهة ثانية ترميم الصدع الذي يحكم علاقة السلطة بالمجتمع ذي الغالبية الشبابية من خلال إتاحة المجال لحرية الرأي، والصحافة، والحياة السياسية، والتعددية الثقافية، والدينية، والسياسية التي تبرز من خلال فعاليتها عبر أدوات قانونية، هي مؤسسات المجتمع المدني التي لن يكون للعملية السياسية معنى دون وجودها، وفعاليتها، واستقلاليتها، وحقها في طرح مشروعات قد تكون على غير ما ترتئيه السلطة الحاكمة.
ورغم أن الخطاب المناوئ ما عاد ينتظم ضمن بنية مؤسساتية إلا إنه يمكننا أن نلمح تقاطعات بين من يتبنى هذا الخطاب، وبين خطاب السلطة الذي يكرر دوماً عدم قابلية المجتمع للديمقراطية. أو كما عبّرنا سابقاً بأن الحامل الاجتماعي لم يتوفر بعد، دون أن نغفل أن السلطة أصلاً، ومنذ قيامها في 1932م وحتى هذه اللحظة من العام 2015م، لم تعمل على تهيئة الأرضية الخصبة التي يمكن لها أن تبذر تغييراً إيجابياً، عبر مشاريع وخطط مستقبلية، وإن كان تغييراً مؤجلاً لأجيال لاحقة.
نقول أنها لم تعمل على ذلك على الرغم من وجود النظام الأساسي للحكم، وعلى الرغم من مشروع الحوار الوطني الذي لم يلبِّ الحدّ الأدنى من التوافق بين فسيفساء المجتمع في السعودية. ومن شارك فيه هم طبقة رجال الدين الذين لا يمكن من خلالهم صناعة التوافقات المدنية، والعقد الاجتماعي الذي يدير شؤون الواقع، بعيداً عن مقولات العقيدة الاصطفائية، والنزعة الاستئصالية، والفقه الديني الذي ينزع نحو الحدود الصارمة التي تميز بين المؤمن والكافر / والموحد والمشرك / والملتزم والفاسق، والذي يلتزم قانوناً عمودياً فوق تاريخي ينظّم علاقة الإنسان بالآخرة والمصير النهائي، بالضد من قوانين العقد الاجتماعي التي تنظّم علاقة الإنسان بالإنسان والمصير الواقعي.
فقد كان بالإمكان وضع خطط طويلة المدى، وقصيرة أيضاً، لتهيئة الواقع، المكوَّن حسب تعبير حمزة الحسن في كتابه “الوطنية/ هواجس الوحدة والانفصال في السعودية” من مجموعة أقليات، لا تزيد نسبة الأقلية الأكثر عدداً عن 30% بالنسبة لبقية الأقليات، عبر مناهج التعليم المدرسية، والجامعية، واجتراح سياسات تعليمية تعمل على خلق هذه التوافقات ابتداءً، وصولاً لتحقيق حد أدنى من المشترك الثقافي بين مجموع الأقليات، الذي لم يتحقق في الإطار السعودي.
إضافة لما سبق لا بد أن ترفد تلك الخطوات خطوة أساسية هي تحقيق مستويات عليا من الرفاه الاقتصادي والتنمية الثقافية، وتفعيل دور الطبقة البرجوازية المستقلة، بالضد من علاقة الطبقة البرجوازية المقيَّدة بالدولة الريعية، مع كبح جموح الأفكار الدينية التي تستجلب النص الديني الأخروي للتطبيق في مجالات الحياة الدنيوية. الحياة الدنيوية التي تقوم على مجموعة من المصالح الدنيوية المشتركة وكيفية إدارتها، مما أدى لخلط رهيب بين مجالين متباينين على نحو لا يمكن أن يتوافقا في ظل مشروع واحد، فمشروع الدولة بكل حمولته الوضعية لا بد أن ينقضه مشروع الدين بكل حمولته اللاهوتية والعكس صحيح أيضاً.
ما حدث تماماً هو عكس ما ذكر سابقاً، فلو عدنا قليلاً للتاريخ، فقد تبنّت السلطة منذ مراحل تكوّنها الأولى، إيديولوجيا دينية / مذهبية محدَّدة بشكل سيامي لا ينفصم، واعتبرتها أساساً ترتكز عليه السلطة السياسية، وما زالت تراوح في ذات المنطقة، منذ تأسيس الدولة حتى هذه الفترة التي ينبغي التعاطي معها بجدية وبرؤية مختلفة عن مرحلة التأسيس ذات الظروف الموضوعية المختلفة تماماً.
الإيديولوجيا الدينية التي اعتقنتها السلطة واعتبرتها أساساً لا يمكن المساومة عليه كانت عاملاً من عوامل صناعة الذرى العليا للمشروعية عند التأسيس، وما زالت كذلك، فتلك الإيديولوجيا لم تكن غائبة عن خطاب السلطة يوماً، وهذا ما صرح به ولي العهد الراحل، سمو الأمير نايف بن عبد العزيز آل سعود، بأن المملكة ستظل ذات نهج سلفي. تحضر هذه الإيديولوجيا الدينية أيضاً في الأزمات من خلال الفتاوى ذات المضمون السياسي في الداخل، رغم تعقد الواقع وبروز تحديات اجتماعية وسياسية أخرى ما كان لها وجود في تلك المرحلة، والتي ينبغي التعاطي معها بنمط وبرؤيا سياسية محضة تفك الارتباط بين المجال الديني وبينها.
من جهة أخرى فإن هذه الإيديولوجيا الدينية قد تسببت في وضعية إشكالية لبقية الطوائف كالشيعة الاثني عشرية التي تقطن الأحساء والقطيف والمدينة، والتي يتراوح عددها بين المليون والمليون والنصف حسب بعض الإحصاءات غير الرسمية، حسب ما ورد في كتاب فؤاد إبراهيم ” الشيعة في المملكة “، كذلك نجد الشيعة الإسماعيلية والزيدية في نجران، وكذلك الصوفيّة في الحجاز، مما جعل السلطة طرفاً في النزاع بين المكونات المذهبية في المجتمع، بدل أن تكون محايدة في إدارة شؤون هذه الاختلافات والمصالح المشتركة، مما أسهم في أن يكون عامل صناعة المشروعية في تأسيس الدولة عائقاً أساسياً من عوائق تهيئة الحاضن الاجتماعي لأي محاولة تسهم في تحديث البنية السياسية، والاجتماعية التي تشبّعت بمفاهيم دينية، لا علاقة لها بمضمون العلوم السياسية والاجتماعية الحديثة.
يفاقم الوضع تدهوراً أن انتشار تلك المفاهيم في ظل وجود حاضنها الشعبي الهائل، وفي حال أن وجدت لها الإطار القانوني بالكامل، فسوف تسهم في صناعة “دولة”، لا تنتمي لما يعرف بالدولة الحديثة في معجم العلوم الإنسانية. إضافة لذلك فقد نتج عن كون السلطة طرفاً من أطراف النزاع أن تحضر الهويات الدينية والقبلية الفرعية بشكل يفوق حضور الهوية الوطنية. وفي أحيان كثيرة أصبحت تلك الهويات الفرعية على طرف نقيض منها. وهذا ما تجسد بشكل فاقع فيما عرف بأحداث نجران عام 2000 والتي تفاقمت لأسباب طائفية محضة كانت في نزاع مع الهوية الدينية للسلطة السياسية بحمولتها الدينية.
طرح تبني السلطة للإيديولوجيا الدينية بطيف محدد في إشكالات هائلة تتعلق بهوية المواطن ” السعوديّ ” الذي لن يستطيع في ظل هذا التبني أن يعرِّف نفسه بهويته الوطنية التي تماهت مع الهوية الدينية ذات الصبغة السلفية الوهابية، فيصبح تعريفك كمواطن يتحدد بمقدار اقترابك من خطاب السلطة الديني، أو ابتعادك عنه، والدين كما يحضر في السياق الإسلامي، عموماً، وفي سياق السعودية، خصوصاً، ليس عاملاً للوحدة، بمقدار ما كان وما زال عاملاً للفرقة، والمشاحنة، والتباغض، إذا عرفنا أن السياقات الغربية، استطاعت أن تعمل في التراث الديني، نقداً وتفكيكاً ومراجعة صارمة لتراث، دعا زمناً للنبذ والاستئصال، مما نتج عنه حرباً دينية استمرت زمناً، يعتبر قصيراً إذا ما قورن بمقدار التشاحن والتباغض، وحالة اللا سلم واللا حرب بين المكونين الأكثر عدداً من المسلمين، أي السنة والشيعة. دون أن نغفل الأحداث التاريخية التي أدت للإبادات الجماعية التي طالت الأقليات الدينية كالدروز في مصر، والبهائيين في إيران.
هذه المراجعات التاريخية الجادة التي طالت التراث في السياق المسيحي بشكل لم يهادن، أو يقف في منطقة وسطى بين النقد والتبجيل، جعلت الدين لا يحضر اجتماعياً، إلا باعتباره مؤسسة مدنية، تحظى برعاية القانون. دورها لا يتعدى تحقيق السلام الروحي مع الواقع، والوعد بالخلاص النهائي، وإيجاد غاية نهائية للوجود البشري على هذه الأرض، إضافة لبعض الأعمال الخيرية، بعدما فقد الدين متمثلاً في طبقة الكهنوت الديني قدرته التجييشية التي تفاقمت في السنوات الأخيرة في عالمنا العربي والإسلامي بشكلٍ غير مسبوق، خصوصاً بعد سقوط نظام صدام حسين، وولادة نظام المحاصصة الطائفية في العراق. وقد ازداد تفاقماً في ظل الظروف الإقليمية الراهنة، من الاتفاق النووي الإيراني، والحرب على سوريا.
أما في سياق السعودية فلم تفعل السلطة في هذا المضمار إلا إن كرّست شعور المواطنين من الطوائف المختلفة بعدم تمثيل السلطة لها، وجدانياً، وجدانياً لأن التمثيل السياسي لا يتوفر إلا في ظل أنظمة ديمقراطية، أو على الأقل أنظمة محاصصة طائفية، ومناطقية، لا يمكنها إلا أن تؤجل الأزمة لزمن لاحق.
لم تشعر الطوائف وكثير من المناطق بتمثيل السلطة لها وجدانيّاً كونها حددت الولاءات لها باعتباراتهم المذهبية والمناطقية والقبلية، وليس باعتباراتهم الوطنية، فبدل من أن تجمع الأطراف للمركز السلفي، تمدّد المركز في محاولة لابتلاع الأطراف المذهبية الأخرى التي صادف تواجدها تاريخياً في أطراف شبه الجزيرة العربية، باستخدام الصورة التي استخدمها فؤاد إبراهيم في كتابه الشيعة في السعودية. مما جعل المكونات المذهبية في حالة صراع دائم، أو بكلمة أكثر تحديداً، في حالة رفض كامن يتخذ شكلاً من أشكال القبول، أو المهادنة، أو الانكفاء، ومزيد من التقوقع على الذات. هذا الشكل من القبول سرعان ما يتكشّف عن رفض ودفاع مستميت عن الخصوصية المذهبية في مواجهة السلطة ذات الحمولة الدينية السلفية.
ورغم أن الدين يظل في حالات نادرة جداً عاملاً من عوامل الوحدة الوطنية، كما يشير المؤرخ الفارسي أروند إبراهميان، في كتابه ” تاريخ إيران الحديثة ” في تناوله لتجربة الانتقال الذي تم لإيران من دولة يحكم مناطقها الإقطاع، إلى دولة حديثة، في عهد رضا شاه بهلوي. إلا إنه في المناطق ذات التنوع المذهبي الحاد سيعتبر عاملاً من عوامل الحرب الأهلية.
خطاب السلطة الديني لم يجابه بخطاب مغاير من قبل من يتبني خيار المناوأة للسلطة السياسية، فالسلطة التي تحضر بحمولتها الدينية، تقتضي وجود مناوأة ترفض شتى أشكال التديين للسياسة، أو إسباغ المشروعية الدينية على العملية السياسية الدنيوية، أو جعل الدين مكوِّناً من مكوِّنات الهوية، أي تتبنى خطاباً علمانياً لا يمكن أن تتأسس الديمقراطية إلا على أرضيته البشرية الوضعية، لكن ما حدث أن التيارات التي تشكلت، في غالبها، كانت تتبنى خطاباً دينياً، كما تكرّس في أدبيات منظمة الثورة الإسلامية في شبه الجزيرة العربية، أو ما عرف بتيار الإمام الذي يستقي أدبيات الثورة الإسلامية في إيران الخميني، أو لجنة الدفاع عن الحقوق الشرعية، أو الحركة الإسلامية للإصلاح، وما زال الخطاب المناوئ الذي تفكك تقريباً يقف على ذات الأرضية الدينية، وإن لم يتشكل ضمن مؤسسة لها هيكليتها ورموزها وأهدافها كما كان الخطاب المناوئ سابقاً ( باستثناء جمعية الحقوق المدنية والسياسية في السعودية / حسم ). أي أنها تبنت خطاباً مناوئاً في الضد من السلطة، ظاهرياً، لكنها في العمق تتبنى خطاباً، لا يمكن له أن يشكل هوية جامعة، تجمع المكونات كافة، بما فيها السلطة الحاكمة حالياً.
ما ينطبق على العامل الديني، نجده ينطبق تماماً على طبيعة المجتمعات المتنوعة داخل إطار السعودية، التي تشترك في طبيعة العلاقة بين أفراد المجتمع الواحد، فالبنية الأساسية للمكونات جميعها أنها تشترك في الطبيعة البطريركية الجمعية، فالفرد لا يحضر إلا باعتباره عضواً في جماعة القبيلة كنظام اجتماعي، أو مؤمناً في جماعة الطائفة، كنظام ذي طبيعة دينية، يحضر اجتماعياً في بعض المناطق، أكثر من كونه حاضراً على المستوى الديني.
هذه البنية الاجتماعية هي مما يتعارض حتماً مع فكرة الديمقراطية، التي تنحو لتكريس النزعة الفردية، والتي تمتلك حرية الاختيار، والمسؤولية الفردية، وحس الالتزام، سواء كان اختياراً سياسياً من خلال آلية الاقتراع الديمقراطية، والحق في التصويت، أو المعارضة القانونية لمشروع من مشروعات السلطة الحاكمة، أو اختياراً أيديولوجياً من خلال تبني خياراً فلسفياً، وثقافياً مغايراً للتوجه السائد ضمن إطار القبيلة / الطائفة، اختياراً يمكن له أن ينتظم بعد ذلك ضمن مجموعة منظمة، تحت مظلة القانون والدستور. أي أن البنية الأساسية للمجتمعات المكونة تنحو لتكريس الهوية في مستواها العمودي المتوارث، بدل أن تنحو ناحية الإيديولوجيا في مستواها الأفقي المكتسب على أساس فردي محض.
هنا تحديداً، يحضر بشكل دال كلام المسؤول الذي يشير بأن المجتمع لم ينضج بعد لتطبيق الديمقراطية، فالديمقراطية لا تتأسس إلا بالخروج من الهوية الفرعية التي تمتلك مقداراً كبيراً من الثبات، نحو خيارات مكتسبة، يمكن لها أن تعمل على تغيير لعبة الأقلية والأكثرية، فالشيعة مثلاً، أو الصوفية ستظل ذات نسبة محددة، لن تتغير إلا قليلاً عبر زمن طويل غالباً، تعمل عدة عوامل في ذلك، لكن الخيارات المكتسبة يمكن لها أن تقلب الأقلية لأكثرية من خلال التحالفات والتكتلات بين مكونات عدة. فتصبح الممارسة الديمقراطية خاضعة لمدى نجاح جهة ما في تكريس مشروعاتها، وقدرتها على تعميم خطابها، وعقدها لتحالفات وتكتلات تنضوي ضمن مشروع ما. وهنا يقف الخطاب المناوئ على ذات الأرضية التي تقف عليها السلطة، فكلا الخطابين لا ينزعان لتكريس مفهوم الفردية بدلاً من مفهوم الجماعة القبلية / الطائفية.
ومن خلال ذات البنية البطريركية يحضر أحد الموضوعات الأساسية في المجتمع السعودي، وهو موضوع المرأة، ضمن مجتمع القبيلة، أو الطائفة الدينية، المرأة باعتبارها كياناً مستقلاً، وباعتبارها جسداً متحرراً من سطوة الجماعة التي تنزع لاعتبارها تابعاً، أو ملكاً خاصاً من توابع الرجل، أو أشيائه، من خلال مفهوم الولي ذي الأصل الديني الذي يحتكر شرعية علاقة الجسد بالأشياء من حوله، أو بأي جسد آخر خارج إطار ما تم التواضع عليه بأنه علاقة شرعية.
تحضر الجماعة أيضاً بتكريس سلطتها من خلال تحديد علاقات الزواج في إطار القبيلة نفسها، أو القبيلة والقبيلة التي تتناسب في المستوى الاجتماعي مع القبيلة الأولى، أو في إطار الطائفة الواحدة للرجل والأنثى، إذا أخذنا في الاعتبار أن الطائفة تحضر كجماعة اجتماعية كما ذكرنا سابقاً. وهنا حضرت السلطة عدة مرات من خلال السلطة القضائية والتنفيذية كعامل من عوامل النزاع بين المكونات من خلال أحداث ما عرف بالطلاق لعدم تكافؤ النسب، وتدخّلها فيما يعتبر شأناً اجتماعياً محضاً.
يحضر موضوع الجسد كركن من الأركان الأساسية التي لا يمكن المساومة عليها، فتجاهلها يؤدي لانهيار بناء الديمقراطية كاملاً، على خلاف الخطاب المناوئ الذي يرى الديمقراطية في صندوق الاقتراع، والانتخابات، والحقوق السياسية، ولكنه يرفضها، أو يتجاهلها، أو يصمت عنها تماماً، على مستوى سلوك الجسد، فالإنسان الذي لا يمتلك حق تقرير مصير الجسد، لا يمكنه تقرير مصير الواقع، فالديمقراطية كما يعبر جورج طرابيشي في كتابه “في ثقافة الديموقراطية” قائلاً إنها “نظام للدولة، لكنها قبل ذلك ثقافة للمجتمع”. أي أن من لا يمتلك حق تقرير وانتخاب تصرفاته الجسدية لن يكون بالأولى مخوّلاً في حق تقرير مصير الدولة، والانتخاب، والتصويت، فالديمقراطية تعني الحس، والوعي بالمسؤولية، والالتزام، وتكريس نزعة الفردانية بكل ما تتضمنه من حرية، واستقلالية، كصوت مشارك في صندوق الاقتراع، ولا يمكن أن يتحقق ذلك ما لم تكن حرية الجسد أول اشتراطاتها وركناً أساسياً في معمارها.
وبالعودة للطبيعة الاجتماعية، والعلاقة بين المرأة والمجتمع، فهي لا تحضر اجتماعياً وقانونياً إلا باعتبارها تابعاً للرجل، فلا يمكن لها السفر إلا عبر تصريح من ولي أمرها، ولم تتوفر لها هوية وطنية إلا في السنوات القليلة الماضية، التي تعتبر وثيقة شكلية لا تحقق لها استقلالاً قانونياً فعلياً، ولم يسمح للمرأة للآن بحقها في قيادة السيارة، على الرغم من كونها عضواً مشاركاً في مجلس الشورى السعودي، إلا أن التغيير الاجتماعي، وتهيئة الأرضية من قبل السلطة، لن يتم عبر حق ترشحها في المجالس البلدية، أو تعيينها كعضو في مجلس الشورى، بل إن حق ممارستها للقيادة، إضافة لتحقيق استقلالها القانوني سيحقق تهيئة واسعة لأي عملية تحديث في طبيعة المجتمعات المتنوعة في السعودية، تماماً كالخطوة التي فرضت تعليم المرأة عبر مدارس نظامية رسمية.
ومما يدل دلالة كاشفة على الصورة الذهنية التي تمثلها المرأة في الوعي الديني، ما نجده في تطبيقات مؤسسة هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر التي تطارد عبر الطرقات والمطاعم والمتنزهات أي ممارسة، تجدها خارج الإطار المحدد تحديداً دقيقاً لسلوك المرأة المسلمة، من حيث زيها وملابسها واختلاطها بالرجل الذي يكاد يكون محظوراً في المجال الاجتماعي العام في كثير من مناطق السعودية.
هذه المؤسسة تمارس نشاطها وفعاليتها بالانطلاق من الخطاب الديني المتعلق بالعلاقة بين الرجل والمرأة، وبنظرة متأملة في خطاب هذا الوعي نجد أنها لا تحضر إلا باعتبارها جسداً فاتناً، ودنساً شيطانياً، وناقصة عقل ودين، لا بد من مراقبته على الدوام، فهي سهم من سهام إبليس، وهي تشكل النسبة الأكبر من أهل النار، والنتيجة أن من تحمل هذه الصفات أخروياً، لا بد من أن تحمل ـ دنيوياً ـ قدراً قد يتضاعف أو يتناقص حسب الظروف المحيطة، ولهذا نجد هذا الوعي يتضاعف في المناطق النائية التي تتضافر عوامل البداوة والعزلة الثقافية في مضاعفة هذا الوعي التقليدي، بينما يقل نسبة في المناطق الساحلية ذات الكثافة السكانية التي تستقطب كثيراً من الجاليات العربية والغربية مما أدى لتنوع ثقافاتها.
هذا البعد يعتبر بعداً أساسياً، ومركزياً، لا يمكن دونه الحديث عن أي مشروع للتحديث والديمقراطية وحقوق الإنسان، دون أن تتحقق المقدمات الضرورية اللازمة، والظروف الموضوعية الطبيعية، التي تسهم في بناء مشروع متكامل لتحديث البني السياسية والاجتماعية والثقافية في السعودية، التي لا يمكن أن تطبق الديمقراطية كآلية دون تحقق جوهرها وأسسها المركزية.
ذلك أن تطبيق الديمقراطية دون توافر جوهرها وثقافتها سيسفر عن ديمقراطية هجينة، لن تؤدي إلا إلى تكريس الراهن، وإعادة إنتاج البنى التقليدية، كالتمثيل على أساس طائفي، مثلاً، أو تأبيد وضع المرأة في المجتمع، باعتبار رغبة الأغلبية الساحقة من الشعب، مما يعني استخدام آليات الديمقراطية في قتل مشروع الديمقراطية.
أي أن مشروع الحداثة، وعملية التحديث التي يمكن لنا من خلال العوامل السابقة، وغيرها من عوامل أخرى، لم نتطرق لذكرها هنا، كالحاضنة الشعبية للتيارات الجهادية المسلحة والتي كشفت تفجيرات القديح والدمام وعسير مؤخراً عن عودتها مجدداً، إضافة لنمط التعليم الذي يرتكز على تلقين الحقيقة الدينية المطلقة، بالضد من تفعيل منطق البحث والارتيابية الفلسفية، وتعددية الحقائق، إضافة للدور الكاسح للمساجد، والخطب الدينية، وأيضاً من خلال خطاب السلطة، والخطاب المناوئ الذي يقف على ذات الأرضية الإيديولوجية الدينية أن نشتق من عبارة يورغن هابرماس الشهيرة “أن الحداثة مشروع لم يكتمل بعد” بأن نقول بأن الحداثة في السعودية مشروع لم يبتدئ بعد.